صعوبات الذاكرة عند الأطفال
د. أسامة الدعّاس
الذاكرة أهم العمليات العقلية التي يقوم عليها التعلم والتفكير وحل المشكلات، بل إن كل ما نفعله يعتمد على الذاكرة، وهي أحد الموضوعات الرئيسية من موضوعات علم النفس عامة وعلم النفس المعرفي بصفة خاصة، بل إن الذاكرة مركز العمليات المعرفية بحيث يظهر أثرها في كل ما هو معرفي متعلق بالنشاط العقلي المعرفي، لذا فهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالانتباه والإدراك، وأي اضطراب يصيبهما يؤثر بصورة مباشرة في عمليات الذاكرة.
ويعتقد بعض العلماء أن الذاكرة قدرة واحدة متكاملة، وبالتالي ينظر إليها على أنها القدرة على التركيز والاحتفاظ بالخبرات السابقة وعلى استرجاعها، أما بعضهم الآخر فيعتبرها سلسلة متصلة من النشاطات المعرفية، فهي القدرة على الربط والاحتفاظ واستدعاء الخبرات معاً، وهي نشاط عقلي معرفي يبرز قدرة الفرد على تنظيم الخبرات وتخزينها واسترجاعها والتعرف إليها.
يتفق العلماء في تصنيف الذاكرة تبعاً للوظيفة المنوطة بها، فقد يتم هذا التصنيف بحسب أمد هذه الذاكرة، أو بحسب نوع العملية التي تقوم بها، أو المجال الذي تعمل فيه، أو حسب الخبرة التي يتعلمها الفرد.
أ – تقسيم الذاكرة وفقاً لأمدها:
1 – الذاكرة القصيرة الأمد: وهي ذاكرة الاستدعاء المباشر للمعلومات والخبرات المكتسبة، وتعتمد عليها عمليات مراحل التعليم الأولي.
2 – الذاكرة الطويلة الأمد: وهي ذاكرة تختزن المعلومات والخبرات مدة طويلة تمتد إلى شهور وسنوات تطول أو تقصر.
ب – تقسيم الذاكرة حسب نوع العملية التي تقوم بها:
1 – التعرّف: ويقصد به انتقاء أجزاء من معلومات سبق له تعلمها، وذلك عند أداء اختبارات ذات هدف معين.
2 – الاستدعاء: ويقصد به القدرة على استرجاع معلومات وخبرات كان الفرد قد تعلمها في وقت سابق تعلماً منظماً.
ت – تقسيم الذاكرة حسب المجال الذي تعمل فيه:
1 – الذاكرة السمعية: مجالها الأصوات المسموعة التي اكتسبها المرء طوال حياته.
2 – الذاكرة البصرية: مجالها الصور التي اكتسبها المرء بكل أشكالها.
3 – الذاكرة الحركية: مجالها الحركات، كالألعاب الرياضية وأداء الأدوار التمثيلية.
4 – الذاكرة اللفظية: مجالها المعلومات النظرية والشرح ونقل الأفكار المكتسبة.
5 – الذاكرة الانفعالية: مجالها استرجاع الأحداث والمواقف مترافقة مع انفعالات معينة.
ث – تقسيم الذاكرة حسب نوع الخبرة المتعلَّمة:
1 – ذاكرة الحفظ: كتذكر آيات القرآن الكريم، والأشعار، ونصوص الحفظ.
2 – ذاكرة المعنى: كتذكر المعلومات التي يرتبط بعضها ببعض في فروع العلم والمعرفة.
مكوّنات الذاكرة
يعتقد العلماء أن الذاكرة عبارة عن نظام يقوم على مجموعة من المكوّنات المترابطة داخلياً، وكل مكوّن يختزن إشارات معرفية ذات نوع محدد، ولهذه المكوّنات أنواع تقوم على:
أ – الذاكرة الحسية: وتحدث بشكل تلقائي حيث تبقى المعلومة –أو المثير- مدة قصيرة جداً في الذاكرة الحسية وهي مرتبطة بالحاسة المخصصة لنوع المعلومة المقدمة، فهناك جزء مخصص للسمع وآخر للبصر وهكذا.
ب – الذاكرة القصيرة الأمد: والغرض منها الإدراك المباشر اللحظي للمثيرات المختلفة التي يستقبلها الجهاز الحسي عند الفرد، كتذكر اسم الشخص الذي رآه، أو اسم المحل الذي اشترى غرضاً من عنده، وهذه الذاكرة لا تستطيع الاحتفاظ بعناصر كثيرة من المثيرات والمعلومات والأحداث التي تمر بها، حيث تحتفظ بالمعلومات بشكل إشارات لفظية لغوية، وكلما كانت قدرة الفرد على ترميز المعلومات وترتيبها واختصارها أفضل فإنه يملك ذاكرة قصيرة بسعة أكبر، هذا وتتأثر الذاكرة القصيرة الأمد بمجموعة من العوامل، منها:
1 – كثافة المعلومات كماً وكيفاً.
2 – تماثل المعلومات وتشابهها.
3 – عدد المعلومات المطلوب معالجتها أثناء تلقيها خلال النشاط المعرفي.
4 – الزمن المتاح للتجهيز والمعالجة.
ت – الذاكرة الطويلة الأمد، وهي مخزن بسعة غير محدودة للمعلومات، حيث يتأثر التخزين بكمية المعلومات التي تنقل إليها وبنوعها، وتنتقل المعلومات من الذاكرة القصيرة الأمد إلى الذاكرة الطويلة الأمد عبر عملية تدعى بالتسميع، إذ يحفظ الفرد الجزء المراد تخزينه مكرراً إياه مرات عدة، وعندما يتم تخزين الإشارة المناسبة في المخزن الطويل الأمد فإنها تصبح مستدامة. والذاكرة الطويلة الأمد أهم الذاكرات الثلاث، فالذاكرة الحسية تختزن المعلومة بمقدار أجزاء الثانية، أما الذاكرة القصيرة الأمد فلا تتجاوز إمكانات تخزينها أكثر من عشرة عناصر، أما الذاكرة الطويلة الأمد فإنها تختزن كل المعلومات المطلوب تذكرها، والتي تقوم عليها ذاكرة الفرد.
أثر الذاكرة في صعوبات التعلم
تقوم الذاكرة – بوجه عام- بدور مهم في عملية التعلم، بحيث يستجمع الفرد آثار الخبرات والمعلومات التي اطّلع عليها واكتسبها، حتى تتراكم عنده هذه الخبرات، مما يؤدي إلى استفادته منها في عمليات الاستجابة المختلفة في المواقف المعرفية، وإذا ما تعرض الفرد إلى الإصابة بصعوبات الذاكرة فإن ذلك ينتج أعراضاً متنوعة ومختلفة، نظراً لطبيعة الإصابة ودرجتها من جانب والموقف التعليمي المطلوب من جانب آخر، فالطفل الذي يعاني صعوبة تذكر واستدعاء المعلومات السمعية أو البصرية أو اللمسية الحركية يتأثر أداؤه للمهمة المتعلقة حسب نوع الذاكرة المصابة، ومع ذلك فإن علينا أن نركز على جانب النشاطات التعليمية المتعلقة بالاستراتيجيات الضرورية لمشاركة الطفل فيها إذا أردنا أن نفهم مشكلة الذاكرة عند الأطفال المصابين بصعوبات التعلم، فقد اعتبر العلماء المتخصصون الصعوبات المتعلقة بأداء الواجبات التي تعتمد على الذاكرة بأنها مشكلة في استخدام الاستراتيجيات، وليست مشكلة في القدرة؛ لأن الذاكرة القصيرة الأمد عند الأطفال المصابين بصعوبات التعلم تفتقر إلى تحديد واختيار الاستراتيجية المناسبة للقيام بعملية محددة، كالتنظيم والترميز والتحضير والتسميع، أو معالجة المعلومات وتخزينها أو الاحتفاظ بها، وهؤلاء يواجهون مشكلات جمة عند استرجاع المعلومات من الذاكرة الطويلة الأمد؛ لأن الاستراتيجيات المستخدمة لذلك غالباً ما تكون قليلة الفاعلية وتفتقر إلى الكفاءة والدقة والاعتماد على الذات من أجل إعادة تقييم هذه الاستراتيجيات المستخدمة وقياس فاعليتها.
تذكر المعلومات
ويظهر الأطفال المصابون بصعوبات التعلم ضعفاً في تذكر المعلومات الحرة غير المدرسية أيضاً، وبخاصة إذا كانت كمية هذه المعلومات تتضمن مفردات كثيرة العدد، ويواجهون مشكلات في الترميز واسترجاع المعلومات لأنهم يواجهون أصلاً مشكلات في تخزينها، سواء كان التذكر قصير الأمد أو طويل الأمد، فمن هؤلاء الأطفال من يجد صعوبة في تذكر ما سمعه أو رآه بعد فاصل زمني قصير جداً قد يكون لثوانٍ معدودات فقط أو دقائق أو ساعات، وهذه مشكلة خاصة بالذاكرة القصيرة الأمد، أما بعضهم فيجد صعوبة في تذكر ما هو أطول أمداً من هذا، وقد يصل إلى فاصل زمني أمده 24 ساعة أو أكثر من ذلك.
وقد يجد الأطفال ذوو صعوبات التعلم صعوبة في معرفة أصوات سبق لهم الاستماع إليها، أو صور ومشاهد عاينوها، أو إعطاء معان مترادفة للكلمات أو أسماء الأعداد مما له صلة مباشرة بصعوبات الذاكرة السمعية والذاكرة البصرية، فتراهم يفشلون في ربط أشكال الحروف بأصواتها حتى مع وجود الرموز أمامهم، وكذلك يفشلون في التهجئة الشفوية. هذا وتبرز مشكلات الذاكرة السمعية في اضطراب تعلم تسلسل الأصوات بشكل مناسب، وكذلك في حفظ حقائق الحساب والعمليات الأساسية في الرياضيات من جمع وطرح وضرب وقسمة، وفي حفظ جدول الضرب، وقوانين المواد العلمية المختلفة، وهذه كلها تعتمد على الذاكرة السمعية، أما مشكلات الذاكرة البصرية عند الأطفال ذوي صعوبات التعلم فتبرز بشكل اضطراب في رسم الأشكال الهندسية ومعرفة أنواعها وأسمائها، والتعامل مع الصور والرسوم المتنوعة والمخططات البيانية وقراءتها قراءة سليمة واعية مع معرفة دلالاتها المختلفة، وحل المشكلات المتنوعة ذات الصلة.
وإذا كان الطفل المصاب بصعوبات التعلم يواجه مشكلات في الذاكرة السمعية والذاكرة البصرية فإن ذلك يظهر بشكل معاناة تبرز آثارها في الأداء الأكاديمي المدرسي بوجه عام، كانخفاض معدل درجاته والتعرض لمشكلات سلوكية ذاتية حيناً وبتأثير المحيط أحياناً، واضطرابات نفسية مختلفة كالإحساس بالفشل وضعف الثقة بالنفس وتراجع تقدير الذات، والافتقار إلى التكيف المناسب مع البيئة الصفية التي يحتاج إليها للتعلم، والافتقار إلى الدافعية في التعلم، وغير ذلك من الآثار الناجمة عن صعوبات التعلم. أما إذا كانت المشكلة لديه متعلقة بالذاكرة الحركية فإن معاناته ستبرز آثارها بشكل صعوبات في تعلم المهارات الحركية، كالقيام بحركة رياضية ذات عدة خطوات وفي رمي الكرة واستقبالها، وارتداء الملابس بشكل مرتب، ولبس الحذاء بشكل صحيح وربط شريطه، وضبط الحركات مع الإيقاع، واستخدام أدوات الرسم، وعقد أزرار القميص، والمسير على خط مستقيم، وتحديد جهتي عضوين مختلفتين في اللحظة ذاتها كاليد اليسرى مع الرجل اليمنى، وهكذا.
إدراك المعنى
وهناك صعوبات في الذاكرة التي تعتمد على عدم إدراك معنى المعلومات المراد تخزينها والاعتماد على الحفظ، وهذه العملية – في الأصل – تقوم على فهم المعلومات والاحتفاظ بها بوساطة ربطها بمعلومات سابقة يعرفها المتعلم مسبقاً، فيحيلها إليها ويربطها بها، أما الأطفال الذين يعانون من مشكلة في الفهم فإنهم – بشكل عام – يتعاملون مع المعلومات الجديدة بشكل منفصل تماماً عن المعلومات المختزنة عندهم التي تكون ذات صلة بها بشكل مباشر، ولكنهم يتعاملون معها كمعلومات منفصلة وأجزاء غير مترابطة، من دون محاولة إيجاد أي علاقة بين السابق واللاحق أو بين معاني المعلومات التي يتعاملون معها. >