رصد الأرض من الفضاء: الإرث العلمي محمد سلطان في الاستشعار من بُعد
كيف تكشف تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية عن أنماط خفية على الأرض
“بفضل قدرات الأقمار الاصطناعية اليوم، يمكننا مراقبة الكوارث الطبيعية، وتتبع تغير المناخ، وإدارة الموارد، وفهم وحماية عالمنا” محمد سلطان.
إن حماس محمد سلطان للاستشعار من بُعد، وهي تقنية “العين في السماء” التي تستخدم الأقمار الاصطناعية لالتقاط صور وقياسات مفصلة لسطح الأرض، أمر واضح. إذ تكشف هذه التقنية عن أنماط وتغيرات خفية لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة. ويقول الأستاذ الدكتور في قسم العلوم الجيولوجية والبيئية بجامعة ميشيغان الغربية: “نحن نعيش في وقت مناسب تماماً للعلماء الذين يعملون مع أرصاد الأقمار الاصطناعية. وبفضل قدرات الأقمار الاصطناعية اليوم يمكننا مراقبة الكوارث الطبيعية، وتتبُّع تغير المناخ، وإدارة الموارد، وفهم وحماية عالمنا”.
طَوال حياته المهنية دافع سلطان عن تطبيق العلم لمصلحة المجتمع. وفي سن الثانية والسبعين، لا تبدو عليه أي علامة من علامات التباطؤ. بل على العكس من ذلك، لا يزال منخرطاً بعمق في البحث، ويقود حالياً مشاريع دولية لمواجهة الاحترار العالمي بنحو مباشر. تستخدم مجموعته نمذجات مناخية عالمية للقرن الحادي والعشرين ونمذجات هيدرولوجية للتنبؤ بشدة وتواتر أحداث الفيضانات والجفاف في دول مجرى النيل في مصر والسودان، وفي جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية.
وُلِد سلطان في أكتوبر 1952 في القاهرة، مصر، المدينة ذات الجيولوجيا القديمة والمتنوعة. كانت طفولته طيّبة ومحمية ووفرت له جميع الاحتياجات. كان والده طبيباً متخصصاً في أمراض الرئة، ومديراً لأكبر مستشفى لأمراض الرئة في مصر في ذلك الوقت، وكانت والدته، خريجة الجامعة الأمريكية في القاهرة، مراسلةً في جريدة ذا إجيبشيان جازيت، أقدم نشرة يومية في الشرق الأوسط. تلقى تعليمَه الابتدائي والثانوي في المدرسة الإنجليزية في مصر الجديدة، وهي مدرسة بريطانية خاصة. في البَدء أراد أن يصبح مهندساً مدنياً، لكن الجيولوجيا، وتحديداً الجيوكيمياء، استهوته في النهاية. يقول سلطان: “كنت أرغب دائماً في فهم أسرار الأرض”. حصل على درجتي البكالوريوس والماجستير في الجيولوجيا من جامعة عين شمس، منكباً على العلوم الجيولوجية في غضون ذلك. في العام 1978، انتقل إلى الولايات المتحدة للحصول على درجة الدكتوراه في جامعة واشنطن في سانت لويس، بمنحة دراسية من قسم علوم الأرض والكواكب.
يقول سلطان: “لقد اخترت هذه الكلية لأنها كانت دائماً واحدة من أفضل برامج الجيولوجيا، وهي حالياً واحدة من أفضل 20 كلية جيولوجية في الولايات المتحدة”. بعد حصوله على درجة الدكتوراه تلقى سلطان عرض عمل من منشأة تابعة للوكالة ناسا في جامعة واشنطن، حيث بدأ العمل ببيانات الاستشعار من بُعد لدراسة التمعدن – العملية التي يحدث بها ترسُّب المعادن في مسام الصخور أو التربة أو الرواسب، مما يؤدي إلى تكوين رواسب معدنية صلبة – في جبال سانت فرانسوا المذهلة في ميسوري. كان انتقال الأكاديمي المصري إلى الاستشعار من بُعد مصادفة وخبرة تحويلية.
“كانوا يبحثون عن شخص له خلفيتي العلمية”، هكذا يقول سلطان وهو يصف دخوله إلى مشاريع التصوير بالأقمار الاصطناعية التابعة للوكالة ناسا. وقد انتهز الفرصة على الفور. وفكَّر في تطوير منهجيات يمكن من خلالها رصد وتحديد المعادن والكيمياء البيئية للمواد الموجودة على سطح الأرض من الفضاء. وما المكان الأفضل لتحقيق أهدافه من الصحراء الكبرى في شمال إفريقيا والجزيرة العربية، حيث لا تغطي النباتات أو الثلوج الصخور، والسماء صافية على مدار العام؟ وسرعان ما نقل سلطان أبحاثه من جبال سانت فرانسوا إلى شمال إفريقيا وشبه الجزيرة العربية. وقد فتح هذا التقاطع بين الجيولوجيا والتكنولوجيا في هذه المناطق القاحلة آفاقاً جديدة لسلطان، مما أدى إلى مساهماته الطويلة الأمد في هذا المجال.
واليوم، في جامعة ميشيغان الغربية، وبعد أن شغل مناصب في مختبر آرغون الوطني وجامعة ولاية نيويورك في بوفالو، وغيرها، يقود سلطان مجموعة بحثية ديناميكية تدمج صور الأقمار الاصطناعية مع البيانات الميدانية لمعالجة قضايا بيئية متنوعة. وهو يعتقد أن دمج تراثه الثقافي العربي مع الصرامة العلمية في الولايات المتحدة يشكل مزيجاً فتاكاً: “والنتيجة هي علماء يفيضون بالدفء ويمتازون بأخلاقيات العمل القوية في الوقت نفسه”، كما يقول. والأمر المهم هو أن مساهمات سلطان في القضايا البيئية الملحة في العالم العربي مساهمات جوهرية، حتى من الجانب الآخر من المحيط.
ومن بين المشاريع البارزة التي ينفذها سلطان تحليل تأثير سد النهضة الإثيوبي الكبير في مصر والسودان. وسد النهضة هو مشروع سد كبير على نهر النيل الأزرق في إثيوبيا، يهدف إلى توليد الطاقة الكهرومائية وتنظيم تدفق المياه. ويستخدم فريقه بيانات الأقمار الاصطناعية لدراسة توزيع المياه وتأثيراتها في دول المصب. وهذا أمر بالغ الأهمية ليس فقط للتنبؤ بالفيضانات المحتملة والحد منها – وخاصة في مواجهة الأحداث الجوية غير العادية التي من المؤكد أن يُسبِّبها تغيرُ المناخ ــ ولكن أيضاً لإثراء المفاوضات واستراتيجيات إدارة المياه العادلة بين الدول.
في الأساس يساعد عمل سلطان في الحفاظ على الاستقرار الإقليمي: تضمن بيانات الاستشعار من بُعد أن تكون القرارات مبنية على معلومات دقيقة وفي الوقت الفعلي، مما يساعد جميع الدول المتضررة على التخطيط وإدارة مواردها المائية قبل فوات الأوان. في شبه الجزيرة العربية يستخدم فريقه بياناتِ الأقمار الاصطناعية لرصد مستويات المياه الجوفية والتنبؤ بتوافر المياه. في قطر والمملكة العربية السعودية، يتتبعون تضاريس الأرض لإدارة البنية التحتية، بينما في عُمان يدرسون تأثير الأعاصير في إعادة شحن المياه الجوفية. أما في الدرع العربي النوبي المهيب، يستخدمون التحليل الطيفي، الذي يفحص أنماط الضوء للعثور على الموارد المعدنية المُخفاة. كل هذا يساعد مهمة الوكالة ناسا ودراساتها في مصادر الغبار المعدني على سطح الأرض (EMIT) ومبادرة المعادن الحرجة التابعة للمسح الجيولوجي الأمريكي. يفخر سلطان كثيراً بالجمع بين خلفيته في علم المعادن وشغفه الذي اكتشفه لاحقاً بالاستشعار من بعد بطرق رائعة ومؤثرة.ويقول: “حظيتُ بأفضل ما في العالمين، فأنا أعمل في مكان يتمتع بقدرات هائلة وبالخبرة التي اكتسبتُها هنا مع الحفاظ على علاقات وثيقة مع المؤسسات المصرية والعربية”.
يُصاب عديد من الأكاديميين بمتلازمة نابليون، حيث يصبحون منعزلين ومنشغلين بالعوالم المجردة، وينظرون إلى الطلبة باعتبارهم أتباعاً وليسوا مواهب يجب تطويرها. ولكن لحسن الحظ هذا لا ينطبق على سلطان. إذ يقول: “أعامل طلبتي كأنهم أطفالي. أريدهم أن يكونوا أساتذة محترمين وأشخاصاً أفتخر بهم”. ويتفق “أطفاله” معه. “رحلة النمو والانتماء”، هي الكلمات التي تستخدمها طالبة الدكتوراه آيلين يلدريم لوصف تجربتها معه. آيلين طالبة تركية في العشرينيات من عمرها، انضمت أخيراً إلى مجموعته البحثية لربط الجيولوجيا والهياكل والمعادن على طول البحر الأحمر باستخدام بيانات مشروع EMIT. “كطالبة دولية، واجهت عديداً من التحديات في بلد جديد. ومع ذلك فإن الشعور بالأمان والراحة في مختبر الأستاذ الدكتور سلطان أعطاني القوة للمضي قُدماً”. وهي تشبِّه العمل في مجموعة سلطان بالعمل الجاد مع الشعور كأنك في وطنك. وتختتم يلدريم حديثها قائلًة: “لا مخاوف أو تردد بشأن مستقبلي كعضو في هذه العائلة”.
وأخيراً نال سلطان جائزة الكويت للعلوم التطبيقية للعام 2023. ويقول: “أنا فخور جداً وسعيد جداً بهذه الجائزة. إنه شعور رائع أن يحتفي بي شعبي، من المصريين والكويتيين والعرب”. وتُتوج هذه الجائزة تأثيرَ سلطان في مجال العلوم التطبيقية وعلم المياه، وخاصة في العالم العربي. وهي تكرِّم جهوده في الاستفادة من العلوم لمصلحة المجتمع، وهي المهمة التي حددت مسيرته المهنية. ولا يُظهر أي علامة تهاون من ناحيته في استكمال هذا المسعى. فكلنا في أعماقنا نعرف أن العمر مجرد رقم. يقول سلطان: “أنا سعيد بما أفعله. آتي إلى العمل، وأستمتع بالعمل، وبإمكانية تحسين الحياة”.