عقود طويلة وشغف لا ينضب بكيمياء الأسطح
منذ طفولته في تونس، ظهر اهتمام محمد الهادي المطوسي بالفيزياء والكيمياء؛ في البداية، وفي أثناء محاولته فهم كيف يعمل المصباح الكهربائي، أو كيف يتشكل السراب في الأيام المشمسة الحارة. ولكن هذه التأملات اليافعة، لم تكن كافية لإرضائه، فتوجه لإشباع فضوله الواسع نحو دراسة الفيزياء في جامعة تونس المنار، قبل أن يحصل على الدكتوراه في الكيمياء الفيزيائية من جامعة بيير وماري كوري في العام 1987.
ومع ذلك، فإن الوقت الذي قضاه المطوسي، بوصفه عالماً زائراً في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في منتصف تسعينات القرن العشرين، هو الذي ساعد في توجيهه نحو تخصص في الفيزياء والكيمياء، معروف باسم «النقاط الكمّيّة» Quantum dots، لم يكن يُعرَف عنه الكثير في ذلك الوقت. هذا الشغف الذي استمر على مدى عقود، لم يكن وراء نيل المطوسي جائزة الكويت للعام 2022 من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي فقط، بل أيضاً جائزة الجمعية الكيميائية الأمريكية للعام 2024 في كيمياء الأسطح.
قال المطوسي: «لقد دخلتُ مجال النقطة الكمّيّة الغروية بعد حضوري محاضرة ألقاها [الحائز جائزة نوبل في الكيمياء للعام 2023، مُنجي الباوندي]، عندما كان في ريعان شبابه (وكنت أنا أيضاً شاباً صغيراً). وفي منتصف المحاضرة، فكرت [أستطيع أن أفعل هذا. هذا شيء يمكنني المساهمة فيه]».
ينبع الاهتمام الكبير بالنقاط الكمّيّة (اختصاراً: النقاط QDs) المعروفة أيضاً باسم البلورات النانوية شبه الموصلة، من أن هذه الجسيمات تظهر تأثيرات كمّيّة عند هذه المقاييس الصغيرة المتناهية الصغر. ويمكن استخدام هذه الخصائص، على سبيل المثال، لصنع مصابيح LED، أو خلايا شمسية تعمل بكفاءة أكبر بكثير. في الوقت نفسه، تركز خبرة المطوسي – في كيمياء الأسطح – على الكيفية التي تتفاعل وفقها النقاط الكمّيّة مع الأنظمة البيولوجية. في ورقة بحثية نُشرت في العام 2008، بعنوان «التطبيقات الإكلينيكية المحتملة للنقاط الكمّيّة»، استكشف المطوسي الاستخدامات التي تبدأ من وضع واسمات على الخلايا، إلى الاستشعار الحيوي، إلى التصوير داخل الجسم الحي، إلى التشخيص.
ولكن في حين أن جائزة نوبل الأخيرة في الكيمياء التي مُنحت لمُنجي الباوندي، ولويس بروس، وأليكسي إيكيموف، وضعت النقاط الكمّيّة في دائرة الضوء العلمي، فإن تطويرها استغرق عمراً بكامله. يتذكر المطوسي مؤتمرات عُقدت قبل ثلاثة عقود، في بداية الأبحاث على النقاط الكمّيّة، حين كانت تُخصَّص لهذه الجسيمات ندوة واحدة لا يحضرها إلاّ عدد قليل من المتخصصين.
قال المطوسي: «في العلم، التقدم يحدث ببطء شديد. التفكير في التجربة، ومن ثم تنفيذها، وجمع البيانات، واستيعابها وفهمها. لكن لدى التعامل مع العلم، عليك أن تكون منهجياً، وفي بعض الأحيان تكون المنهجية بطيئة. ولكن هذا يعني أن الأمر تم على نحو صحيح ومدروس… لقد استغرق الأمر ثلاثين عاماً حتى يتمكن المجتمع العلمي من استيعاب الأمر».
إن الصعوبة التي يواجهها معظم الأشخاص العاديين في فهم النقاط الكمّيّة هو استيعاب حجمها النسبي. في ورقته البحثية للعام 2020، التي تحمل عنوان «نقاط كمّيّة مدمجة وقابلة للنقر ومرتبطة ضوئياً ببوليمرات زوتيريونية متعددة الوظائف من أجل التألق المناعي والتصوير داخل الجسم الحي» أدخل المطوسي وزملاؤه نقاطاً كمّيّة فلورية في أجنة ذبابة فاكهة، يبلغ عرضها – بصعوبة – نصف ملليمتر، ومع ذلك، فإن النقاط الكمّيّة الضئيلة، وذات قطر يبلغ 2-10 نانومتر – أو 10-50 ذرة. إذا كبَّرنا أجنة الحشرات متناهية الصغر هذه إلى حجم ملعب كرة قدم، فإن النقطة الكمّيّة المتضخمة بالقدر نفسه لن تزيد على عرض شعرة بشرية واحدة فقط.
يدور أحد الأسئلة البحثية العالقة عن النقاط الكمّيّة حول سُميتها الخلوية المحتملة، أي التأثيرات الضارة التي قد تحدثها النقاط الكمّيّة على الأنسجة الحية، نظراً إلى أنها مشتقة من عناصر سامة، مثل: الكادميوم أو التيلوريوم. لكن المطوسي (ومختبر المطوسي الذي يحمل اسمه في جامعة ولاية فلوريدا Florida State University، حيث يعمل المطوسي أستاذاً في قسم الكيمياء والكيمياء الحيوية منذ العام 2009) كان له دور فعال في حل هذا اللغز. قال المطوسي: «الأمر المثير للاهتمام هو أنه – في كثير من الأحيان – يعتقد الناس أنه نظراً إلى أن شيئاً ما يحتوي على عناصر معينة – مثل الكادميوم أو السيلينيوم – فإنه سيكون ساماً»؛ لكنه يشرح أنه في حال النقاط الكمّيّة، فقد أظهروا أن الأمر كله يتعلق بوظيفة السطح؛ أي الطبقة الخارجية.
قال المطوسي: «تذكر أن هذه البلورات النانوية هي في الأساس قطع من الفلزات لا تستقر إلا في أماكن معينة. إن ما نضعه على السطح، أي ما يعمل كروابط الأغطية – من الجزيئات أو البوليمرات ثنائية الوظيفة – هي التي تؤدي، في بعض الأحيان، أكثر من نصف المهمة؛ لأنها تُعطل الخصائص الإلكترونية للنواة… تلك الروابط السطحية، إذا قمت بتصميمها – هذه الغرويات النانوية – بطريقة معينة، ترتبط بقوة على السطح، ولكنها أيضاً توفر تقارباً مع الوسط المحيط، بحيث يمكنك وضعها في محلول عضوي و/ أو مائي… وهكذا، يمكنك تقليل السُمية وصولا إلى انتفائها، بمجرد التلاعب بطبقة السطح هذه. كلما كانت البلورات النانوية أكثر استقراراً من الناحية الغروية، عمل النظام على نحو أفضل».
حتى بعد العمل على هذا الموضوع، على مدى عقود، مازال المطوسي يشعر بالحماسة تجاه المستقبل الخصب الواعد الذي يتوقع أن يشهده مجاله، وعلى وجه الخصوص، الأبحاث الجارية على الكربينات الحلقية غير المتجانسة N-Heterocyclic carbenes (الروابط الجزيئية التي تظهر تقارباً قوياً للمعادن)، وبلورات البيروفسكايت النانوية (وهي فئة فرعية من بلورات أشباه الموصلات النانوية، المتميزة عن النقاط الكمّيّة)، واستخدام النقاط الكمّيّة في كعوامل لتباين التصوير بالرنين المغناطيسي. قال المطوسي: «في نهاية المطاف، في مرحلة ما، سنحاول على الأرجح صنع مادة مغناطيسية فلورسنتية، أو مادة مغناطيسية بلازمونية ثنائية الوضع؛ حيث تكون لديك نواة لها خاصية فيزيائية معينة، ووكيل التباين الموجود على السطح والمستخدم في فحص التصوير بالرنين المغناطيسي الذي يمكن استخدامه لاكتشاف الرنين المغناطيسي».
ولكن ربما أكثر ما يستمتع به المطوسي، على الرغم من ثراء مسيرته الطويلة، هو إثارة الاستكشاف. وأكثر ما يشعره بالرضا – في مجاله العلمي – هو التعلم المستمر؛ من دون توقف، وكل يوم. يجعله ذلك يشعر بأنه مازال شاباً. قال المطوسي: «قد تمر عشرون عاماً وأنت تعمل في مجال ما، وقد يُساورك الظن بأنك تعرف كل شيء. لكن ليست هذه هي الحال. ستجد نفسك دائماً في مواجهة شيء لست على دراية به، وعليك أن تدس أنفك مفتشاً عن الأمر، وأن تفكر في الأمر مليّاً. وهذا شغف لا ينتهي على الإطلاق. إنه لأمر مدهش حقّاً».
بقلم: جوناثان فيكينز