د. نبيل سليم علي
يضع الفعل الطبي شخصاً ما باعتباره مريضاً أمام شخص آخر مشهود له بالقدرة والمعرفة، وعلاج المرضى يعتمد على تلك النظرة الخاصة للعالم المحيـط بنا (الغامض وبالتالي العدائي)، وعلى المكان الذي يعيش فيه الإنسان، وكذلك على إمكان التأثير في المصير، ثم على الطموح الإنساني في التغلب على الألم أو العجز، لذا كان دور غرف العمليات الجراحية مهما في إزالة أسباب الألم والتغلب على عطب أجهزة الجسم. ويعتقد الغربيون – أحياناً – أنهم وحدهم مؤسسو الطب الحديث الذي ساد العالم تدريجياً، وعلى رأسه غرفة العمليات الجراحية. وفي الحقيقة، فإنَّ البشرية كلها شاركت في صياغتها، حيث ساهم كل شعب بحصته من المهـارة ومن بيئته الطبيعية، في ابتكار فن الطب وفن الجراحة، ومن ثم فنون غرف العمليات الجراحية.
ويسهل على المؤرخين الولوج إلى الطب المصري القديم، الذي امتدت ممارسته طوال ثلاثة آلاف عام، مقارنة بالطب السومري، فيذكر هيرودوت أن الأطباء المصريين كانوا جميعاً من المتخصصين. وكما هي الحال بالنسبة إلى كثير من الشهادات المعاصرة يجب أن نزن هذه التأكيدات، فالسيرة الذاتية لعدة مئات من الأطباء معروفة ومشهورة، لكن ليس من بينهم من هو في شهرة (أمنحوتب) الذي عاش في سنة 2800 ق.م، وذاع صيته في الطب على مر العصور، وقد كرم فيما بعد كبطل مطبب، ثم كإله.
وإذا كانت بردية (إيبرز) هي الأكثر شهرة كونها ترجمت قبل غيرها من البرديات؛ فمن الضروري أن نوضح أهمية بردية (أدوين سميث) التي تعطي فكرة عن العقلية الطبية المصرية؛ فهذه البردية التي حفظت جيداً، تعود إلى نحو 3000 سنة ق.م. وربما يكون (أمنحوتب) قد تأثر بها. وهي تعطي وصفاً لغرفة العمليات المصرية القديمة، حيث كانت عبارة عن غرفة مغلقة ومعقمة بالبخور، وتعالج بشكل خاص الحالات المتعلقة بالأمراض الظاهرية مثل التشوهات الخلقية، والأورام و الجروح.
وكان الجراحون يعنون بالأمراض الظاهرية، حيث يتوالى عرض الملاحظات تبعاً لترتيب تشريحي من الرأس إلى القدم، وسنجد طريقة العرض نفسها فيما بعد في كتاب العصر الوسيط الأعلى، وما زالت مصطلحات هؤلاء الأطباء القدامى مستخدمة حتى الآن. ويحتوي كل فصل من الكتاب على وصف لحالة إكلينيكية تعرض بالطريقة نفسها: أولاً يقوم الجراح بالفحص السريري الذي يشتمل على سؤال المريض، ثم الكشف عن موضع الخلل بوسائل بسيطة مثل اللمس، وجس الجرح، وحركية أجزاء العضو، وجس النبض، ثم إعلام المريض بالتشخيص والتعليق على مآله، أي إمكان الشفاء، وأخيراً عرض العلاج.
وصف تشريحي
من دون مغالطة تاريخية، يمكن تقييم وصف الأمراض من الناحية التشريحية والإكلينيكية، الذي ينطوي على مستويين: البسيط والمركب. فمثلاً؛ فيما يخص جراحات العظام، فإنه يسهل التمييز بين الشرخ والصدع والالتواء والكسر المضاعف. ويتضمن العلاج ضماداً قطنياً بسيطاً، أو ضماداً من نسيج صمغي لتقريب شفتي الجرح، أو خياطة هذا الجرح، وتثبيت الكسور بواسطة جبائر خشبية، وخليط من القار والتراب، بعد الإصلاح الجراحي، وهي طريقة تستخدم في علاج كسور العظام الطويلة، كما تستخدم في علاج إصابات عظام الرقبة، وذلك لإبقاء الرأس في وضع منتصب.
وفي مصر القديمة كان (أمنحوتب) أكثر قرباً إلى ابن النفيس أو إلى غي دو شولياك Guy de chauliac (في القرن 13 الميلادي) منه إلى جراحي داريوس Darius الفارسيين (486-522 ق.م)، ما يعني أن قدماء المصريين هم أول من قدم غرفة العمليات الجراحية في التاريخ وأول من وضع أسس العلوم الجراحية.
النظم العلمية للعصر
من المعلوم أنَّ الأطباء القدامى اكتسبوا معارفهم بفضل النظم العلمية لعصرهم، وقد كانت الدراسة طويلة ومكلفة، وكانوا قلة، ولا يمارسون المهنة إلا في المدن الكبيرة، وبأجور مرتفعة، وكان لديهم ميل خاص إلى المحاجات النظرية، يضاف إلى ذلك نفورهم من العمل اليدوي، لذا تركوا لغيرهم – الجراحون – مهمة علاج الحالات التي تتطلب تدخلاً سريعاً وأكثر فاعلية من الوصفات و النصائح.
وبناء عليه، شكل الأطباء و الجراحون – أي أولئك الذين يعملون بأيديهم – مجموعتين منفصلتين تماماً، على العكس من الأطباء العرب الذين رأوا أن الطب والجراحة يشكلان معاً جناحين غير قابلين للانفصال، للفن نفسه، لكن الثورة الفرنسية تداركت الأمر وقامت بإعادة الوحدة بين الطب و الجراحة.
وقد ندهش حين نجد أن فرعاً من فروع التشخيص شديد الاتساع والأهمية مثل علم التشريح ظل بعيداً عن دائرة اهتمام الجراحين، حتى إن أبا القاسم الزهراوي كتب من قبل: «لا جراحة من دون معرفة دقيقة بتشريح الجسم البشري».
بعد ذلك انتهى الجراحون، المنشغلون بالمستقبل، المدهوشون بتقدم الطب، إلى الاستفادة مما كشفت عنه الحروب بوجهها الذي استفادت منه الجراحة، باعتبار أنها فتحت أمامهم أبواب خبرات جديدة ومهمة، وكانت التطورات الأولى في مجال التخدير الذي أصبح منذ عام 1945 أكثر أمناً بغض النظر عن الوقت الذي تستغرقه العمليات الجراحية، حدث ذلك مع اكتشاف الكوراري
(Curare) وغازات التخدير، وأصبح بالإمكان تخدير شخص لمدة تقترب من عشر ساعات من دون أن يشعر أو يتحرك، وحيث لا يستطيع التنفس من دون مساعدة الوسائل الميكانيكية، كما أصبح بالإمكان إيقاف القلب عن العمل أو إعادة تنشيطه حسب الحاجة إلى ذلك، وتعويض الدم المفقود عن طريق النقل الأكثر دقة من الناحية البيولوجية.
داخل حجرة العمليات
عندما تكون الحاجة إلى إجراء عملية جراحية في المخ مثلاً، فإن هناك عدة إجراءات يتم اتخاذها من قبل الطبيب الجراح المعالج قبل دخول المريض لغرفة العمليات، ففي البداية يقوم طبيب الأعصاب وطبيب جراحة الأعصاب بفحص المريض في العيادة الخارجية ويخرجان بقرار حول ما إذا كانت الجراحة مفيدة أم لا. خلال هذه المرحلة يسأل المريض عن تفاصيل الأعراض التي يعانيها، وقد يحتاج إلى بعض الفحوص المختبرية، فيتم سحب عينات من الدم لفحصها في المختبر، ويتعرض المريض لفحص نفسي عصبي للتعرف إلى طريقة التفكير والقدرة على تذكر الأشياء.
ويتم شرح العملية بشكل كامل ومفصل للمريض وعائلته، وعند موافقتهم على إجراء العملية يتم وضع اسم المريض على لائحة الانتظار لإجراء العملية الجراحية، وبالتنسيق مع منسق البرنامج يتم تحديد اليوم الذي ستجرى فيه الجراحة.
وفي يوم دخول المستشفى وقبل إجراء العملية يتوجه المريض إلى قسم الإدخال (الاستقبال) في المستشفى، وهناك يتم ترتيب توصيل المريض إلى قسم جراحة المخ والأعصاب، وعند وصول المريض إلى غرفته في القسم، يتم سحب عينات من الدم منه. وفي اليوم التالي يتم إجراء تصوير المخ بالرنين المغنطيسي، وبهذا يكون قد أصبح جاهزاً لإجراء العملية، ثم يقوم جراح الأعصاب بزيارة المريض وتحديد توقيت إجراء العملية له.
إن اختيار العاملين والفنيين في غرفة العمليات لابد أن يكون وفق معايير معينة، فمثلا يجب أن يكونوا من ذوي الأخلاق العالية والنفوس النظيفة والخبرات الطويلة.