إذا سألت رمزي البعلبكي: لماذا ندرس اللغويات، فـلن يـجد عناءً في الإجابة. يقول البعلبكي، الحاصل على جائزة الكويت لعام 2021 من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي (في مجال الإنسانية والفنون والأداب — علم اللغويات): “اللغوياتُ أمرٌ حيوي لفهم البشر ومجتمعاتهم، فهي مرتبطةٌ بالحياة والتواصل وكيفية تعامل البشر مع بعضـهم بعضًا” البعـلبكي هو أستاذ اللغة العربية في الجامعة الأمريكية ببيروت، لكن حتى طــلبـة اللـغـة الـعـربيـة في الجــامعـات الأخرى سيعرفون اسمه، فهو مؤلف مشارك للقاموس الإنجليزي– العربي الشهير، المورد Al-Mawrid.
بدأ حُبّ البعلبكي للغة العربية مبكرًا. كان والده منير البعلبكي من أكثر مترجمي العربية تأثيرًا في عصره. من بين الكتب التي ترجمها من الإنجليزية العديدُ من الأعمال المهمة في التاريخ والـدين والسيـاسـة إضافةً إلى الأدب الـعالمي. سَمـّى طـه حسين، الذي رُشِّـحَ لجائـزة نـوبل في الأدب 21 مرةً، منير البعلبكي بـ “شيخ المترجمين العرب”. قال البعلبكي: “أتذكر أنّه منذ عمر العاشرة أو نـحو ذلك، اعتاد والدي أن يأخذني في نزهاتٍ ويقرأ عليّ أبياتًا من الشعر العربي، لافتًا انتباهي إلى جمال اللّغة العربية وقدرتها على التـعبير عن أدقّ الاختـلافات في المـعاني”. وتعـلّم الـبعـلبكي أيـضًا من والده أن يُـمـضي ساعاتٍ طويلةً في العمل كل يومٍ.
إجراء الأبحاث في مجـالين رئيسيين من مجالات الدراسة اللغوية للغة العربية، وهما النظرية النحوية العربية وطرق الصـنـاعة المعجمـيّة العربـية. دَرَسَ في الجامعة الأمريكية في بيروت، ثمّ حَصَلَ على الدكتوراه من جامعة لندن University of London في المملكة المتحدة. نشر عشرة كتبٍ ألـّفها في النـظرية النـحوية العربية وطرق الصناعة المعجميّة العربية، إضافةً إلى ستة إصداراتٍ ودراساتٍ نقديةٍ للنصوص العربية الفصحى، وأربعة مجلداتٍ مُحَرَرَةٍ، وأكثر من سبعين مقالةً كتبها بمفرده نُشِرَتْ في عدد من المجلات المـرمــوقـة في هذا المـجال. عام 2010، حصل البـعــلبـكي على جــائـزة المـلك فــيـصل العـالمـية لمساهـمته في اللغويات العربية. وكان ثالث لبناني يـحـصـل على هذه الجـائـزة مـنذ أن أُسِـسَتْ عام 1979.
بدأ إعدادَ قاموسِ المورد الشهير البعلبكي والدُ. ويقول عن ذلك: “عمل في إعداده خمسة عشر عامًا، لكنّه مات قبل أن يستطيع إتمـامـه، فأخذْتُ الأمرَ على عاتقي”. استغرق الأمر سـتـة أعوامٍ أخرى قـبـل أن يُـنْـشَر ما يُعرَفُ الآن بأشمل قـاموسٍ إنجـليزي– عربي. ضـمّتْ صفـحـاتُـه التي زادتْ على 2100 صـفحة آلافَ المُدخلات المُحَدَّثَةِ للغة العربية الحديثة، مـثل المـصـطـلحـات التـقـنـية في الـتـكنولوجـيا والاتصالات والطب.
كان الـبـعـلبـكي أيـضًـا ذا فـضـلٍ في إثـبــات الـدراسـات اللـغـوية للـغـة العـربـيـة وفـرعيـها الرئيـسيين، وهـما النحو وتأليف المعاجم، متجذرةٌ تجذرًا أصيلًا في الثقافة العربية الإسلامية نفسها. كان يُعْتَقَدُ أنّ التأثيرات الأجنبية هي من جاءتْ بدراسة النحو وفكرة المعاجم، ربما من الإغريق أو السريان. ساعد البعلبكي على توضيح عدم صحة هذا الأمر. وقال: “يربط أول المصادر العربية الفصحى بدايةَ النشاط النحوي بجـهود فـهم نص الـقرآن الكريم وتفسيره تفسيرًا صحيـحًا” . ويضـيف : ” ذكرَتْ المصادرُ عدة رواياتٍ تـوضح أن النـشاط النـحوي المبكر بدأ استجابةً للأخـطاء التي كانت تظهر في تلاوة القرآن. بعبارةٍ أخرى، حرص النحاة على حماية النص القرآني من الفساد اللغوي”.
وفـقًـا للبـعـلـبـكي، مازال الــنـحو حتى الآن مرتبـطًـا بالشريعة الإسلامية والقرآن وسنّة الرسول الكريم. يقول: “على سبيل المثال، لا يمـكـن لقاضٍ جـاهلٍ بالنحو أن يصدر حكمًا صحيحًا فيما يتعلق بالطلاق. إذ على القاضي أن يـميز بين الرجل الذي طلّق زوجته بقوله: أنتِ طالق طالق طالق (ثلاث مراتٍ) والرجل الذي يفعل ذلك بقوله: أنتِ طالق وطالق وطالق (باستخدام حرف العطف “و”) … في الحالة الأولى، نُـطِقَ الطلاقُ مرةً واحدة وأُكِّدَ بالتكرار. لكن العـبارة الثانية تعني أن الطلاق وقع ثلاث مراتٍ. أيّ قاضٍ لا يفـهم مثل هذه القضايا النحوية سيُصْدِرُ لا محالة أحكامًا خاطئةً ربما تؤثر في حياة الأشخاص”.
إن الـترابط بين اللغة والمجتمع هو أحد الأسبـاب التي تجعل اللغويات مجالًا مهمًا للدراسة في نـظر البعلبكي. يقول: “بما أنّها مجالٌ متعدد التخصصات، فلا يوجد تقريبًا مجالٌ آخر يضارعها في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية. يركز علماء اللغويات الاجتماعية على العلاقة بين اللغة والهوية، وأمور مثل مواضـيع الجنس المتعـلقة باللـغة”. ويضيف: “الفروع الأخرى للغـويات هي اللغويات النفسية، واللغويات التاريخية، وعلم اللـهجات، وحديـثًا، اللـغويات العصبية واللغويات الحاسوبية”.
حتى ببلوغ البعلبكي عمر الـ 71 عامًا، لا يريد أن يتقاعد. إذ اقترح عام 2011 على المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة بدولة قطر وضع قاموسٍ تاريخي للغة العربية. إنه مشروعٌ طَموحٌ جُرِّبَ – وفشل – عدة مراتٍ منذ ثلاثينات القرن العشرين. لكن تحت قيادة البعلبكي، بدأ نحو 300 أستاذٍ جامعي ولغوي وباحثٍ من الأردن، والإمارات العربية المتحدة، وتونس، والجزائر، والمملكة العربية السعودية، وسوريا، والعراق، وفلسطين، وقطر، والكويت، ولبنان، ومصر، والمغرب، وموريتانيا، واليمن، ومن دولٍ أخرى تتبع كل كلمةٍ عربيةٍ إلى أول ظهورٍ لها في النقوش والنصوص. نُشِرَ أول مُدخلات القاموس التاريخي على الإنترنت عام 2018. يقدّر البعلبكي أنّ المشروع قد يستغرق 15 عامًا على الأقل حتى يكتمل. لكنّ هذا لا يزعجه. ويقول: “الشغفُ ببحثي وطلبتي هو ما يجعلني أستمر في الحياة”.
وهو يقدّر مدى أهمية جائزة الكويت التي تمنحها المؤسسة في هذا المجال. أُسِسَتْ هذه الجائزة لدعم البحث العلمي والابتكار والإبداع، وتُمْنَحُ كل عامٍ للعلماء العرب المتميزين الذين حققوا إنجازاتٍ وإسهاماتٍ بارزةً، وقال البعلبكي إنّها: “تُعْتَبَرُ من أعرق الجوائز في العالم العربي… بلا شكٍ لقد منحت العلماء العرب حافزًا إضافيًا لبناء المعرفة ونشرها”.