د. قاسم زكي
هناك ظواهر فلكية شهدتها الحضارات القديمة مازالت تحير العلماء حول كيفية وجودها في تلك الأزمنة الغابرة وكيفية توصل الإنسان القديم إليها، وهي تدل على إبداع أولئك القدماء. ولعل من أهمها الإنجازات الفلكية لعلماء مصر الفرعونية، التي لم يمط اللثام عن جل مكنوناتها بعد.
ومن تلك الظواهر تعامد الشمس على تماثيل الملوك والآلهة داخل أعمق حجرات المعابد الفرعونية في مواعيد سنوية ثابتة، وهي ظاهرة غريبة تدل على مدى التقدم في علوم الفلك و العُمران. هذه الظاهرة تسود معظم المعابد المصرية، لكننا هنا سنتناول أشهرها على الإطلاق؛ وهي ظاهرة تعامد الشمس على وجه الملك رمسيس الثاني (أشهر ملك فرعوني، حكم مصر 67 عاما (1279 ق.م – 1213 ق.م)) في معبده الكائن بأسوان، التي يبلغ عمرها 33 قرنا، وتؤكد ريادة قدماء المصريين في علم الفلك.
وكما العادة في كل عام، فقد تابعت العُيون المشتاقة والأنُفس التواقة (ومنهم كاتب المقال) صباح يوم 22 فبراير الماضي، تلك الظاهرة التي تحدث مرتين في العام، فكيف تحدث هذه الظاهرة وما مغزاها؟
ظاهرة حيرت البشرية
تتعامد الشمس على وجه الملك رمسيس الثاني (Ramses II) داخل معبده بمدينة أبو سمبل السياحية في جنوب محافظة أسوان بصعيد مصر، على الضفة اليسرى (الغربية) لبحيرة ناصر. ذلك المعبد الذي شيده رمسيس الثاني في منتصف القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وبمجرد أن تتسلل أشعة الشمس يضاء هذا المكان العميق داخل المعبد، الذي يبعد عن المدخل بنحو 60 مترًا، وتستغرق ظاهرة التعامد 23 دقيقة. وتحدث تلك الظاهرة مرتين في العام، الأولى مع بداية فصل الزراعة (21 أكتوبر)، والأخرى حين يبدأ موسم الحصاد (21 فبراير). وبعد نقل المعبد من موقعه القديم لإنقاذه من الغرق، أصبحت هذه الظاهرة تتكرر، لكن متأخرة يوما واحدا عن ذي قبل.
وفي الموعد المحدد ومع الشروق وعبر الممر الطويل تصل أشعة الشمس الذهبية إلى هدفها المرسوم لها بدقة في حجرة «قدس الأقداس» ،حيث تتصدر أربعة تماثيل متلاصقة، لتضيء وجه الفرعون رمسيس الثاني أولا، ثم تمثالين آخرين هما تمثال “رع حور آختي” إله الشمس، و”أمون رع” إله طيبة. أما التمثال الرابع فهو للإله “بتاح” الذي يمثل آلهة العالم السفلي (الظلام)، ولا تصل إليه أشعة الشمس.
وتعامد الشمس على وجوه تلك التماثيل مرتين في العام يستند إلى حقيقة علمية فلكية اكتشفها قدماء المصريين، مفادها أن الشمس تشرق من نقطة الشرق تماما و تغرب في نقطة الغرب تماما في يوم 21 مارس كل عام، ثم تتغير نقطة الشرق بمقدار ربع درجة تقريبا كل يوم إلى ناحية الشمال. واستندوا في اكتشافهم هذا إلى أن الشمس تمر على كل نقطة في أثناء شروقها وغروبها مرتين كل عام، وأن المسافة الزمنية بينهما تختلف تبعا لبعد كل نقطة عن نقطة الشرق تماما، وأن تعامد الشمس على وجه رمسيس الثاني يومي 21 أكتوبر و21 فبراير، جاء نتيجة لاختيارهم نقطة في مسار شروق الشمس تبعد عن نقطتي مسارها زمنا قدره أربعة أشهر لتتوافق مع يوم 21 أكتوبر و21 فبراير من كل عام. ثم قاموا بنحت المعبد بحيث يكون اتجاه المسار الذي تدخل منه الشمس من ناحية الشرق من فتحة ضيقة، بحيث إذا دخلت أشعتها في يوم وسقطت على وجوه التماثيل، فإنها في اليوم التالي تنحرف انحرافا صغيرا قدره ربع درجة ولا تصل إلى وجوه تلك التماثيل.
وحتى الآن لم يعثر على أي نص فرعوني يوضح سبب دخول الشمس المعبد مرتين في العام. لكن لو تمعنا في السنة الفلكية المصرية آنذاك، سنرى أنها قُسمت إلى ثلاثة فصول و13 شهرا، والفصل الأول هو الفيضان “آخت” الذي يبدأ في 21 يونيو، والثاني فصل الزراعة “برت” الذي يبدأ في 21 أكتوبر، والثالث هو فصل الحصاد “شمو” الذي يبدأ في 21 فبراير. لذا جعلوا أشعة الشمس تتعامد على قدس الأقداس متوافقة مع أول يوم في فصلي الزراعة و الحصاد، وهما أهم فصلين في حياة المصري عبر العصور.
معبدا أبو سمبل..النسيان والاكتشاف
يعتقد الأثريون أن منطقة أبو سمبل وما جاورها كان لها أهمية كبيرة في عالم الفلك منذ القديم، حيث عُثر بجوارها على أول بوصلة وأقدم ساعة من الأحجار، يرجع تاريخهما إلى نحو خمسة آلاف سنة ق.م. وكان هذا الموقع يضم جبلين مقدسين يفصلهما واد ضيق. واستغل رمسيس الثاني ذلك ونحت لنفسه معبدا في الجبل الجنوبي الكبير ونحت لزوجته معبدا في الجبل الشمالي، واستمر العمل فيهما نحو 20 عاماً.
أما المعبد الكبير فواجهته 35 مترا عرضا و33 مترا ارتفاعا، ويحرس مدخله أربعة تماثيل عملاقة لرمسيس الثاني، يبلغ ارتفاعها نحو 21 مترا، و بجانب سيقانه وفيما بينها تقف تماثيل أمه وزوجته نفرتاري وعدد من أبنائه. ووسط تلك التماثيل الضخمة مدخل عظيم يفضي إلى الصالة الأولى وفيها ثمانية تماثيل للملك وخلفها ست حجرات، ثم الصالة الثانية التي تحوي أربعة أعمدة، ففاصلة مستعرضة تفضي جميعها بعد مسافة قدرها 60 مترا وأربع بوابات متتالية إلى قدس الأقداس التي تحوي تماثيل الآلهة الأربعة (كما وصفناها آنفا). أما المعبد الصغير فلزوجته الجميلة “نفرتاري”، وكان مكرسا لعبادة الآلهة “حتحور” إلهة الحب والجمال والموسيقى، وتصور جدرانه تفاصيل أجمل وأقدم قصة حب ربطت بين قلبي الملك وزوجته الفاتنة.
وطوال الـ24 قرنا التالية طوى النسيان معبدي «أبو سمبل»، وطمرتهما رمال الصحراء إلى أن اكتشفهما في بداية القرن التاسع عشر الميلادي المستشرق السويسري «بوركهارد» Burckhardt؛ الذي زار أبو سمبل في 22 مارس 1813م، حيث شاهد رؤوس تماثيل رمسيس الثاني في واجهة المعبد الكبير. وبعد ثلاث سنوات (عام 1817م) زار المعبد الصغير القنصل الفرنسي “برناردينو دروفـِتي” وشاهد أيضا رؤوس تماثيل رمسيس الأربعة بالمعبد الكبير. ثم أعقبهما المستكشف والمغامر الإيطالي “ جيوفاني بلزوني”الذي استطاع إزاحة الرمال من أمام واجهة المعبد الكبير والدخول إليه والوصول إلى قدس الأقداس في أغسطس 1718م.
وتصيب الدهشة والانبهار كل من يشاهد المعبد الكبير، ويرى بعض الباحثين أنه أعظم بناء صنعه الإنسان على وجه البسيطة في زمانه. وبعد نحو 143 عاما على اكتشاف معبدي «أبو سمبل» جاء تهديد جديد لهما، لكن هذه المرة من مياه بحيرة ناصر التي كانت ستغمرهما تماما عند الانتهاء من إنشاء السد العالي. لكن بناء على دعوة مصرية، تبنت منظمة اليونسكو حملة تبرعات دولية لإنقاذ آثار النوبة. وكانت هناك أفكار كثيرة لإنقاذ المعبدين، جرى المفاضلة بينها لعدة أشهر من الدراسات الفنية والهندسية، وحازت فكرة نقلهما بعد تقطيعهما وإعادة تركيبهما في مكان آخر أكثر أمانا قبول الأكثرية. وبالفعل تولت ست شركات عالمية تنفيذ هذا العمل الضخم.
ونُقل المعبدان إلى موقعهما الحالي في أربع سنوات (1964م – 1968م)، و تضمن المشروع تقطيع المعبدين إلى أحجار كبيرة، ثم رفعها وتجميعها في المكان الجديد، وكان أهم شيء هو الحفاظ على الزوايا الهندسية وعلى ظاهرة تعامد الشمس. وحقق العمال المصريون معجزة حقيقية أدهشت الخبراء الأجانب، حيث قاموا بتقطيع المعبد يدويا إلى نحو 1500 قطعة، بخلاف 330 ألف طن من صخور الجبل الجاثم فوق المعبد، والتي قطعت أولا ميكانيكيا ثم أعيد تركيبها فوق المعبد بعد عمل قبة خرسانية عملاقة ليكون الجبل بنفس شكله القديم.
وكانت عملية نقل معبدي أبو سمبل من أعقد عمليات نقل المباني أو الآثار على مر التاريخ، وكلف المشروع حينها أكثر من 40 مليون دولار، وشارك فيه نحو 2000 مهندس من العالم، ونحو 2000 عامل مصري.
وأدى نقل المعبد إلى تأخر موعدي تعامد الشمس يوما واحدا عن السابق (أصبحا يومي 22 أكتوبر و22 فبراير)؛ وذلك بسبب تغير خطوط العرض والطول بعد نقل المعبد مسافة 180 مترا غربا وبارتفاع 64 مترا.
الزراعة والحصاد لا الميلاد والتتويج
يردد بعض الناس خطأ أن ظاهرة تعامد الشمس تحدث مرتين: إحداهما في يوم مولد الملك والأخرى يوم تتويجه. لكن هناك رأيا مهما ذكره «كينيث كتشن» عالم المصريات الاسكتلندي مفاده أن يوم تتويج الملك يوافق 18 يونيو وليس 21 فبراير. فضلا عن وجود نقوش ورسوم في صالة قدس الأقداس في المعبد تصور موعد خروج الإله «آمون» وفق عقيدة الفراعنة لإعلان بدء موسم الزراعة (في 21 أكتوبر) وبدء موسم الحصاد (في 21 فبراير).