عَرَفَ نـبـيل صيدح مـنذ صغره أنّه يريد أن يمارس مهـنةً في مجال البـحث الـطبي. قال: “كـنـت دائــمًـا مهــتـمـا بالـطـب … مــنـذ أن كـنـت في الــرابـعة من عـمري، أرَدْتُ أن أفــعـل شيـئًـا لمساعدة المرضى”.
شــارفَـتْ مـسـيرةُ صـيـدح المـهــنـية على الـوصـول إلى ختـامها، وقد أمضى فـيها عقودًا يحـــقـق الإنـــجـازات في أحدث مـا تــوصــلـت إلـيه أبـحـاث الـبيـولوجيا العصـبـية والفيزياء البيولوجية، التي كانتْ ذات تأثيراتٍ كبيرةٍ في علاج عشرات الأمراض. عام 2021، مـنـحته مــؤســسـة الــكـويـت للــتـقـدم الـعـلـمي جــائـزة الكويت (في مجال العلوم التطبيقية — العلوم الطبية التطبـيقية) تقـديرًا لإنجازاته طوال حياته العلمية.
نشأ صـيدح في مصر، وقال إن تاريخ عائلته الطبي أثّر في رغبته في العمل مع المرضى وحل المشكلات الطبية المعقدة. قال: “كانتْ جدتي مصابةً بالفصام Schizophrenia، وفي عائلتي الكثير من المصابين بالسرطان”. لذلك، نما لديه اهتماماتٌ محددةٌ في دراسة التنظيم العصبي وتَشَكُّلِ الأورام السرطانية.
حـصل على بكـالوريوس الـعلوم من جـامـعـة الـقــاهـرة عام 1969 ثم انـــتـقل إلى الـولايـات المـتـحدة حـيـث درس في جـامعة جورج تاون Georgetown University. وأكـمـل الدكـتـوراه في بـيــولوجيـا الأعـصـاب في الجــامـعـة نفسها عام 1973.
في الـعـام الذي تلاه، قَـبِـلَ منـصبًا في معهد مونتريال للأبحاث الإكلينيكيّة Montreal Clinical Research Institute (اختصارًا: المعهد IRCM). عندما وصل صيدح إلى المعهد IRCM عـام 1974، تـحـوّل تــركـيزه الـبـــحـثي. قال: “بدأْتُ العمل في الفيزياءالبيولوجية”وأضاف:”كنْتُ أحاول فـهم كيـفية عملة بنى البروتينات المختلفة التي تنظم الوظائف العصبـية”. عمل مديرًا لمخـتبر الكـيمـياء البيـولـوجـية للـغدد الـصم والأعصاب Biochemical Neuroendocrinology Laboratory في المعهد IRCM منذ عام 1983.
وقد وجد صـيدح بـيـئـة عـمل ملائمة في المـعـهد IRCM، إذ قال إنّه يستمتعُ بالتعاون والـعــمـل في بـيـئـةٍ بـحـثـيةٍ إكـلـيـنـيـكيـةٍ. هذه هي السمات المميزة للمعهد IRCM، فبعض أقرب زملاء صـيـدح أطـباءٌ. قال: “آتي بالمعرفة الأساسية عن المرض، ويأتي الأطباء بالمرضى… معا نشكل فريقًا يحيط بجميع جوانب العلاج”.
يُعَزِزُ صيدح وزملاؤُه بفضلِ هذا التعاونِ فهمَهم للأمراض المختلفة، ويطورون الأدوية والخيارات العلاجيّة، ويجرون التجارب الإكلينيكيّة. وقال: “الهدف هو حل المشكلات وفهم الآليات الكامنة وراء الأمراض”.
ألهمَتْه هذه البيئة أيضًا تطويرَ حلولٍ إبداعيةٍ. قال: “أجبرني كوني في معهدٍ للأبحاث الإكلينيكيّة على التفكير خارج الصندوق بدلا من التفكير بصورةٍ بسيطةٍ”. فرؤية المرضى الذين يُعَالَجون في الطابق الأول في المعهد، غير بعيد عن مكتبه، كانت تذكيرًا بأهمية عملِه ومصدرًا دائمًا للتحفيز.
حقّقَ تصميمُ صيدح على مساعدةِ المرضى وتعزيزِ مجاله البـحثي نجاحًا باهرًا له. إذ نَشَرَ عشرات الـدراسـات، وأشرف على أكثر من 150 طالبًا ومتدربًا، وساعد على زيادة الفهم الطبي وتطوير علاجاتٍ للعديد من الأمراض.
كان أحد نـجـاحـاته المـبـكرة مـشاركتُـه في اكـتـشـاف بـيـتا إنـدورفـين Beta-Endorphin البشري عام 1976. ثم في عام 1990، بعد أكثر مـن عـــقــدٍ مـن الجـــهــد، حـــقّـق إنـــجـازاً علمـيًـا و خـارقـاً وجّه بقـية حيـاته المهـنية؛ بدأ كَشْفَ لـغز الإنـزيـمـات الـقــالـبـة Convertase، وهي عائلةٌ جديدةٌ من الإنزيمات الحالّة للبرُوتين Proteolytic. اكتـشف سبعةً من الإنـزيمات القـالبة التـسعة التي حُدِدَتْ حتى الآن.
تـرتبط هذه الإنزيمات بعددٍ لا يحصى من الأمراض، بما في ذلك داء ألزهايمر (تنطق ألزايـمر) Alzheimer’s والـتصلُّب الـعَـصِيـْدِيّ Atherosclerosis والإيـدز AIDS والـسرطـان وأمراض القـلب Heart Disease والداء السكري Diabetes. قال صـيـدح إنه عـمل مـنذ ذلك الحين على طـيــفٍ واسـعٍ من المــوضـوعات لأنه يسمح للنتـائج التي تـوصّل إليـها بأن تـقـوده من مشروعٍ إلى آخر. قال: “تـركـت الإنزيمات توجهني”.
يساعدُ اثنان من الإنزيمات التي اكتشفها بمفرده، وهما إنزيما PCSK1 وPCSK2، على تنظيم بعض الهرمونات المرتبطة بالفصام. إنّ فهم هذه الإنزيمات بمفرده لا يكفي لتقديم حلولٍ فعالةٍ لمن يعانون الفصام، مثل جدّة صيدح الراحلة. لكنه قال إنّ تحديد الإنزيمات “عزز فهمنا”، وستكون ذات أهميةٍ حاسمةٍ في تطوير علاجاتٍ جديدةٍ في المستقبل.
من أكثر اكتشافات صيدح شهرةً هو إنـزيم PCSK9، الذي حدّدَه لأول مـرةٍ عام 2003. يرتبط الإنزيم بِحَالَاتِ فرط كوليسترول الدم العائلي Familial Hypercholesterolemia، أي ارتفاعُ الكوليسترول، الذي يزيد مخاطر الإصابة بأمراض القلب والنوبات القلبية Heart Attack والــسكـتـات الــدمـاغـيـة Stroke. الأبحاث في دور PCSK9 في المـرضى الـــذيـن يــعـــانـون ارتــفـاع الكوليسترول إلى أدويةٍ جديدةٍ لمعالجة هذه المشكلة، وهو ما قد يمكّن من تحسين حياة الملايين في جميع أنحاء العالم.
كان للأبــحـاث على إنــزيـمٍ آخـر في هذه العائلة، هو الإنزيم PC3، تطبيقاتٌ على جائحة كـوفــيـد19- (COVID-19). قـال صيدح: “اتضح أنّه ذو دورٍ رئيسي في تنشيط فـيروس سارس-كـوف 2 (SARS-COV2)”. وأضاف: “تؤدي هـذه الإنـزيمـات الـتـســعــة الــعـديـد من الأدوار”.
كُرِّمَ صيدح في مسيرته المهنية بالعديد من الجوائز تقديرًا لاكتشافاته الرائدة والتزامه بالبحث ورعاية المرضى. وفي رأيه فإن جائزة الكويت من بين أهم الجوائز المرموقة. كل عامٍ، تَمْنَحُ المؤسسة جائزة الكويت للعلماء من أصلٍ عربي الذين يعملون في مختلف المجالات تقديرا لإنجازاتهم. وقال: “لأنني من مصر، فإن الجائزةَ المُقَدَّمَة من دولةٍ عربيةٍ ذات وقع عميق في نفسي”. وأضاف: “لدي جوائز من الولايات المتحدة وكندا وفرنسا، لكن هذه هي الأولى من العالم العربي”.
وأعرب عن أمله بأن يؤدي التكريم إلى فرصٍ جديدةٍ للتعاون مع العلماء في الكويت وأماكن أخرى في المنطقة. قال: “قد تكون هذه فرصةً عظيمةً للعالم العربي للالتقاء ووضع أفكارنا معًا”. في غضون ذلك، يواصل صيدح البحث والمحاضرة والإشراف والنشر – دون أي علاماتٍ على التباطؤ.
قال: “أنا أستمتع بهذا … أستمتع بإحساس الاكتشاف، وبالإثارة، والشعور بأنني أفعل شيئًا لم يفعله أحدٌ من قبل”.
بقلم ماريانا دينين