نقص الانتباه وفرط النشاط.. اضطراب طفولي يزداد انتشارا
اضطراب شائع لدى الأطفال يعد من أكثر الحالات النفسية شيوعاً في العالم إذ يبلغ عدد المصابين به نحو 5% من أطفاله، والنسبة تزيد عن ذلك في الدول المتطورة.
د. ناديا رتيب
أكايديمة وباحثة في جامعة دمشق
لطالما وصم الأطفال ذوو فرط النشاط بأنهم مشاغبون وعديمو الالتزام بالقوانين، وإذا صاحب ذلك نقص الانتباه فإن الوصمة ستمتد لتصل إلى وصفهم بالكسالى والأغبياء. وتلازم الأمرين يبدأ في مرحلة الطفولة، ويسبب نموذجا من تأخر النمو العصبي من نوع نفسي. وتصرفات الطفل الذي يعانيهما تجعله غير قادر على اتباع الأوامر أو السيطرة على تصرفاته، أو قد يجد صعوبة بالغة في الانتباه للقوانين، وبذلك يكون في حالة التهاء دائم بالأشياء الصغيرة. والمصابون بهذه الحالة يواجهون صعوبة في الاندماج في صفوف المدارس والتعلم من مدرسيهم، ولا يتقيدون بقوانين المدرسة، مما يؤدي إلى تدهور أدائهم المدرسي، لعدم قدرتهم على التركيز.
تعد هذه الحالة من أكثر الحالات النفسية شيوعاً في العالم؛ إذ يبلغ عدد المصابين بها نحو 5% من مجموع شعوب العالم، والنسبة تزيد عن ذلك في الدول المتطورة. وهذه الإحصائيات جعلت بعض الباحثين يعتقدون أن تركيبة الدول المتطورة وأجواءها قد تكون سببا لهذه الحالة عند شعوبها.
تحد كبير
يشكل التعامل مع الأطفال المصابين بكثرة الحركة ونقص الانتباه تحدياً كبيراً لأهاليهم ومدرسيهم في المدرسة، وحتى لطبيب الأطفال وللطفل نفسه أحيانا. وهذه الحالة لا تعدّ من صعوبات التعلم لكنها مشكلة سلوكية عند الطفل. ويكون هؤلاء الأطفال عادة مفرطي النشاط واندفاعيين ولا يستطيعون التركيز على أمر ما لأكثر من دقائق فقط.
ويصاب من ثلاثة إلى خمسة في المئة من طلبة المدارس بهذه الحالة، والذكور أكثر إصابة من الإناث. ويمثل وجود طفل مصاب بهذه الحالة مشكلة حقيقية أحيانا للأهل، وحتى الطفل المصاب يدرك أحيانا مشكلته لكنه لا يستطيع السيطرة على تصرفاته. ويجب على الوالدين معرفة ذلك ومنح الطفل المزيد من الحب والحنان والدعم، والتعاون مع طبيب الأطفال والمدرسين من أجل كيفية التعامل معه.
وتساور المخاوف الكثير من الأطباء والأهالي من احتمال وجود تشخيص خاطئ للعديد من الحالات التي تصنف بأنها لأطفال من ذوي نقص الانتباه وفرط النشاط. قد يكون مستوى النشاط المرتفع طبيعيًا تمامًا، ولا يعدو كونه زيادةً في سلوكات الطفولة الطبيعية. وقد يُعزى النشاط المفرط إلى مجموعة أسباب، بما في ذلك الاضطرابات العاطفية، أو اضطرابات وظائف الدماغ. وعمومًا، فإن الأطفال في عمر سنتين يتمتعون بنشاط مستمر، ونادرًا ما يبقون في حالة سكون. وارتفاع مستوى النشاط والضوضاء التي يُحدثها الطفل أمر شائع حتى عمر أربع سنوات. ويُعد مثل هذا السلوك طبيعيًا عند أطفال هذه الفئات العمرية.
وينصح المختصون بضرورة عدم الاعتماد على مدى صبر أو تحمل المُشرف على تنشئة الطفل لتشخيص ما إذا كان مستوى نشاط الطفل مرتفعًا بشكل غير طبيعي أو لا. ومع ذلك، فمن الواضح أن نشاط بعض الأطفال يفوق المتوسط الاعتيادي لدى باقي الأطفال، إذ يترافق النشاط المرتفع مع فترات من قلة الانتباه والاندفاع، فقد يجري تشخيصه على أنه فرط نشاط، ويُعد جزءًا من اضطراب قلة الانتباه وفرط النشاط.
إن توبيخ أو معاقبة الأطفال الذين يكون مستوى نشاطهم المرتفع ضمن حدود النمو الطبيعية عادةً ما يؤدي إلى نتائج عكسية، مما يزيد من مستوى نشاط الطفل. قد يكون من المفيد تجنب المواقف التي تفرض على الطفل الجلوس لفترة طويلة، أو البحث عن مدرس ماهر في التعامل مع هؤلاء الأطفال. إذا لم تساعد التدابير البسيطة، فقد يكون التقييم الطبي أو النفسي مفيدًا لاستبعاد وجود اضطراب كامن، مثل اضطراب قلة الانتباه وفرط النشاط
التكيف المرحلي
لا يتمكن الأطفال الذين يعانون اضطراب قلة الانتباه وفرط النشاط من التخلص من قلة الانتباه، على الرغم من أنهم يميلون إلى أن يصبحوا أقل اندفاعًا مع التقدم في العمر. ومع ذلك، فإن معظم المراهقين والبالغين يتعلمون التكيف مع قلة انتباههم. ويستفيد نحو ثلث المصابين بالاضطراب من الأدوية المُنبهة.
وتشمل المشكلات الأخرى التي قد تظهر أو تستمر في فترة المراهقة والبلوغ كلاً من تدني التحصيل الدراسي، والفوضى (تدني المهارات التنفيذية)، وقلة تقدير الذات، والقلق، والاكتئاب، وصعوبة تعلم السلوكات الاجتماعية المناسبة. ومعظم الأطفال المصابين باضطراب قلة الانتباه وفرط النشاط يصبحون مبدعين ومنتجين، ويمكن للأشخاص الذين يعانون ذلك الاضطراب التكيف بشكل أفضل مع بيئة العمل مقارنة ببيئة المدرسة. وإذا لم يجر علاج هذا الاضطراب في مرحلة الطفولة، فقد يزيد من خطر تعاطي الكحول، أو الإدمان على المخدرات، أو الانتحار.
وعلى الرغم من أنه لم يُكشف إلا عن القليل من خبايا اضطراب نقص الانتباه والتركيز فإن الباحثين تمكنوا من تحديد أهم عاملين ربما يكون لهما تأثير في هذا الاضطراب. أول العاملين هو الوراثة، إذ يبدو أن اضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط ينتقل وراثياً من جيل إلى آخر؛ فقد أظهرت الأبحاث أن واحداً من كل أربعين طفلاً يعانون الاضطراب لديه قريب عائلي واحد، على الأقل، يعاني الاضطراب ذاته. والعامل الثاني هو استعمال مواد تسبب الإدمان والتعرض للمواد السامّة، فالمرأة الحامل التي تدخن تزيد من احتمال ولادة طفل يعاني اضطراب نقص الانتباه والتركيز. ومن شأن الإفراط في تناول المشروبات الروحية وتعاطي المواد التي تسبب الإدمان أثناء فترة الحمل أن يزيد الاحتمالات سوءاً .
فسيولوجيا المرض
تتسم الفسيولوجيا المرضية لاضطراب فرط النشاط ونقص الانتباه بأنها معقدة وغير واضحة، وهناك عدد من النظريات المتضاربة في هذا الإطار. و تبين الأبحاث التي أجريت على الأطفال الذين يعانون ذلك الاضطراب انخفاض حجم الدماغ بوجه عام، مع انخفاض أكبر نسبيا في حجم القشرة الأمامية الجبهية من الجانب الأيسر.
وتظهر هذه النتائج أن الملامح الأساسية لاضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه، التي تتمثل في نقص الانتباه والنشاط المفرط والاندفاع، قد تعكس وجود خلل وظيفي في الفص الجبهي، لكن هناك أجزاء أخرى في الدماغ تتأثر بهذا الاضطراب كالمخيخ. وأشارت الدراسات التي تناولت التصوير العصبي وعلم الوراثة النفسي العصبي والكيمياء العصبية إلى دلائل مشتركة ترجح وجود أربع مناطق عصبية أمامية في المخ يتصل بعضها ببعض تؤدي دورا في الفسيولوجيا المرضية لهذا الاضطراب، وهذه المناطق هي: القشرة الأمامية الجبهية الجانبية والقشرة الحزامية الأمامية الظهرية، والنواة المذنبة اللحاء.
وذكرت إحدى الدراسات أن تأخراً في نمو أنسجة معينة في الدماغ بمتوسط ثلاث سنوات لوحظ بين مرضى اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه ممن هم في سن المدرسة الابتدائية. وأبرز منطقتين حدث فيهما هذا التأخر هما القشرة الأمامية والفص الصدغي، وهما مسؤولتان عن القدرة على التحكم في السلوك والتركيز. في المقابل، لوحظ نمو القشرة الحركية لدى المصابين بذلك الاضطراب بمعدل أسرع من المعدل الطبيعي.