علم الوراثة من حديقة الدير إلى طب الجينات
د. موسى الخلف
اتسمت بدايات علم الوراثة بقيام مجموعة من الناشطين العلميين الهواة بتجارب التهجين النباتي والحيواني، وهم يضعون في أذهانهم الفوائد الاقتصادية الكبيرة التي يمكن الحصول عليها من هذه التجارب، ولا ننسى أيضاً الفضول العلمي لهؤلاء الناشطين، والذي هو الأساس في ولادة علم الوراثة. وأول ما وصل إلينا من أخبار هؤلاء الهواة يعود إلى عام 1843، حينما طلب رئيس أحد الأديرة في منطقة مورافيا Moravia واسمه آبي نابي – وهو أول هؤلاء الهواة – من أحد معلمي الفيزياء ترشيح أحد طلبته اللامعين للالتحاق بالدير، وليخصص وقته للنباتات بغية تحسينها. ورشح معلم الفيزياء الطالب غريغور ماندل للالتحاق بالدير وإجراء التجارب على نبات البازلاء وفهم الآلية الوراثية للتهجين النباتي. وهكذا ولد علم جديد اسمه علم الوراثة.
ولعل ولادة علم الوراثة أقدم بكثير من العالم ماندل الذي يعتبر حالياً الأب الروحي لهذا العلم، ففي الشعر العربي القديم شاعرة تخاطب زوجها الذي هجرها وتحّول عنها إلى بيت آخر لأنها أنجبت له ثلاث بناتٍ، وكان ينتظر منها أن تلد له مولوداً ذكراً، يحمل اسمه، وأنشدت تقول:
ما لأبي حمزة لا يأتينا
يظل في البيتِ الذي يَلِينا
غضبان أن لا نلد البَنينا
تَاللَّه ما ذلــــــكَ في أَيديـــــــــــــــنا
وَإنّما نَأخذُ ما أُعطينا
وَنَحنُ كَالأرضِ لِزارِعينا
ننبتُ ما قَد زَرعوهُ فينا
وعلى الرغم من أنَّ هذه المرأة العربية لم تدرس علم الوراثة الحديث، إذ قالت هذه الأبيات قبل أن يولد مؤسسه ماندل بمئات السنين، فإن لسان حالها ينطق بشكل واضح ومبسط بحقيقة علمية ناصعة، وهي أنها ليست السبب في إنجاب الإناث. وخاطبت زوجها «المئناث» الذي هجرها لاعتقاده الخاطئ بمسؤوليتها عن الإنجاب المستمر للإناث لتقول له بكل ثقة وإصرار، وكأنها كانت قد تخرجت توًّا في أفضل الجامعات التي تُدَرِّس علم الحياة الجزيئي:
وإنما نعطي الذي أُعطينا
وهذه الحقيقة العلمية التي وردت على لسان المرأة لم يتم تأكيدها إلا منذ سنوات قليلة، حيث تبيّن للعلماء أنّ خلايا النطاف الذكرية هي التي تحدّد جنس المولود، لاحتواء بعضها على الصبغي الجنسي الذكري، وبعضها الآخر على الصبغي المسؤول عن الأنوثة. وفي حقيقة الأمر فإنَّ هذا الأمر يثير السؤال الآتي: كيف تمكنت تلك المرأة من النطق بحقيقة علمية مفادها أن تحديد جنس المولود يعتمد على ما يعطيه الرجل فحسب، إذ لا علاقة للمرأة بذلك. وهذا يثير مسائل حول التطورات التي يضعها علم الوراثة في مجال الممكن، وبخاصة بعد التطور المذهل نتيجة التعرف إلى الشفرة الوراثية للجينوم البشري، والتي سيكون لها دور مهم في إحداث تغيير كبير في حياتنا المستقبلية.
نتائج ماندل
وبالعودة إلى ما وصل إلينا عن أهم نتائج تجارب ماندل، فقد برهن أن توريث الصفات من الآباء إلى الأبناء ليس نتيجة لاختلاط دماء الأبوين – كما كان الاعتقاد السائد في ذلك الزمن – والذي يؤدي إلى اختلاط الصفات في الأبناء، بل إن ذلك يعود إلى أن كل صفة من الصفات الوراثية محددة بعاملين (factors) لدى كل من الأبوين، وأن الأبناء يرثون من أبويهم أحد هذين العاملين، وأنه ليس هناك اختلاط في الصفات؛ أي إن كل صفة من الصفات تكون محددة بعاملين اثنين، والأبناء يحصلون على عامل من الأب وعامل من الأم، وبناء على حالة العامل الموروث فإنَّ الصفة ستظهر في الأبناء أو تختفي، إذ إن العاملين إمَّا سائد (غالب) أو متنح (مغلوب). وتم نشر نتائج التجارب التي أجراها ماندل على نبـــات البـــازلاء في عام 1869، ولم يكـــن يومها يعرف ما يسمى بالدنا أو الحمض النووي المنقوص الأكسجين DNA.
أربع مراحل
في تاريخ التطور العلمي نقاط مضيئة يمكن تبيانها من خلال التحوُّل من الوصف الشكلي إلى دراسة المضمون. وتاريخ التقدم العلمي الذي غيَّر علم الوراثة خلال القرنين الماضيين يمكن تشبيهه بحياة الرسام الذي أنجز أفضل اللوحات خلال حياته، وكل لوحة تميز حقبة خاصة في حياة ذلك الفنان. وهكذا فإنَّ علم الوراثة مرّ بمراحل مميزة يمكن تقسيمها إلى أربع مراحل:
المرحلة الأولى
المرحلة الأولى أو المرحلة التقليدية
(1839 – 1941) : تميزت بوصفها الدقيق للظواهر العلمية، وبدأت بالوصف الرائع لبنية الخلية الدقيقة على يد العالم شوان في عام 1839. وتضمنت وصف الصفات الوراثية وكيفية انتقالها من جيل إلى آخر من قبل ماندل. واكتشف خلالها فليمنغ الصبغيات (الكروموسومات) عام 1877.
وفي عام 1911 استطاع ولسون أن يوضح أن المورثة المسؤولة عن مرض عمى الألوان توجد على الصبغي إكس X. وفي عام 1927 شرح ميللولر الآلية التي تحدث فيها الطفرات الوراثية. وفي عام 1946 تم اقتراح النظرية القائلة بأن كل إنزيم في الخلية يقابله مورث معّين.
المرحلة الثانية
المرحلة الثانية أو ما يعرف بالمرحلة الجزيئية الحديثة (1969-1942): امتازت بدراسة المادة الحية على المستوى الجزيئي، وتجلى ذلك بالوصف الدقيق والرائع لذرات المادة الحية، وكيفية تفاعل هذه الذرات والجزيئات بعضها مع بعض لإعطاء الصورة النهائية للمادة الحية، وبدء فهم آلية عملها. وفي بداية الأمر كان الاعتقاد السائد بين العلماء أن المادة الوراثية التي تنتقل من الآباء إلى أبنائهم تكون من البروتينات وليس من (الدنا). وساد هذا الاعتقاد حتى عام 1944، إذ لم يكترثوا بمادة (الدنا) لسبب بسيط مفاده أن تركيبها الكيميائي يتميز ببساطة متناهية، فهو يتكون من أربع قواعد آزوتية (أدنين، غوانين، ثيمين، سيتوزين) وسكر الريبوز المنزوع الأكسجين، وزمرة فوسفات. فقد كانوا يعتقدون أن المادة الوراثية يجب أن تتميز بالتعقيد، ولذلك أهملوا تلك المادة البسيطة التركيب، وركزوا جل اهتمامهم حول البروتينات التي تتميز بأنها أكثر تعقيداً من تلك المادة. وفي هذه المرحلة تم للمرة الأولى إثبات أن الحمض النووي الريبي المنقوص الأكسجين (الدنا)، هو المادة الوراثية وكان ذلك في عام 1944 من قبل العالم آفيري، حيث كان الاعتقاد السائد في ذلك الوقت أن المادة الوراثية هي البروتين، وبالطبع فإنَّ البروتين ليس بالمادة الوراثية لأنه ليس هو الذي يُتوارث من جيل إلى آخر.
وفي الواقع فإن إثبات أن المادة الوراثية هي (حمض الدنا) امتد مدة من الزمن، وشارك فيه كبار علماء تلك الحقبة، كما أنه جاء تدريجياً، ففي عام 1950 اكتشف العالم شارغاف البنية الكيميائية للمادة الوراثية التي أوضح فيها أن العناصر الكيميائية التي يتكون منها جزيء (الدنا) هي أربعة عناصر فقط: أدينين، وغوانين، وثيمين، وسيتوزين، إضافة إلى جزيء فوسفات وجزيء سكر منقوص الأكسجين.
المرحلة الثالثة
المرحلة الثالثة تمتد من 1970 إلى 1996 وتسمى مرحلة تأشيب (الدنا) (Recombinant DNA era): تتميز هذه المرحلة بتطور التقنيات المتعلقة بطرق تحليل الحموض النووية، إضافة إلى عزل ومعاينة عدد كبير من المورثات المسؤولة عن كثير من الأمراض الوراثية التي تصيب الإنسان.
وفي عام 1970 اكتشف العلماء مواد لها طبيعة بروتينية تمت تنقيتها وعزلها من بعض الكائنات الوحيدة الخلية (طليعيات النوى)، وقد سميت الأنزيمات القاطعة أو المحددة (Restriction Enzymes) وأهم ما يميز تلك الأنزيمات قدرتها على كسر أو قطع جزيئات (الدنا) في أمكنة محددة ومميزة على جزيء (الدنا).
وتلك الأنزيمات تقطع (الدنا) بعد أن تتعرف إلى مواقع خاصة ومحددة ضمن جزيء (الدنا).
فمثلاً إذا أخذنا الصبغي رقم 1 وهو أكثر الصبغيات طولاً (200 مليون أساس مزدوج) وحاولنا تقطيعه بأحد الأنزيمات؛ فإن عدد القطع التي يمكن الحصول عليها ربما يبلغ عدة ملايين أو بضعة آلاف فقط إذا كانت المواقع التي يتعرف إليها الأنزيم قليلة التكرار. ولقد ساعد اكتشاف الأنزيمات القاطعة على دراسة (الدنا)، بطريقة سهلة ودقيقة، وساهم بشكل كبير في دراسة المورثات كل على حدة، فقبل هذا الاكتشاف لم يكن ممكناً دراسة (الدنا) بسبب صعوبة التحكم في جزيئات (الدنا) الطويلة.
وفي المدة نفسها التي تم فيها اكتشاف الأنزيمات القاطعة تم أيضاً اكتشاف الأنزيمات الرابطة أو اللاحمة (DNA Ligase). وبفضل ذلك أصبح ممكناً إعادة لحم وربط القطع الصغيرة بعد قطعها، ومن ثم ّ التمكن من إنتاج ما يسمى جزيئات (الدنا) المؤشبة (Recombinant DNA molecule)، أي إنها مؤلفة من (دنا) من مصدرين مختلفين كأن يتم مثلاً إنتاج جزيئة مهجنة من (دنا) إنساني تم ربطها ولصقها بـدنا من جرثومة أو بكتيريا لتكوين جزيئة هجينة، يمكن إدخالها إلى جرثومة صغيرة.
وعندما تتكاثر الجرثومة في وسط مغذٍ فإن (دنا) الجرثومة ككل – بما في ذلك الـ(دنا) الهجين – سيتضاعف بعد كل انقسام خلوي، وبهذه الطريقة يمكن تكثير أو استنساخ الجزيئة الهجينة، والحصول على ملايين بل مليارات النسخ المطابقة للنسخة الأصلية، وهذه العملية تسمى عملية نسخ أو تنسيل الـ (دنا) (DNA Cloning) المراد تحليله أو دراسته.
وفي عام 1977 توصل العلماء غلبرت وماكسام وسانجر إلى طريقة جديدة لقراءة الحروف الكيميائية التي يتألف منها الـ(دنا)، وتسمى تلك الطريقة DNA Sequencing أو سَلْسلة الـ(دنا)، وباستخدام هذه التقانة أصبح ممكناً قراءة السلسلة الكيميائية التي تتركب منها المورثات المختلفة.
وخلال ثمانينيات القرن الماضي أصبح ممكناً بشكل صنعي تركيب أي مورثة بهذه الطريقة. واكتشف هذه الطريقة الدكتور ميليس في عام 1985، وسميت Polymerase Chain Reaction، واختصاراً PCR، أو تفاعل البلمرة التسلسلي. واستخدمت هذه الطريقة بشكل واسع لنسخ الجينات، وبذلك استطاع العلماء تحليل معظم الجينات ودراستها. وفي تلك المدة تم عزل ودراسة عدد كبير من المورثات المسببة لأمراض الإنسان مثل مرض الحثل العضلي (ضمور العضلات) والمورثة التي تسبب مرض تليف البنكرياس الحوصلي. وفي عام 1993 أظهر الباحث فوجيلستين أن سرطان الأمعاء الغليظة ينتج من جراء طفرات خاصة تصيب بعض الأنزيمات التي تكون مسؤولة عن إصلاح الأخطاء أثناء عملية تضاعف الـ(دنا) خلال عملية الانقسام الخلوي، ونتيجة لوجود الخلل في عمل هذه الأنزيمات فإن طفرات كثيرة ستصيب أكثر من مورثة يكون دورها الرئيسي في الخلية هو كبح عملية التسرطن، ولذلك فإن هذا النوع من المورثات يسمى Tumor Suppressor Genes أو المورثات المُبْطِلة للتسرطن. وهذه المورثات تحافظ على النظام الداخلي للخلية وبخاصة ما يتعلق بعملية انقسام الخلية أو التكاثر الخلوي.
وفي حالة السرطان فإن الأنزيمات أو البروتينات التي تقوم بهذا الدور – الذي يتجلى بالسيطرة والتحكم المنظم في الانقسام الخلوي – تكون عاجزة عن أداء وظائفها الطبيعية نتيجة لوجود طفرة وراثية في تركيبها الكيميائي.
المرحلة الرابعة
أما المرحلة الرابعة الممتدة من 1997 وحتى الآن فهي تسمى بعصر المورثات أو Human Genome Era (الحقبة الجينومية): وأهم ما يميز هذه المرحلة هو الاكتشافات المتزايدة لعدد كبير من المورثات وبخاصة تلك المسببة للأمراض الوراثية، وهي التي فتحت الباب أمام معالجة هذه الأمراض بطرق حديثة تعتمد على فهم الآلية التي تعمل بها المورثات. وهذا أدى إلى فرع جديد في العلوم الطبية بدأ يشق طريقه بين فروع الطب الأخرى، وهو ما يسمى الآن بطب المورثات.
وبدأت تلك المرحلة باستنساخ النعجة (دوللي) في عام 1996 من قبل الباحث ويلموت. وفي عام 1999 أعلن الباحث تومسون تمكنه من الحصول على ما يسمى الخلايا الجذعية أو خلايا المنشأ القادرة على إعطاء كل النسج والأعضاء التي يتشكل منها الجسم البشري.
أما التطور الآخر الذي تحقق في هذه المدة فهو الإنجاز المذهل الذي تم الإعلان عنه في عام 2000، والذي تضمن اكتشاف الخريطة الوراثية للإنسان. وفي الرابع عشر من أبريل 2003 أعلِن عن الانتهاء الكلي من قراءة الجينوم البشري. ثم بدأت التوجهات لدراسة المورثات التي لها علاقة بالأمراض التي تصيب الإنسان. وفي السنوات الأخيرة حاول العلماء معالجة الأمراض الجينية المنشأ وذلك باستخدام الجينات المصنعة بطريقة الهندسة الوراثية لتصليح الأعطال الوراثية في كثير من الأمراض، ولكن جميع هذه المحاولات لاتزال في مرحلة تجريبية.