علم التعدين عند العرب .. اكتشافات رائدة ومصنفات موسوعية
د. عبدالله بدران
سكرتير التحرير (الكويت)
أدت الحضارة العربية دورا مهما في رقي البشرية وتطورها، وأسهمت بنصيب وافر في ازدهارها، ولم تكن مجرد جسر عبرت فوقه العلوم والمعارف من الحضارات التي سبقتها إلى الحضارات التي أتت بعدها، بل كانت شاهدا حقيقيا على عصرها، فأثرت فيه بعلومها، وزادت عليها من تجارب علمائها وأفكارهم ونظرياتهم، فخلفت إنجازات علمية في الميادين التطبيقية التي كانت معروفة على مدار مسيرتها، وتركت بصمات جلية دلت ببراهين لا تقبل الشك أنها فتحت آفاقا علمية جديدة للبشرية أسهمت في رقيها وازدهارها.
وكان للعرب دور رائد في علم المعادن والتعدين، والعلوم المرتبطة به؛ فقد أثروا ذلك العلم بتجارب متميزة، وأغنوه بمصنفات موسوعية، واستفادوا منه في تطبيقات كثيرة، وتطرقوا إلى عمليات التعدين وأنواعها وكيفية تنفيذها والنتائج المستخلصة منها. وقد استقى العرب معلومات عن ذلك العلم من الحضارات السابقة، كاليونانية والهندية والصينية، عن طريق الكتب والاحتكاك المباشر.
واشتُهِرَت الشعوب القديمة من سكان الدول العربية لاسيما مصر والرافدين والجزيرة العربية بتجربتها الواسعة في صناعة التعدين، وانتقل تراثها الحضاري إلى سائر شعوب البحر المتوسط، ومن ثم إلى أوروبا. وعلى سبيل المثال، فلقد اكتشفت المعادن، ولاسيما الذهب والفضة والنحاس، في الجزيرة العربية منذ أقدم العصور. وعثرت التنقيبات الأثرية في الخليج العربي على أدوات حجرية تعود إلى العصر الحجري القديم (الباليوليتيك)، أي قبل نحو 50 ألف عام، وممّا عثر عليه أحجارٌ صوانية على شكل حراب وسكاكين، وأخرى على شكل مناجل، مما يدل على أنها كانت تستعمل في تقطيع لحوم الفرائس، أو لحصد المزروعات، أو للدفاع عن النفس.
واهتم سكان بلاد الرافدين بصنع الأدوات والأسلحة التي يحتاجون إليها. وفي أوائل الألف الثاني قبل الميلاد اهتدوا لشيّ الأدوات والألواح مما أكسبها صلابة ومقاومة للتفتت، ثم طلوا بعض تلك الأدوات بطبقة من الزجاج. كما اهتدى المصريون منذ فجر التاريخ لصنع الزجاج، وأتقنوا صناعة الذهب وتصفيحه ولحمه وتحويله إلى أسلاك منذ عصرالأسر القديمة، واستثمروا مناجم النحاس والإثمد المستعمل في صناعة الكحل.
كانت عمليات التعدين في المنطقة العربية كثيراً ما يصاحبها الإخفاق، لكن كان العلماء لا يكفون عن التجربة والمحاولة فيصيبون أحيانا ويفشلون كثيرا. ولقد خلطوا النحاس بمعادن أخرى، لتكسبه القساوة والصلابة وسهولة الانصهار، فبدأ عصر البرونز، وذلك بين الألف الثالث والثاني قبل الميلاد. وعرف السومريون نوعاً آخر من البرونز، واستعملوه على نطاق واسع خلال الألف الثاني قبل الميلاد، وكان يتألف من مزيج من النحاس والرصاص. كما عرف العرب صناعة الحديد التي نقلوها إلى الأمم الأخرى.
خصائص المعادن
عرف العرب المعادن والأحجار الكريمة، وكانت كلمة المعدن في أول الأمر تعني لديهم المنجم. وأول من استخدم الكلمة لتدل على المعنيين هو القزويني (1203-1283م) في كتابه (عجائب المخلوقات). وتحدثوا عن المعادن والأحجار، وصنفوها ووصفوها وصفًا علمياً دقيقًا، كما عرفوا أماكن وجود كل منها، واهتموا بالتمييز بين جيِّدها ورديئها.
وتحدث العلماء العرب عن الأشكال الطبيعية للمعادن، كما توجد في الطبيعة، وعما يطرأ على خصائصها من تغيرات فيزيائية نتيجة لعوامل خارجية. وذكروا أن بعض المعادن تتخذ أشكالاً هندسية طبيعية خاصة بها، ولا دخل للإنسان في تشكيلها، ولربما كان ذلك إرهاصًا لما نسميه اليوم بعلم البلورات. فقد وصف البيروني (973-1050م) بعضها متناولاً تناسق أسطحها وهندسية أشكالها. كما عرفوا البريق واللمعان وانعكاس الضوء في خصائص بعض الأحجار، وحددوا صلابة المعادن.
وعكف العلماء والمختصون العرب على إجراء التجارب ومعالجة المعادن والجواهر بالنار والحوامض والأملاح المختلفة. وتطورت عملية نحت وجوه الأحجار الكريمة وصقلها وعمليات النقش والترصيع ومعالجة العيوب والشقوق والشوائب. وأهم ما توصل إليه العرب هو استخدام الوزن النوعي لدراسة المعادن للمرة الأولى في التاريخ. وشكلت هذه الخطوة طفرة نوعية في تطور علم المعادن؛ إذ نقلته من الدراسة الوصفية إلى الدراسة النوعية التي تعتمد على الأرقام الدقيقة. ومن اللافت تطرق الشعر العربي القديم إلى المعادن، فوصف ألوانها وأشكالها ومظهرها وانتشارها ونشأتها وطبيعة وجودها في القشرة الأرضية ووسائل استخراجها ومعالجتها.
مصنفات التعدين
خلف العرب مصنفات موسوعية في علم المعادن والتعدين والأحجار الكريمة، تطرقت إلى خصائص المعادن وأنواعها وتصنيفها، والعمليات المتنوعة التي تجرى عليها، وكيفي استخراجها، إضافة إلى ذكر المناجم وأمكنتها وكيفية العمل داخلها.
ولعلَّ أقدم نص احتوى على أسماء الجواهر التي تعدن من الأرض هو ما جاء في أمالي الإمام جعفر بن محمد الصادق (702-765م) المسماة (التوحيد)، وذكر منها الذهب، والفضة، والياقوت، والجص (أكسيد الكالسيوم)، والكلس (كربونات الكالسيوم). وأضاف من جاء بعده من العلماء معادن وجواهر مختلفة مما يستخرج من الأرض، حتى بلغ عددها في زمن البيروني نحوًا من 88 جوهرًا.
ويعد الحسن بن أحمد الهمداني (893- 945م) أحد روّاد علم المعادن، وله كتاب مشهور هو (كتاب الجوهرتين)، ويتعلق بمعدني الذهب والفضة من حيث تعدينهما وصياغتهما، وكل مايتصل بهما. أما البيروني فهو رائد من كتب في علم المعادن والأحجار الكريمة، وذلك في كتابه (الجماهر في الجواهر) الذي يضم 45 مبحثا عن اللآلئ والأحجار، منها سبعة معادن، و15 مركباً معدنياً. واستطاع البيروني أن ينقل علم المعادن من مرحلة العلم الوصفي الذي كان يعتمد في الأساس على وصف اللون والصلابة والمكسر، إلى مرحلة العلم الدقيق الذي يعتمد على الأرقام والمعادلات الحسابية. وهو أول من اعتمد الوزن النوعي في دراسة المعادن وتصنيفها. واعتمد في كتابه على مصادر عربية في الأساس، إضافة إلى مصادر يونانية وهندية وفارسية، وإلى نتائج دراساته وتجاربه وقياساته المتنوعة.
ومن المؤلفين أيضا التيفاشي (1148-1253م) الذي ألف كتاب (أزهار الأفكار في جواهر الأحجار)، وابن الأكفاني (ت 1248م) صاحب كتاب (نخب الذخائر في أحوال الجواهر).
وصنف بعض العلماء مؤلفات في علم الجغرافية الطبيعية والإنسانية، وأطلقوا عليها أسماء شتى منها: صورة الأرض، المسالك والممالك، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم. كما أطلق على بعضها اسم الرحلات، مثل: رحلة ابن بطوطة، ورحلة ابن جبير، وكان القصد منها حب الاطلاع على ما في الكون من عجائب المخلوقات ومصادر الثروات وغرائب العادات، إضافة إلى المعادن والأحجار الكريمة والمناجم، وغير ذلك.
واللافت في الأمر أن كتاب (نزهة المشتاق) لمؤلفه المؤرخ الإدريسي (1099-1165م) يصف عددا من المناجم التي يتم فيها تعدين بعض المعادن، ومنها منجم قرب مدينة فرنجولش الأندلسية التي تحتوي على الفضة والحديد والزئبق، فيقول إن منجمها يعمل فيه أكثر من ألف عامل، يتولون عمليات التعدين المتنوعة، وعمقه نحو 250 مترا. كما وصف بعض الكتاب مناجم الذهب والفضة في عدد من المناطق كالجزيرة العربية ومصر.
من الجميل ان نجد شرح علمي مفصل في هذه الصفحة اتمنا ان تضعفو جهودكم الجبارة