مسيرة التعدين من عصور ما قبل التاريخ حتى اليوم
د. محمد عبد القادر الفقي
باحث في تاريخ العلوم (الكويت)
عندما يتساءل المرء: متى بدأت عمليات التعدين للمرة الأولى؟ فإن الإجابة الدقيقة عن هذا السؤال لن تكون ممكنة؛ فالبحث عن المعادن رافق الإنسان منذ عصور موغلة في القدم. فقبل بزوغ فجر الحضارة البشرية، استخدم الناس الأحجار والفخار في صناعة بعض الأدوات البدائية التي يحتاجون إليها لصيد الحيوانات البرية وإنضاج الطعام، والدفاع عن النفس ضد الضواري والأعداء. وأقدم منجم معروف هو منجم نغوينيا في إسواتيني (سوازيلاند حاليًّا)، الذي يظهر تأريخه بالكربون المشع أنه يعود إلى نحو 43 ألف عام خلت. ففي ذلك الموقع، استخرج إنسان العصر الحجري القديم (الباليوليثي) معدن الهيماتيت Hematite لصنع المغرّة الحمراء Red Ocher التي استخدمها في أعمال التلوين والصباغة. ويُعتقد أن المناجم التي عُثر عليها في كريزميونكي بهنغاريا، والتي لها عمر مماثل لعمر منجم نغوينيا، هي مواقع استخرج منها البشر البدائيون حجر الصَّوَّان عالي الجودة لاستخدامه في صناعة أسلحتهم وعُدَدِهم وأدواتهم. وقد عُثِر على مناجم أخرى للصوان في شمالي فرنسا وجنوبي إنجلترا. لكن تاريخ التعدين في المناجم الموجودة في تلك المواقع يعود إلى العصر الحجري الحديث، حيث تتبع الإنسان القديم أماكن وجود أحجار الصوان، وحفر الحُفَر والأنفاق للحصول عليها. وفي نحو عام 4500 ق.م. استخدم الإنسان القديم أول فلز عرفه، وهو النحاس، وذلك في أعلى مجرى الرافدين. وبحلول عام 3500 ق.م. تمكن من تعدينه ثم تعدين القصدير، ثم خلط هذين الفلزين معًا لصناعة البرونز، وقد عُثِر في أور بالعراق على أدوات مصنوعة من النحاس يرجع تاريخها إلى 3000 ق.م.
وبعد ذلك عرف الإنسان الكيفية التي يحصل بها على الفلزات الموجودة بالقرب من سطح الأرض. واشتهرت تراقيا (منطقة جغرافية تضم شمال شرقي اليونان وجنوبي بلغاريا والجزء الأوروبي من تركيا) في العالم القديم بمناجم الذهب التي كانت خاماته تستعدن منها قبل ستة آلاف عام. ويحتفظ متحف فارنا ببلغاريا ببعض أقدم التحف الذهبية التي تنتمي خاماتها إلى مناجم تراقيا.
التعدين في مصر القديمة
عُرِفَت الخامات المعدنية واستغلت في مصر منذ عصر ما قبل الأسر الفرعونية، وبخاصة خامات الذهب والنحاس. وجرت أعمال تعدين في مصر في أوائل فترة حكم الأسر الفرعونية منذ 5200 عام. وكانت مناجم الذهب في بلاد النوبة من بين أكبر مناجم مصر القديمة وأشملها وقتذاك. واستخدم المصريون القدماء النار في أعمال تكسير الصخور الصلبة الحاوية للذهب.
واستعدن المصـريون القدماء النحـاس، وتوسـعوا فـى اسـتخراج خامـاته من مناجم سرابيط الخادم ووادي مغارة بسيناء. وما زالت أكوام نفايات الصهر في تلك المواقع شاهدًا على ذلك. وقد عُثِر على مشغولات نحاسية في مقابر البداري يرجع عهدها إلى نحو عام 4000 ق.م.
ومع تزايد الطلب في مصر القديمة على الذهب والنحاس والأحجار الكريمة وخامات الألوان، أرسل الفراعنة بعثات جيولوجية للكشف عنها وتعدينها. وسجل التاريخ أن رئيس إحدى هذه البعثات نقش اسم الفرعون (زت)- أحد ملوك الأسرة الأولى- على صخرة في طريق المناجم بالصحراء الشرقية. كما أن (خوفو) أرسل حملات إلى الصحراء للحصول على المعادن والأحجار، وترك اسمه منقوشًا في مناجم النحاس والفيروز بسيناء.
ونحو عام 900 ق.م. كانت أسرار عمليات صهر خامات الحديد واستخلاص فلز الحديد منها قد شاعت في بلاد الشام. ولم تصل هذه التقنية إلى مصر إلا في عهد الأسرة السادسة والعشرين، واشتهرت بلدتا نوقراطس ودفنة في الوجه البحري وقتذاك بصهر أكاسيد الحديد.
التعدين عند الإغريق والرومان
كانت مناجم الفضة في لوريوم الإيطالية معروفة للإغريق، وهي التي ساعدت على نهضة أثينا. وفي مناجم أخرى، كتلك التي في جزيرة ثاسوس اليونانية، استخرج الباريون Parians الرخام في القرن السابع ق.م. وأسهم اختراع النقد الذهبي في ليديا بآسيا الوسطى في عام 635 ق.م. في ازدهار عمليات التنقيب عن الذهب.
ويُعَد الرومان أول من طوروا أساليب التعدين الهيدروليكي، من خلال استخدام كميات كبيرة من المياه التي يجلبونها إلى المنجم عبر العديد من القنوات، وذلك لإزالة فتات الصخور وغسل الخام بعد طحنه، وتشغيل بعض الآلات البسيطة.
وطبّق الرومان طرق التعدين الهيدروليكي في أعمال التنقيب عن عروق الخامات المعدنية، وبخاصة الذهب والقصدير والرصاص. وكانوا يسخنون الصخور بتسليط النيران عليها، ثم يخمدون حرارتها بتوجيه تيار من الماء عليها، مما يؤدي إلى إحداث صدمة حرارية تتسبب
في تكسير الصخور، وكشف ما بها من معادن. وطوّر الرومان هذه الأساليب في عام 25 م لاستغلال رواسب الذهب الغرينية في إسبانيا. كما استغل الرومان
الفضة الموجودة في معدن الغالينا الصخري في مناجم قرطاجنة وغيرها.
وفي بريطانيا العظمى كان السكان الأصليون يستخرجون المعادن منذ آلاف السنين، ولكن بعد الغزو الروماني لها، ازداد حجم عمليات التعدين فيها بشكل كبير، حيث كان الرومان بحاجة إلى الاستفادة من الذهب والفضة والقصدير والرصاص لاستخدامها في العديد من الأغراض الصناعية. وكان الرصاص مطلوبا بشدة؛ لصنع أنابيب المياه. كما استخرجت الفضة لسك النقود وصنع أدوات المائدة.
وكان ثمة منجم روماني للذهب في دولاكوثي بويلز وظّف فيه الرومان أحدث ما توصلوا إليه من تقنيات التعدين. فقد كانوا ينقلون الماء لأميال عبر نظام من القنوات، ثم يدعون هذا الماء يتدفق لإزالة ما على أرض المنجم من تربة ونباتات حتى تنكشف الصخور الغنية بالكوارتز الحاملة للذهب. وكان الوصول إلى عروق المعدن يمثل البداية فقط، إذ تكسر بعد ذلك إلى قطع صغيرة ليسهل حملها ونقلها إلى العراء فتسحق هناك بشكل دقيق، ثم يوضع المسحوق في أقمشة صوفية، ثم يغسل بالماء، فيتبقى الذهب، الذي يُعَدُّ أثقل وزنًا في قاع القماش الصوفي.
وقد تتبع الرومان عروق الركاز الموجودة تحت الأرض بعد أن أصبحت عمليات التعدين السطحي غير مجدية اقتصاديا. وأنشأوا مسارب خلال الصخور العارية لتصريف السوائل من الحُفَر التي حفروها. كما اخترقوا طبقة المياه الجوفية في بعض المواقع وسحبوا المياه من المناجم مستخدمين الدواليب (النواعير). ففي مناجم النحاس في ريو تينتو بإسبانيا اُستخدمت الدواليب لرفع المياه من قاع المنجم زهاء 24 مترًا. ويحتفظ المتحف البريطاني والمتحف الوطني في ويلز بنماذج لهذه الدواليب.
التعدين في أوروبا القرون الوسطى
شهدت صناعة التعدين تغيرات جذرية في أوروبا خلال العصور الوسطى. ففي أوائل تلك العصور، كان يتم الحصول على معظم المعادن من خلال التعدين باستخدام طريقة الحفرة المفتوحة. وخلال القرن الرابع عشر أدى الاستخدام المتزايد للأسلحة والدروع إلى زيادة الطلب على الحديد، وتحفيز عمليات إنتاجه واستخراجه.
وحدثت أزمة الفضة عام 1465 عندما وصلت جميع المناجم إلى أعماق لا يمكن عندها استخدام التقنيات المتاحة وقتذاك لمواصلة الحفر عن طريق الإسقاط المتواصل للأثقال في مناطق التعدين الجافة.
واستخدمت الطاقة المائية على نطاق واسع، من خلال طواحين المياه في تكسير الخام المعدني، ورفعه من بئر المنجم. وفي عام 1627 اُستخدِم البارود الأسود في أعمال التعدين في سِلْمِكبانيا (سلوفاكيا حاليًّا)، وذلك لتفجير الصخور وكشف عروق الخامات المعدنية. وكان تأثير عمليات تفجير البارود أسرع بكثير من إشعال النيران، وسمح ذلك بتعدين الفلزات والخامات التي لم يكن من السهل الوصول إليها سابقًا.
وغالبًا ما كان الإسبان يستخدمون اختراعات مثل الرحى الحجرية Arrastra لسحق الخام بعد استخراجه. وكانت الحيوانات تدير هذه الرحى.
وكانت المشكلة الرئيسية في مناجم العصور الوسطى هي إزالة المياه من آبار المناجم. فحينما يحفر عمال المناجم عميقا للوصول إلى عروق جديدة للركاز، تصبح مشكلة امتلاء تلك الآبار بالمياه عقبة حقيقية أمام مواصلة الحفر. ولهذا لم تصبح صناعة التعدين أكثر كفاءة وازدهارًا إلا مع اختراع المضخات التي تديرها الحيوانات أو المحركات الميكانيكية.
التعدين في الأمريكتين
خلال عصور ما قبل التاريخ، استخرجت كميات كبيرة من النحاس في بحيرة سوبيريور بأمريكا الشمالية وغيرها. واستخدمت الشعوب الأصلية النحاس المستخرج من تلك البحيرة منذ نحو 5000 عام. وقد اُكتشِفت أدوات نحاسية ورؤوس سهام تعود إلى ذلك التاريخ.
كما استخرج حجر السبج، والصوان، واليشب، والفيروز في أمريكا قبل كولومبوس. وعرف شعب الإنكا الكيفية التي يستخدم بها مناجم الذهب والنحاس والفضة والأحجار النادرة في صناعة الحلي والبرونز وغيرهما.
واستغل الإسبان مناجم الفضة في كل من بوليفيا والمكسيك، وأرسلوا ما حصلوا عليه منها إلى بلادهم.
وفي منتصف القرن التاسع عشر شهدت كاليفورنيا ما عُرِف بحمى الذهب، حيث توافد الناس إليها أملا في الحصول على الذهب. وعندما كان يتم استكشاف مناطق جديدة في الغرب الأمريكي، كان الذهب ثم الفضة هما أول ما يجري التنقيب عنهما وتعدينهما، وذلك نظرا لسهولة استكشافهما وصهرهما ونقلهما.
التعدين في العصر الحديث
كان كشف قوة البخار في أواخر القرن الثامن عشر بداية للثورة الصناعية التي كان لها دور واضح في تطور حرفة التعدين وازدهارها، إذ مكنت من استخراج الخامات المعدنية من باطن الأرض مهما كانت درجة تركيز المعادن فيها ومهما كان مستوى وجودها بعيدا عن سطح الأرض. وقد أنتجتت الثورة الصناعية العديد من آلات التعدين ذات الكفاءة العالية التي أسهمت في سهولة استخراج الخامات من باطن الأرض.
وفي أوائل القرن العشرين، حفزت أعمال البحث عن الذهب والفضة في غرب الولايات المتحدة على التنقيب عن الفحم والمعادن الأساسية. وأصبحت المناطق الحديثة في مونتانا ويوتا وأريزونا ثم ألاسكا هي المورد الرئيسي للنحاس إلى العالم، الذي كان يزداد الطلب عليه لاستخدامه في إنتاج السلع الكهربائية والمنزلية. كما كانت أونتاريو هي المنتج الرئيسي للنيكل والنحاس والذهب.
ومع بداية القرن الحادي والعشرين وتنامي ظاهرة العولمة، انخرطت شركات كبيرة متعددة الجنسيات في صناعة التعدين. وأسهمت التقنيات الجديدة في زيادة الطلب على العديد من العناصر، لا سيما المعادن الأرضية النادرة. وساعد التقدم العلمي على تطوير عمليات التعدين واستخلاص الخامات المعدنية. فظهرت معدات ميكانيكية عملاقة لتكسير الصخور وغربلتها وطحنها واستخلاص ما بها من معادن. كما تطورت عمليات الاختزال الكهربائي للخامات المعدنية الموجودة في شكل أكاسيد أو كبريتيدات. ولا يفتأ علماء التعدين والكيمياء يبذلون جهودهم لتحقيق نجاحات جديدة في استخلاص المعادن من خاماتها بطرق غير تقليدية، مثل استخلاص الذهب من خاماته باستخدام مذيب صناعي، بدلا من سيانيد الصوديوم السام.
اشكرك كثير يادكتور على المعلومات القيمة <واشكر دولة الكويت التى اتاحت لكل العرب التعرف للجوانب العلمية وما تقدمة المؤسسات العلمية العالمية اول باول. تحية واجلال لكل كويتي غيور على الامة العربية والاسلامية.
اشكرك يادكتور مرة اخرى لطرحك ومعلوماتك القيمة.
ولكن لدي استفسار .. لماذا لم يتطرق البحث ل التعدين في حضارات جنوب الجزيرة العربية والتي كان لها الريادة الاولى في عمليات التعدين وما تم نقلة او انتقالة الى حضارات شمال الجزيرة العربية الا الشي اليسير من تلك العلوم.
فيا حبذا لو تم التطرق الى ان هناك في البلاد المنسية التي اسمها اليمن علوم دفنت تحت انقاض البنيان منذ القدم , بحث وحمل علومها ابنائها وقتلهم قاداتها , عرفها المستشرقين الغربيين فنقلوا خيراتها المدفونة مستغلين مكارم اخلاق ابنائها وطيش حكامها اللاوطنيين فمن لاينتمي لهذه الارض لاوطنية له ولا انسانية .
وما زلنا ننتظر انبعاث القائد الوطني من الارض الطيبة . … وسيظل هناك امل من اجل حياة كريمة ..
مع خالص تقديري.