صناعة الآلات الحرارية عند العرب
د. سائر بصمه جي
اهتم المهندسون العرب بصناعة آلات حرارية يكون لها فائدة مباشرة للمستخدمين. ومنها ما يستخدم في طهي الطعام مثل سيخ الشوي البخاري والآلي الذي اخترعه تقي الدين الراصد، ومنها ما يستخدم خلاطا للمياه الباردة والحارة، ومنها ما يستخدم كمبخرة جيروسكوبية تحافظ على وضعيتها الأفقية كيفما تدحرجت. والاختراع الأخير لم نجد له مثيلاً في اختراعات الأمم السابقة. ليدخل بذلك إلى تاريخ الجيروسكوب، الجهاز الذي يستخدم اليوم في معظم الطائرات والمركبات الفضائية والأقمار الاصطناعية ليحافظ على اتجاهها. لذلك رغبنا في أن نشير إليه وإلى ما توصلنا إليه من آلات أخرى ضمن سياقها التاريخي، مستعرضين إنجازات عدد من العلماء العرب في هذا المجال.
أبناء موسى بن شاكر
(القرن 3هـ/ 9م)
قام الإخوة أبناء موسى بن شاكر (وهم محمد وأحمد والحسن) باختراع مورّد آلي Automatic Vender (أو خلاط مائي آلي) يقدم الماء الحار من طرف والماء البارد من طرف آخر لمدة من الزمن، ثم يقوم بالتبديل بينهما. فقد ورد في (كتاب الحيل) قولهم: «صنعة أخرى تفعل ما قدمنا ذكره في هذه الثلاثة الأشكال قبل هذا الشكل، ويصلح أن نعمل ذلك في بزالي (ثقوب) حمام أعني بزالي البارد والحارّ، حتى يكون جميع دهره يسيل من أحد البزالين حارّ ومن الآخر بارد، فإذا مضى مقدار من الزمان ابتدل فيخرج من بزال البارد حار ومن بزال الحار بارد، فإذا مضى ذلك المقدار من الزمان ابتدل أيضاً فعاد إلى ما كان أولاً، وكذلك لا يزال جميع دهره. ويستقيم أن نعمل هذا العمل أيضاً في المواضع التي يكون فيها حمامات وأنهار ماؤها حار وأنهار ماؤها بارد، ونركب بالقرب منها بزالين وتمثالين، والتماثيل أحسن فيكون دهرها أجمع مرةً يجري الماء الحار من فم أحد التمثالين والماء البارد من فم التمثال الآخر، ثم يتبدل فيجري من بزال الحارّ بارد ومن بزال البارد حارّ، فإذا مضى ذلك المقدار من الزمان عاد الأمر إلى ما كان عليه، أو البزالين والتمثالين في هذا المعنى سواء».
لكن محقق (كتاب الحيل) الباحث أحمد يوسف الحسن يرى أنه لم تكن لهذه الآلة فائدة عملية كبيرة في الحمامات العامة؛ لأن تبدل الماء بين الحار والبارد من المخرجين يكون بتواتر عالٍ، مما يعني أنها كانت مفيدة في الحمامات المنزلية.
بديع الزمان الجزري
(القرن 7هـ/ 13م)
ابتكر ابن الرزاز الجزري إبريقاً يعجب منه في زمانه الناس، فهو في المرة الأولى يسكب ماءً معتدلاً، ثم يسكب ماءً حاراً لا يستطيع الشخص لمسه، ثم يسكب ماءاً بارداً لا يمكن لمسه، ثم يتوقف عن السكب، ويسكب لمن يريد ما يريد. يمكن استخدام هذا الإبريق من أجل الوضوء أو غسل اليدين بعد تناول الطعام. قال الجزري: « وهو إبريق حسنُ الصنعة ذو عروة وبلبلة يأتي به الغلام عند رفع الطعام في طست ويضعهما بين يدي المخدوم، ويرفع الإبريق من الطست ويصبّ منه على أيدي المخدوم ويرفع الإبريق من الطست ويصبّ منه على أيدي المخدوم ماء معتدلاً يتم به وضوءه أو غسل يديه، ثم يصبّ على يدي من يليه ماءً حاراً يمنع مسه فلا يقدر على غسل يديه، ثم يصبّ على يدي من يليه ماء باردا شديد البرد يمنع مسه، ثم يميل الإبريق ليصب على يدي من يليه فلا ينصبّ من الإبريق شيء، فهو يصب لمن يريد ما يريد ويمنع من يريد من الجماعة».
تقي الدين الراصد
(القرن 10هـ/ 16م)
من الآلات الحرارية التي اخترعها تقي الدين الراصد الدمشقي (توفي 993هــ/1585م) آلتان لهما نفعهما لكل منزل وهما: آلتا شوي ومبخرة جيروسكوبية. وقد ورد وصفهما في كتابه (الطرق السنية في الآلات الروحانية).
الآلة الحرارية الأولى هي آلة للشوي تعاون فيها مع أخيه الكبير عام (953هـ/ 1546م) بحيث تتحرك الآلة وحدها وتستفيد من حركة نزول الثقل المعلق (الرقاص) وحركة شفرات المروحة العلوية.
قال تقي الدين: «وعملوا أيضاً على حركة الدخان البارز من الأوجاق (المواقد) ورتبوا أيضاً حركته على حركة ثقّالة من الرصاص، كما في السواقي التي تدور بالدولاب والرقاص. غير أنه في سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة بدار السلام القسطنطينية العظمى، فكّرت أنا وأخي الأكبر في عمل ذلك على أسلوب غير هذه الأساليب قابل للنقل والتحويل من جهة إلى أخرى غير متوقف على أمر خارج عن ذلك، كالإبريق المذكور وما يحتاج إليه من الماء والنار، وكالدخان والثقال الرصاص المعلق في جهة من البيت لا يمكن تحويله إلى غيرها. فعملنا قفصاً مربعاً مستطيلاً من الحديد قائما على أربع أرجل وفيه ثلاثة دواليب، وفي وسطه محور مربع بارز في مقابلته محور آخر، كذلك فإذا أراد الإنسان استعماله وضعه في أحد جوانب المنقل وأثبت طرف السيخ، وأدار المحور الأول بمفتاح معدله عشر دورات أو أقل أو أكثر بحسب ما يقتضيه العمل في تركه ابتداء السيخ في الدوران. فيدور بكل دورة من الدورات التي أدرتها عشر دورات لا بالسريعة ولا البطيئة، بحيث إنها ما تنقضي إلا وقد استوى اللحم، وإن تخلف عنها في الاستواء فتعيد الإدارة بالمفتاح مرة أخرى».
كما وصف تقي الدين آلة بخارية تستعمل في توجيه سيخ لشوي اللحم بحيث يدور بنفسه بوساطة قوة البخار دون تدخل من أي كائن لتحريكه.
ووصف تقي الدين طريقة صنع (مبخرة مِدْوَارَة أو جيروسكوبية Gyroscopic censer) وهي متقدمة تقانياً على تلك الشائعة، بحيث توضع داخل كرة مثقّبة من كل الجهات، وتوضع بداخلها النار والبخور ثم يمكن دحرجتها، ومع ذلك تبقى النار مستقيمة بشكل أفقي مهما حرّكها المستخدم دون أن تنقلب وتسبب مشكلات الاحتراق لمستخدميها.
الواقع أنه لم يسبق أن عثرنا على تصميم لمثل هذه المبخرة في الوثائق التي بين أيدينا. إذْ إن أول جهاز جيروسكوبي كان يدعى (منظار سيرسون) اخترعه المخترع البريطاني جون سيرسون (توفي عام 1744م) J. Serson عام 1743م، واستخدمه كمقياس ارتفاع لتحديد الأفق في الظروف الضبابية في أثناء الملاحة البحرية.
عربي مجهول (القرن ؟)
يذكر المؤرخ الألماني إيلهارد فيدمان وجود عربي مجهول صنع آلة كبيرة تعتمد على فكرة استحالة الخلاء، حيث صنع آلةً ترفع الماء من بئر عميقة بوساطة النار، والتي أعاد تجربتها المهندس والفيزيائي الإيطالي جيوفاني فونتانا (1395 – 1455م) G. Fontana ووصفها الباحث فون روموكيس von Romockis في كتابه (تاريخ المتفجرات).
هذه الفكرة طرح مبدأها فيلون البيزنطي أيضاً في كتابه (في الحيل الروحانية وميخانيقا الماء)، وذلك بجعل شمعة توضع في داخل حوجلة مقلوبة رأساً على عقب وكلتاهما موضوعتان داخل وعاء فيه ماء، فإذا ما احترق الهواء داخل الحوجلة وانطفأت الشمعة تم سحب المياه لداخل الحوجلة، وهي الفكرة التي يستخدمها من يقومون بالحجامة والتي تسمى (بكاسات الهواء). ولكننا لم نقرأ عن وجود أي وثيقة تذكر استخدامها في سحب مياه بئر سطحية (يراوح عمقها بين 25-5 مترا تحت سطح الأرض).
وفي جميع الأحوال فإن سحب مياه من بئر سطحية يتطلب قوة كبيرة، وهذا يعني كميةً كبيرة من المادة المحترقة التي تحتجز داخل وعاء عملاق محكم الإغلاق، إضافةً إلى وجود آلية تصريف دقيقة توزع الماء بعد سحبه من البئر.
إذاً فقد كان للعرب إسهامات مهمة ومتقدمة في مجال صناعة الآلات الحرارية التي تستفيد من الحرارة لإجراء عمل مفيد، سواء كان ميكانيكيا أو غير ذلك. وهي إنجازات مبتكرة وتسبق الكثير من الإنجازات الأوروبية المماثلة لها.