نادية الدكروري
سعت معظم دول العالم في السنوات القليلة الماضية نحو إنشاء حدائق التقانة أو حدائق العلوم، التي تهدف إلى دعم عملية التنمية فيها، وتسريع الانتقال نحو مجتمع المعرفة العلمية والتقانية. ومن أمثلة ذلك حدائق كامبريدج في المملكة المتحدة، وصوفيا – أنتيبوليس في فرنسا، وحديقة هسنتشو للتقانة في تايوان، وتسوكوبا في اليابان.
وتتعدد مسميات حدائق العلوم بين الولايات المتحدة الأمريكية التي تطلق عليها (حديقة أبحاث) Research Park، وأوروبا وآسيا وكندا ودول أمريكا اللاتينية التي تسميها (حديقة علمية أو حديقة تقانية) Technology Park، وهناك من يفرق بين حدائق العلوم؛ التي توفر المكان المناسب للشركات المبتدئة من صغيرة أو متوسطة في موقع مزدان بالخضراوات، ويسمح بقيام بعض الصناعات على مستوى بسيط، أما حدائق الأبحاث فتمنع كل أعمال التصنيع.
وفي الواقع فإن حديقة التقانة أو منطقة التقانة مسمى أدق من غيره؛ لأن المهمة الأساسية لفكرة الحديقة هي تطوير التقانة ونقلها وتسويقها، وليس إجراء أبحاث علمية أساسية. وكل التعريفات تتفق على أن مكونات حدائق الأبحاث الأساسية هي مبادرة قائمة على عقار ذي موقع قريب من مركز للتعلم، ومرافق عالية الجودة، وإدارة ناشطة في نقل التقانة وتطويرها، ومكان عيني أو افتراضي يقوم بإدارته فريق من المهنيين المحترفين يقدمون خدمات ذات قيمة مضافة.
ويمكن زيادة منافسة الدول في مجال حدائق العلوم، من خلال إنعاش ثقافة الابتكار والجودة بين المؤسسات القائمة على المعرفة والأعمال المرافقة لها، وتنظيم نقل المعرفة من منابعها إلى الشركات ومن ثم إلى السوق، وتبني إنشاء شركات جديدة قائمة على أسس الابتكار والاستمرارية خلال الحضانة والتفرغ.
الجامعات والحدائق العلمية
تستطيع حدائق العلوم تأهيل طلبة الجامعات وتعزيز إمكاناتهم وخبراتهم. و(الحاضنات التكنولوجية) في حدائق العلوم، هي وليدة العطاء البحثي، وتستطيع أن تُسهم في تخريج مؤسسات عمل جديدة تستطيع الاستفادة من خريجي الجامعات وتوظيفهم وتقديم مُنتجات أو خدمات مفيدة قابلة للتسويق وجلب الأرباح.
كما تتميز الحاضنات التكنولوجية بوجود وحدات الدعم العلمي والتكنولوجي، التي تقام بالتعاون مع الجامعات ومراكز الأبحاث، وتهدف إلى الاستفادة من الأبحاث العلمية والابتكارات التكنولوجية، وتحويلها إلى مشروعات ناجحة من خلال الاعتماد على البنية الأساسية لهذه الجامعات، من مختبرات وورش وأجهزة، إضافة إلى أعضاء هيئة التدريس والباحثين والعاملين.
حدائق العلوم تقود التنافسية
يرتكز دور الحديقة العلمية في تحقيق أهداف تنافسية على إنعاش وتنظيم سريان المعرفة والتقانة وثقافة الابتكار والجودة بين المؤسسات القائمة على المعرفة والأعمال المرافقة لها، وتسهيل إقامة وتنمية الشركات القائمة على الابتكار خلال عمليات حضانتها وتفرعها، وتقديم خدمات ذات قيمة مضافة إلى جانب مكان راق ومرافق عالية الجودة.
وترتكز حدائق العلوم على أن يتبع التجمع في قطاعات التقانة الفائقة نمطاً مختلفاً تماماً، فيمتد نشاط تلك التجمعات الفائقة التقانة ليس فقط نحو الحدود القطاعية بل نحو الحدود الجغرافية أيضاً، ولم يعد هناك حاجة للتركيز الجغرافي للإنتاج الكامل، كما كان الوضع في الماضي، وبدلاً من ذلك أصبحت روابط وتدفقات المعرفة من أهم عناصر الإنتاج القائم على المعرفة.
حدائق الصين العلمية
تعد الصين من أبرز النماذج التي طبقت مفهوم حدائق العلوم في العالم؛ حيث بلغ عدد حدائق العلوم والتكنولوجيا في الجامعات الصينية 86 حديقة، تعمل في كل منها نحو مئة مؤسسة وهيئة للبحث والتطوير، وتجاوز متوسط الدخل التجاري لها 658 مليون يوان (الدولار الأمريكي نحو 6.62 يوان). دفعت هذه الحدائق الصين إلى تعزيز إنجازات البحث العلمي وإعداد مؤسسات العلوم والتكنولوجيا العالية والجديدة للجامعات. وتبلغ مساحة هذه الحدائق نحو 8.29 مليون متر مربع ويعمل فيها 1235 هيئة للبحث والتطوير، وقد صادقت على 1185 براءة اختراع، وتحويل 2306 إنجازات علمية.
إضافة إلى ذلك، أسهمت هذه الحدائق في تطور الاقتصاد الإقليمي، إذ أنشأ أكثر من تسعة آلاف خريج جامعي شركات فيها، وبلغ إجمالي العاملين فيها نحو ثمانية ملايين شخص. وتم تسجيل 15 مؤسسة في هذه الحدائق في البورصة سددت 16.9 مليار يوان من الضرائب.
بدأت الحكومة الصينية بتغيير جزء من سياستها العلمية في الثمانينيات من القرن العشرين، بعد أن كانت تقضي بالحفاظ على نظام ابتكار وطني لمصلحة نظام ابتكار عالمي إقليمي، وجاء هذا التطور في الصين نتيجة لتطورات اقتصادية وسياسية، حيث تبنت الصين سياسة اقتصادية لتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر، ثم شجعت الدولة العلاقات الخارجية الوثيقة صناعياً واقتصاديا مع هونغ كونغ وتايوان وكوريا.
وواصلت الحكومة الصينية سياسة داخلية تقضي بالسماح بمزيد من الاستقلالية الإقليمية، واجتمعت تلك العناصر معاً لدعم تطور مراكز الابتكار الإقليمية. وفي أوائل تسعينيات القرن العشرين أنشأت الحكومة المركزية حدائق علمية في 53 مدينة كبرى بالصين، تشبه هذه الحدائق تلك الموجودة في أجزاء أخرى من العالم.
وسياسة بناء حدائق العلوم في الصين بحاجة إلى أن ينظر إليها على خلفية السياسة العلمية الوطنية؛ فقد كانت المحاولات الأولى لوضع سياسة علمية في الصين نتاج أسلوب تخطيط اقتصادي، نسخته الحكومة الشيوعية من الاتحاد السوفييتي. وعلى الرغم من حدوث تغيرات بعد الشقاق مع الاتحاد السوفييتي في أواخر خمسينيات القرن العشرين، ومنها محاولات اللامركزية وتخفيف الرقابة المركزية أثناء الثورة الثقافية، فإن الحكومة الصينية ظلت ملتزمة بالاقتصاد المخطط حتى حدثت الإصلاحات الكبرى في أواخر التسعينيات. واتبعت الصين سياسة السيطرة المركزية والاعتماد على الذات، رافضة الاستثمار الأجنبي المباشر. ثم تغير الموقف كثيراً منذ بدايات الثمانينيات، عندما تخلت الحكومة الصينية عن سياسة الحفاظ على الابتكار الوطني لمصلحة نظام ابتكار إقليمي عالمي، وذلك بالسماح لتدفقات ضخمة من الاستثمار الأجنبي المباشر في أقاليم معينة.
وبالتبعية أدت الشركات الأجنبية دوراً مهما في تنمية الصناعات العالية التقانة في الصين، ومن الطرق التي اتبعتها حدائق العلوم الإقليمية تقديم حوافز لتشجيع الاستثمار وتكوين الشركات الجديدة فيها؛ فمثلا تُعفى الشركات الجديدة من ضريبة الدخل العام مدة عامين.
حدائق بكين العلمية
أنشئت أول حديقة للعلوم وافقت عليها الحكومة المركزية في الصين ببكين عام 1988 قرب جامعة بكين وجامعة تسنغهاو والعديد من مراكز البحوث التابعة للأكاديمية الصينية للعلوم. وأسست بكين مجموعة متناسقة من الأحياء الصناعية، تتكون من حديقة زونغ غوان كون العلمية، ومنطقة بكين للتنمية الاقتصادية، ومنطقة بكين تيان زول لمعالجة الصادرات ومناطق التنمية الصناعية.
وحديقة زونغ غوان كون العلمية هي أول حديقة علمية فائقة التقانة تنشأ على مستوى الدولة عام 1988، وتتكون فعلياً من عدة مناطق: منطقة هايديان للتنمية، منطقة فنغت إي للتنمية، منطقة تشانغ بنغ للتنمية، منطقة تنمية التقانة وعلوم الإلكترونيات، ومنطقة تنمية يي زوانغ للعلوم والتقانة.
وتضم المنطقة حالياً 8 آلاف مؤسسة فائقة التقانة، منها 180 مؤسسة يزيد دخلها على 100 مليون يوان، إضافة إلى المراكز التي تمولها الدولة، فقد أنشأت بكين عشر مناطق تنمية صناعية على مستوى المدينة، و50 على مستوى البلدات الصغيرة لاستيعاب الشركات الصناعية، واجتذاب الاستثمارات الأجنبية لتطوير صناعات التصنيع.
ونجحت زونغ غوان كون في جذب الاستثمارات الأجنبية، إذ تضم منطقة بكين الفائقة التقانة أكثر من 1400 مؤسسة بتمويل أجنبي، 43 منها من بين أكبر الشركات في العالم، ومراكز بحوث وتطوير تديرها شركات عالمية.
حديقة زانغ العلمية
تحتضن شنغهاي ثلث مشروعات البحث العلمي في الصين و47 حديقة صناعية، وتضم حديقتين للعلوم والتقانة الفائقة، وكبرى هذه الحدائق هي حديقة زانغ جيانغ، التي افتتحت عام 1992، على مساحة قدرها 3 كيلومترات مربعة في منطقة بودونغ السريعة النمو، وكانت منطقة زراعية تقع علي الأطراف الشرقية لشنغهاي. وفي تلك المنطقة توجد 13 مدرسة للتعليم العالي، منها جامعة شاندا ومدرسة بودونغ للغات الأجنبية، وأكثر من 400 منظمة تعليمية، إضافة إلى مراكز أنشأتها الجامعة الصينية للعلوم.
وتضم الحديقة العلمية عدداً من الحضانات التي ترعاها هيئات حكومية مختلطة، وعدداً من الشركات المتعددة الجنسيات، وأسست ثلاث من كبرى شركات البرمجيات الهندية فروعا لها في بودونغ؛ وبذلك أصبحت أكبر منطقة لديها إمكانات تطوير البرمجيات.
وأهم مجالين في الحديقة هما تقنية المعلومات والتقانة الحيوية الحديثة والعقاقير، وأهم أهدافها تنمية الابتكار وروح المبادرة، وتتمتع الصناعات الرئيسية الموجودة في الحديقة بدعم على المستوى الوطني.
وجذبت المنطقة عدداً من المشروعات المماثلة إلى الحديقة، وأكثر من عشر منظمات بحث وتطوير في مجال الصيدلة على المستوى الوطني للجينات البشرية في شنغهاي، إضافة إلى أكثر من 90 شركة عقاقير.
الحدائق جاذبة للاستثمارات
وهناك استنتاج واضح من الحالات الثلاث، مفاده أن الفائدة الرئيسية لحدائق العلوم في الصين، على العكس من حدائق العلوم في أوروبا وأمريكا الشمالية، لم تكن من خلال جمع الشركات داخل الحديقة أو الموقع بل من خلال دعم الروابط الخاصة بالاستثمار الأجنبي المباشر، بجانب الإفادة من المدن الموجودة بها، أي إن أداء حدائق العلوم لا يمكن تحديده بصورة مستقلة عن المدن التي تستضيفها، ويوحي ذلك بالحاجة إلى دراسة استغلال المعرفة الموجودة في حدائق العلوم في السياق الأوسع للتخطيط الحضري والإقليمي.
حدائق العلوم العربية
أما نشاط حدائق العلوم في الوطن العربي فيقتصر على بعض التجارب القليلة نسبيا مقارنة بباقي دول العالم، حيث نلحظ اهتماماً محدوداً من بعض البلدان العربية في تطبيق مفهوم حدائق العلوم؛ ففي مصر هناك وادي التكنولوجيا في سيناء، وفي دول الخليج العربي نجد مدينة الإنترنت في دبي، وحديقة للعلوم في الإمارات العربية المتحدة، ومشروع حاضنات تكنولوجية في الكويت، وواحة المعرفة في سلطنة عمان.
أما الأردن فلديها حديقة تكنولوجيا المعلومات Cyber City، وفي لبنان نجد مبادرة جامعة القديس يوسف Berytech، وفي تونس نجد المشروع الوطني للحاضنات والمدينة التكنولوجية.
وتواجه التجارب العربية المحدودة في حدائق العلوم مجموعة تحديات؛ منها نقص الوعي التكنولوجي، وضعف تقبل مفهوم حدائق العلوم، والاعتذار عن عدم تقديم الدعم المالي. لذا يأمل العديد من خبراء التقنيات العلمية في الوطن العربي زيادة الوعي حول حدائق العلوم من خلال حملات توعية تساهم فيها وسائل الإعلام بالتعاون مع الجهات المعنية؛ بهدف التعريف بمفهوم حدائق العلوم ونشاطاتها وعائدها الاقتصادي، إضافة إلى التنسيق مع المنظمات الدولية والهيئات الممولة لدعم الخبرات ونقلها.