فلك وعلم الكونيات

تلسكوب مصفوفة الكيلومتر المربع

نافذة مفتوحة على حافة الكون

ناقشت مجموعة من علماء الفلك في اجتماع احتفالي عقد عام 1990 أهمية الكشف عن أول النجوم التي تكونت في الكون. إن هذه النجوم موغلة في القدم ويحتاج ضوؤها إلى نحو 13 بليون سنة للوصول إلى الأرض (أي إن بعد هذه النجوم عن الأرض يساوي 13 بليون سنة ضوئية)، وهي كما يقول بعض الباحثين موجودة عند حافة الكون.

تلسكوبات عملاقة

ذكـــــر الفلكي البريطانـــي ويلكنسون (P. Wilkinson) أن رؤية تلك النجوم بحاجة إلى استخدام تلسكوب راديو مساحة صحنه الجامع للإشعاع تساوي كيلومترا مربعا، أي مليون متر مربع. وتعادل هذه المساحة الكبيرة تقريبا مساحة 200 ملعب لكرة القدم. إن حساسية مثل هذا التلسكوب العملاق تزيد بأكثر من 50 مرة عن حساسية أفضل التلسكوبات الموجودة، وسرعة مسحه للسماء تزيد بنحو 10 آلاف مرة عن سرعة مسح التلسكوبات العادية. كان التلسكوب الموجود في بورتوريكو الذي مساحة صحنه تساوي 73 ألف متر مربع هو أكبر التلسكوبات في ذلك الوقت.

وقد بدأ العمل الجدي لمشروع التلسكوب العملاق أثناء اجتماع الاتحاد الدولي لعلوم الراديو عام 1993، وذلك بتشكيل مجموعة عمل لدراسة وتطوير الأهداف والمتطلبات التقنية للتلسكوب. وتطورت الأمور بتوقيع اتفاقية تفاهم بين ثمانية معاهد وجامعات من ست دول للعمل والتنسيق لبناء التلسكوب الذي سمي تلسكوب مصفوفة الكيلومتر المربع (SKA telescope ). وتقرر في اجتماع الاتحاد الدولي لعلم الفلك في جامعة مانشستر عام 2000 تكوين هيئة إشراف وإدارة للمشروع، وطورت اتفاقية التفاهم عام 2007 لتضم 20 دولة، وتقرر أن تكون جامعة مانشستر مقرا لهيئة الإدارة والإشراف على المشروع. تقدمت عدة دول بمقترحات لبناء التلسكوب على أراضيها، وشكلت لجنة فنية خاصة لدراسة تلك المقترحات وإجراء أبحاث وتجارب عملية لدراسة المواقع المقترحة، وتقرر بعد دراسة مستفيضة عام 2012 أن يبنى التلسكوب في موقعين: الأول خاص بالترددات المتوسطة والعالية ومكانه في صحراء جنوب أفريقيا، والثاني خاص بالترددات المنخفضة ومكانه في صحراء أستراليا الغربية.

تشرف على التلسكوب حاليا مؤسسة (SKA – Organization) مكونة من عشر دول، وهي مفتوحة لانضمام دول أخرى.والمؤسسة شركة بريطانية خاصة غير ربحية. ويشارك في الدراسات والتصاميم والعمل الفعلي في بناء التلسكوب أكثر من مئة مؤسسة من 20 دولة.

تلسكوب جنوب أفريقيا (SKA SA) 

حصلت جنوب أفريقيا – لأسباب فنية بحتة – على نصيب الأسد من مشروع التلسكوب. وكانت الحكومة في جنوب أفريقيا قد بدأت ببناء تلسكوب تجريبي قبل اختيارها لبناء التلسكوب وذلك لإثبات قدراتها وإمكاناتها العلمية والفنية. و سمي التلسكوب التجريبي بتلسكوب (KAT-7 telescope) ويتكون من سبعة صحون لاقطة قطر كل منها يساوي 15 مترا. وتقرر لاحقا زيادة العدد ليصبح 64 صحنا لاقطا فيما سمي بتلسكوب MeerKAT الذي اعتبر جزءا من تلسكوب مصفوفة الكيلومتر المربع في جنوب أفريقيا. واكتمل بناء 16 صحنا منها عام 2016 وبدأت العمل بنجاح كبير. سجل التلسكوب أول صورة لجزء من السماء (نحو 0.01 % من السماء) حيث ظهر في الصورة 1300 مجرة، علما بأن العدد الذي كان معروفا قبل ذلك هو 70 مجرة فقط. يشكل هذا العدد نحو %5 من المجرات الموجودة فعلا، والتي اكتشفها التلسكوب الجديد.

يعتقد العلماء أن المادة العادية المشعة المعروفة في الكون تساوي فقط %5 من مادة الكون، وأن بقية المادة غير مشعة. وأطلق عليها اسم مادة داكنة (مظلمة، معتمة). وتعود أهمية الاكتشاف الجديد لبيان أن المادة قد تكون موجودة ولكن حساسية التلسكوبات المستخدمة ليست كافية للكشف عنها. وربما لا نضطر عند استخدام التلسكوب الجديد الفائق الحساسية إلى افتراض وجود مادة داكنة غير مشعة في الكون. سيصل عدد الصحون اللاقطة للأشعة مع انتهاء المرحلة الأولى لبناء التلسكوب عام 2023 إلى 200 صحن بتكلفة تقدر بنحو 650 مليون يورو. ومع انتهاء المرحلة الثانية عام 2033 فإن العدد سيتضاعف أكثر من عشر مرات ليبلغ نحو 2500 صحن تغطي مسافة 3600 كيلومتر، وستصل بعض الصحون إلى ثماني دول أفريقية مجاورة لجنوب أفريقيا.

أما التلسكوب الثاني في صحراء جنوب أفريقيا فبدأ العمل به عام 2015 بتمويل من مؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية وبتعاون مع كل من جنوب أفريقيا وبريطانيا وإيطاليا. يتكون تلسكوب Hydrogen )Epoch of Reionization Array HERA) من 352 صحنا قطر كل منها يساوي 14 مترا. وسيكتمل تركيب التلسكوب عام 2019. وسيعمل العلماء من خلال التلسكوب على رسم خريطة ثلاثية الأبعاد لغاز الهيدروجين في بداية الكون، ودراسة تكون أول النجوم والمجرات التي يقدر أنها بدأت بالتكون بعد نحو 400 مليون عام بعد الانفجار العظيم. كما سيتم دراسة تأثير إشعاع النجوم عند تكونها لأول مرة على غاز الهيدروجين. ويتوقع العلماء أن ذلك الإشعاع عمل على إعادة تأين الغاز (reionization).

تلسكوب أستراليا 

حصلت أستراليا على حصتها من التلسكوب لطبيعة صحرائها المثالية لعمل تلسكوبات الراديو ولخبرتها الطويلة في بناء مثل هذه التلسكوبات وإدارتها. بدأت أستراليا في بناء تلسكوبين لإثبات قدراتها وإمكاناتها الفنية والعلمية حتى قبل قرار الهيئة بناء التلسكوب في صحرائها الغربية. يتكــــون التلسكوب الأول واسمه Australian SKA Pathfinder (ASKAP) من 36 صحنا لاقطا للأشعة قطر كل منها يساوي 12 مترا، تشكل هذه الصحون مساحة جامعة للأشعة مقدارها 4000 متر مربع. اكتمل العمل في بناء التلسكوب عام 2012 بتكلفة بلغت نحو 140 مليون دولار. بدأت مرحلة الاختبار مباشرة بعد ذلك، ونشرت أول الأبحاث العلمية من قياسات التلسكوب عام 2016. حقق التلسكوب نجاحا كبيرا ويستخدمه حاليا أكثر من 70 عالما وباحثا من مختلف دول العالم. وتقرر أن يكون هذا التلسكوب جزءا من تلسكوب مصفوفة الكيلومتر المربع.

أما التلسكوب الثاني الذي بني في أستـــــراليا فهو Murchison Widefield Array MWA. وقد أنجز بتعاون دولي بين 13 جامعة ومعهدا من أربع دول هي أستراليا والولايات المتحدة والهند ونيوزيلندا بتكلفة قدرها نحو 51 مليون دولار. استمر العمل في بناء وتطوير التلسكوب ثماني سنوات وتم تدشينه في يوليو عام 2013. ويتكون التلسكوب من 2048 هوائيا لاقطا للأشعة، ترتفع هذه الهوائيات في صحراء أستراليا الغربية ذات الرمال الحمراء مثل غابة كبيرة من أشجار الحديد الصلب. تشكل هوائيات التلسكوب مساحة جامعة للأشعة تقدر بنحو 2000 متر مربع. يمكن لهذه الهوائيات التقاط إشعاعات الراديو ذات التردد المنخفض التي نتجت في بداية الزمان وقبل تكون النجوم والمجرات. ويمكن استخدام التلسكوب أيضا للتنبؤ بحدوث العواصف والشواظات الشمسية (solar flares) قبل حدوثها بساعات. وسيوفر ذلك بلايين الدولارات لما تحدثه هذه النشاطات الشمسية من دمار في أنظمة الاتصالات ومحطات الطاقة في أمريكا وأوروبا وغيرها من القارات. تم تكليف شركة (IBM) العملاقة بتطوير حاسوب وبرمجيات خاصة لهذا التلسكوب، وهو الآن في مرحلة العمل، وقد حقق نتائج مهمة.

سيتم زيادة عدد الهوائيات مع نهاية المرحلة الأولى من تلسكوب الكيلومتر المربع عام 2023 إلى نحو 130 ألف هوائي. وعند اكتمال المرحلة الثانية عام 2033 فإن العدد قد يصل إلى نحو مليون هوائي.

متطلبات وتحديات 

ستعمل آلاف الصحون اللاقطة في صحراء جنوب أفريقيا وبعض الدول المجاورة معا كتلسكوب واحد. وستوصل هذه الصحون بشبكة من الألياف البصرية (fiber optics). وكذلك فإن نحو مليون هوائي في صحراء أستراليا ونيوزيلندا سيتم وصلها معا لتعمل كتلسكوب واحد. وسيتم في نهاية الأمر وصل تلسكوب جنوب أفريقيا مع تلسكوب أستراليا ليكونا معا تلسكوب مصفوفة الكيلومتر المربع. إن طول شبكة الألياف البصرية التي ستستخدم في التلسكوب العملاق قد يبلغ نحو 80 ألف كيلومتر وهي كافية لتلف حول الأرض مرتين. كما أن كم المعلومات التي ستنتقل خلال الشبكة ستزيد عن تلك المعلومات التي تنتقل خلال شبكة الإنترنت العملاقة. إن تحليل هذا الكم الهائل من المعلومات بحاجة إلى حاسوب عملاق تعادل قدرته قدرة 100 مليون حاسوب شخصي.

تقود جامعة هارفارد فريقا دوليا مكونا من 23 مؤسسة كبيرة لدراسة متطلبات عملية تحليل البيانات. ويعمل الفريق على تطوير أجهزة وأدوات (Hardware) وأنظمة تشغيل وبرمجيات (Software) خاصة بالتلسكوب العملاق. وقدرت تكلفة المشروع المبدئية بنحو بليوني يورو، ويعمل فيه حاليا نحو 600 عالم ومهندس من مختلف بقاع الأرض. ويدرس في المشروع 116 طالبا لدرجة الماجستير و52 طالبا لدرجة الدكتوراه.

أهداف بناء التلسكوب

على الرغم من التقدم الكبير في العلوم والمعارف فإن العلماء لم يتمكنوا من فهم وتفسير بعض الظواهر الطبيعية. وهم يأملون أن يتمكنوا من خلال استخدام التلسكوب بحساسيته غير المسبوقة وسرعته العالية من الحصول على معلومات كافية لفهم وتفسير هذه الظواهر. ومن أهم أهداف بناء التلسكوب تحقيق الأمور الآتية:

(1) معرفة أسباب تسارع توسع الكون:

اكتشف الفلكي الأمريكي هابل عام 1923 أن الكون يتوسع، أي يزداد حجمه مع الزمن. وبين تحليل إشعاع صادر عن انفجار مستعر أعظمي (سوبرنوفا) التقطه تلسكوب هابل نهاية القرن الماضي أن معدل توسع الكون الآن أكبر مما كان في الماضي.إن هذا يدل على أن توسع الكون يتسارع مع الزمن. وهذا التسارع بحاجة إلى قوة، وهي غير معروفة. اضطر العلماء لافتراض ما أسموه بالطاقة الداكنة لتعمل عمل القوة المجهولة. وفي الحقيقة فإن طبيعة هذه القوة أو الطاقة غير معروفة، ولم يتمكن أحد من الكشف عنها بصورة تجريبية. ويأمل العلماء باستخدام التلسكوب لدراسة تطور وتغير نشاط النجوم والمجرات، و مسح ودراسة توزيع الهيدروجين في الكون، معرفة سبب تسارع توسع الكون وطبيعة الطاقة الداكنة إذا ما كانت موجودة فعلا.

(2) البحث عن الحياة في الكون:

إن قضية وجود الحياة – سواء بصورتها البسيطة أو الذكية المتطورة – في أمكنة أخرى من الكون من أهم القضايا التي شغلت الفكر الإنساني منذ القدم. كانت مهمة مركبتي الفضاء الأمريكيتين فايكنغ(Viking) خلال سبعينيات القرن الماضي أولى محاولات البحث عن الحياة على سطح كوكب المريخ. وتوقع بعض العلماء في ذلك الوقت مشاهدة بعض الأحياء البسيطة من خلال كاميرات المركبة. وبعد ذلك أرسل عدد كبير من مركبات الفضاء إلى المريخ دون أن يتمكن العلماء من حسم موضوع الحياة هناك. يأمل العلماء بالبحث عن الحياة بصورتها البسيطة في الكون مستخدمين التلسكوب الحساس، وذلك من خلال الكشف عن المركبات العضوية المعقدة في الكواكب والمذنبات والسدم وفي فضاء ما بين النجوم.

إن حساسية التلسكوب الكبيرة وسرعته الفائقة في المسح ستساعدان على عملية البحث. فالتلسكوب الجديد قادر على التقاط إشارة تلفزيون أو رادار مطار على بعد عشرات السنين الضوئية من الأرض.

(3) فهم تركيب مجرات الراديو:

يوجد في الكون أعداد هائلة يصعب حصرها من النجوم التي تشكل المجرات. وتختلف هذه المجرات في أشكالها وأحجامها وتركيبها. يعرف نوع من هذه المجرات الموغلة في القدم بمجرات الراديو (radio galaxies). تصدر هذه المجرات كميات هائلة من إشعاعات الراديو وأكبر بملايين المرات من المجرات الأخرى. تصدر هذه الإشعاعات عن مركز المجرة ومن منطقتين صغيرتين متناظرتين. تتغير هذه المجرات وتتطور بعد مرور ملايين السنين. وقد تتوقف عن إصدار الإشعاعات في مرحلة ما ثم تعود وتصدرها مرة أخرى. يتوقع العلماء أن يكتشف التلسكوب أعدادا كبيرة جدا من هذه المجرات في مراحل مختلفة من التطور لفهم تركيبها وأسرارها، ولاسيما معرفة سبب صدور إشعاعات الراديو منها.

(4) المجالات المغناطيسية في الكون:

إن المجال المغناطيسي للأرض صغير جدا، ومع ذلك فإنه يعمل على حمايتنا من الإشعاعات الكونية، وقد استخدم في الماضي لتحديد الاتجاهات وخاصة في الصحراء. يوجد مجال مغناطيسي لجميع الأجرام السماوية، وبعض هذه المجالات أكبر ببلايين المرات من مجال الأرض المغناطيسي. يمكن دراسة المجالات المغناطيسية للأجرام السماوية من خلال تأثيرها على الإشعاع، إذ إن المجال المغناطيسي قد يؤدي لتشقق (split) بعض الخطوط الطيفية، ولدوران مستوى الاستقطاب للإشعاع (plane of polarization) بزاوية يعتمد مقدارها على شدة المجال المغناطيسي. ويمكن من خلال ذلك تحديد مقدار وخواص المجالات المغناطيسية. ويأمل العلماء رسم خريطة ثلاثية الأبعاد للمجالات المغناطيسية في الكون وذلك لتحديد تأثيرها في تطور النجوم والمجرات، ومن ثم تأثيرها في تطور الكون.

تنهار النجوم بعد نفاد وقودها النووي وتتحول إلى أجرام سماوية غريبة الصفات.

تتحول جميع مادة بعض النجوم إلى نيوترونات بعد الانهيار وتسمى بالنجوم النيوترونية. تمتاز هذه النجوم بكثافة عالية جدا تساوي كثافة نواة الذرة، ولها مجال مغناطيسي أكبر من المجال المغناطيسي للنجوم العادية بملايين المرات. يصدر عن النجم النيوتروني إشعاع كهرومغناطيسي على امتداد محوره المغناطيسي، ومع دوران النجم حول نفسه بسرعة فائقة فإنه يبدو لنا على الأرض كساعة كونية غاية في الدقة.يطلق على هذا النوع من النجوم أحيانا اسم نباض (pulser). يخطط العلماء لدراسة أعدادا كبيرة من هذه النجوم لفهم تركيبها وتفسير خواصها الغريبة. ويمكن استخدام هذه النجوم لفحص النظرية النسبية العامة إذ إن قوة جاذبيتها كبيرة جدا. ويمكن استخدام التلسكوب أيضا لدراسة أمواج الجاذبية التي تنبأ بها آينشتاين وتم الكشف عنها حديثا.

belowarticlecontent
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

I agree to these terms.

زر الذهاب إلى الأعلى