تسخير الاقتصاد لتطوير سياسات أفضل
تُصوِّر بعضُ المفاهيم الخطأِ الاقتصاديين على أنهم أفراد تؤرقهم الأرقام الغامضة، وأسعار الفائدة والتضخم، ويعملون في قاعات – مثل قاعات بورصة وول ستريت – مقصورة على أمثالهم. ولكن الاقتصاد هو في الواقع علم اجتماعي يدرس كيف تخصص المجتمعات مواردها المحدودة لتلبية رغباتها واحتياجاتها غير المحدودة. وعلى هذا النحو، فإنه يضطلع بدور مهم في التأثير في عملية صنع السياسات لمعالجة مختلف القضايا المجتمعية، ومن ثَمَّ تحسين حياة الناس. قال إيلي تامر، أستاذ لويس بيركمان للاقتصاد في جامعة هارفارد Harvard University، والفائز بـ «جائزة الكويت للعلوم الاقتصادية والاجتماعية»، للعام 2022، من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي: «إن الاقتصاديين الأكثر تمرُّساً يصيرون صانعي سياسات أكثر براعة… وإذا عادوا إلى بلدانهم، فسيكونون قادرين على تشكيل حكومات أفضل، خاصة في العالم العربي». وأضاف: بالتأكيد يمكنك إنشاء شركة حاسوب في بيروت، والاستعانة بمهندسي برمجيات «لكن بيروت ولبنان في حاجة إلى محافِظي بنك مركزي أفضل بكثير؛ فسياساتهم ستؤثر في الجميع في لبنان، وليس فقط في الأغنياء [أو من نالوا قسطاً جيداً من التعليم]». هذه جميعها أسئلة يجيب عنها الاقتصاديون طوال الوقت.
ولد تامر في زحلة بلبنان، في العام 1971، ونشأ في عائلة من الطبقة المتوسطة، أتاحت له إكمال تعليمه الابتدائي والثانوي في مدرسة خاصة فرنسية عربية. قال: «عشت حياة طيبة في لبنان، باستثناء فترة الحرب».
كانت الحرب الأهلية اللبنانية مشتعلة في العام 1988، في أثناء إتمامه تعليمه الثانوي، وعن ذلك قال: «بالنسبة إلى أشخاص مثلي، واجهت معضلة إما البقاء والدراسة في الجامعة اللبنانية التي كانت تمر بوقت عصيب في العام 1988، وإما المغادرة، والخياران المطروحان أمامي بداهة هما السفر إلى فرنسا أو الولايات المتحدة». كان تامر معجباً ببعض أبناء عمومته الذين يدرسون في أوستن بتكساس. وفي سن السادسة عشرة، وجد نفسه في الولايات المتحدة، وعن ذلك قال: «فجأة، صار لدي مفتاح شقة خاصة بي، لي أنا وحدي. كان عليَّ أن أدفع الإيجار، وأن أعد طعامي بنفسي». وكان عليه أيضاً أن يتلقى تدريباً مكثفاً في اللغة الإنجليزية، على الرغم من اعترافه بأن الصدمة الثقافية لم تكن كبيرة؛ لأنه اعتاد على الأسلوب الغربي في التعليم منذ طفولته.
في جامعة تكساس University of Texas بأوستن، درس تامر الهندسة الكهربائية؛ فقد تولَّد لديه – في السابق – اعتقاد بأن الاقتصاد هو موضوع «يميل نحو الفلسفة أو التاريخ»، ولكن بعض أصدقائه كانوا يدرسون لنيل درجة الدكتوراه في الاقتصاد، ومن باب الفضول حضر بعض المحاضرات الجامعية واجتذبته المادة.
وقال: «دُهشت من مدى تقدم هذا المجال، ومدى اتساع نطاق الأسئلة التي كان الاقتصاديون يطرحونها في ذلك الوقت. وكان الباحثون يستخدمون الإحصائيات والبيانات لمعالجة مختلف المسائل المتعلقة بعدم المساواة والصحة العامة، وحتى القضايا التي تواجهها إفريقيا». بعد حصوله على البكالوريوس، تقدم للالتحاق بالدراسات العليا، والتحق بجامعة نورث وسترن Northwestern University في شيكاغو، وهي الجامعة التي تخرج فيها في العام 1999 (وفيها التقى بزوجته).
حققت أطروحته «دراسات في النماذج غير المكتملة» نجاحاً كبيراً في السوق؛ ما أدى إلى حصوله على وظيفة أستاذ مساعد في الاقتصاد بجامعة برينستون Princeton University. بعدها رُقي إلى درجة أستاذ في العام 2004. بعد أن تزوج، بدأ هو وزوجته يتساءلان: هل كان ينبغي عليهما البقاء في نيوجيرسي أم العودة إلى نورث وسترن وشيكاغو، حيث تعيش العائلة الممتدة لزوجته التي تعمل في قطاع صناعة الأدوية؟ استقر الرأي على الانتقال إلى شيكاغو، وفي العام 2004 صار تامر عضواً في هيئة التدريس بقسم الاقتصاد بجامعة نورث وسترن. وفي العام 2013، وفي أثناء توجهه بسيارته إلى ويسكونسن، تلقى تامر اتصالاً من غريغ مانكيو Greg Mankiw، وهو خبير اقتصادي أمريكي بارز، يشغل حالياً منصب أستاذ روبرت إم. بيرين للاقتصاد في جامعة هارفارد. قال مانكيو: «بالأمس، اجتمعت هيئة التدريس، وصوتنا لمصلحة تقديم عرض لك». وفي العام 2014، بعد نحو سبعة أو ثمانية أشهر من المناقشات مع زوجته، وإعداد الوثائق والمستندات اللازمة، صار تامر أستاذاً للاقتصاد في جامعة هارفارد.
نشر تامر الحائز جوائز في العلوم الاقتصادية والمالية والمصرفية نحو 41 ورقة بحثية في مجلات علمية مُحَكَّمة حتى تاريخه. وتُركز أبحاثه – بشكل خاص – على نظرية الاقتصاد القياسي (النماذج الديناميكية ونماذج الاستجابة)، وأيضاً على النظرية الاقتصادية (نظرية المزاد ونماذج احتكار القلة)، ونظرية الألعاب Game theory. والاقتصاد القياسي Econometrics هو فرع من فروع الاقتصاد الذي يطبق الأساليب الإحصائية والرياضياتية لتحليل البيانات الاقتصادية وتفسيرها. قال تامر: «في أي وقت تقرأ فيه مقالاً في إحدى الصحف، في أي مكان، يتحدث فيه الاقتصاديون عن أرقام، في أي وقت يقولون: إذا فعل البنك المركزي هذا أو ذاك، فمن أين يحصلون على الأرقام؟ هناك دائماً اقتصاد قياسي وراء ذلك».
وتامر متخصص في التحديد الجزئي، وهو مفهوم يُستخدَم في الاقتصاد والإحصاء لمعالجة المواقف التي يستحيل فيها تقدير معاملات Parameters نموذج ما بدقة، أو استنتاج العلاقات الدقيقة بين المتغيرات بسبب عدم اكتمال البيانات، أو عدم اليقين المتأصل.
قال تامر: «لنفترض أن هناك نظرية تقول إن شرب القهوة يجعلك أذكى، تجمع بياناتك… تسأل الناس إذا كانوا يشربون القهوة، وتوزع عليهم اختبار الذكاء، وتسجل معدل الذكاء لديهم. المشكلة هي أن هذه البيانات لن تجيب أبداً عن السؤال الرئيسي؛ لأنه قد يكون هناك متغير غير ملحوظ يجعلك تشرب القهوة وتكون ذكياً. وهنا يأتي التحديد الجزئي، وهو في الأساس تحديد ما إذا كانت أي مجموعة من البيانات المعطاة يمكنها الإجابة بدقة عن سؤال ما».
ولو تجاوزنا مثال القهوة؛ ففي الحياة مشكلات أكبر تواجهنا. قال تامر: «لدينا مجموعة من الموضوعات المطروحة، أحدها يتعلق بأسباب تسرب الطلبة من الجامعة»؛ فمن بين جميع طلبة المرحلة الجامعية، في الولايات المتحدة، يصل معدل التسرب إلى 40%.
قال تامر: «لا نعرف سبب تركهم الجامعة. يقول البعض [إن الدراسة الجامعية مكلفة جداً. ربما ينبغي لنا أن نعطيهم مزيداً من المال]، لكن هناك نظريات تقول لا، المال ليس السبب؛ يحدث هذا لأنهم ذهبوا إلى الجامعة، ووجدوا أنهم لا يجيدون أي شيء تُعلِّمه لهم الجامعة». يدور بحثه عن إيجاد الأسباب القابلة للقياس وراء ترك الطلبة للجامعات. ويقول: «لأنك إذا عرفت بصفتك صانع سياسات أنهم يتركون الجامعة لأنهم يكتشفون أنفسهم، يمكنك أن تتفاعل مع الأمر على نحو مختلف عما إذا علمت أنهم يتركون الدراسة لأنهم لا يستطيعون تحمل تكاليفها».
وكما ذكرنا سابقاً، فإن علماء الاقتصاد قادرون على توجيه صناع السياسات لاتخاذ قرارات أفضل يتبين أنها الأكثر تحقيقاً للمساواة. والتعليم، كما ينظر إليه تامر، هو المكان الواضح الذي تكون فيه عوائد الاستثمار مرتفعة جداً. قال: «إذا أعطيتني 100 دولار كحكومة، فسأصرف 95 دولاراً منها لبناء مدارس جديدة، وتوظيف معلمين أفضل. لماذا؟ لأن العوائد على هذه الـ 95 دولاراً ستكون أعلى بكثير مما لو أنني وظفت الـ 95 دولاراً في أي مكان آخر».
بقلم: ستاف ديميتروبولوس