خالد محمد العنانزة
أصبحت قضايا البيئة من أولويات المجتمع الدولي في القرن الحادي والعشرين، نظراً لعلاقتها الوثيقة بصحة الإنسان وسلامته، وفرضت نفسها بقوة على كل المستويات، وكان ذلك نتيجة وصول الأوضاع البيئية إلى مستويات حرجة، أوشكت على الاختلال في أرجاء واسعة من العالم، وباتت تشكل هاجساً يهدد مستقبل الحياة على وجه الأرض. فالتغيرات المناخية وارتفاع درجة حرارة الأرض ونقص المياه العذبة وزيادة التلوث وانتشار النفايات الخطرة والسامة وانحسار الغابات؛ أمثلة على التدهور البيئي الذي يشهده العالم حالياً.
في بداية التسعينيات من القرن الماضي ظهر مصطلح التنمية المستدامة Sustainable Development، أي التنمية التي تأخذ بعين الاعتبار حماية موارد البيئة ومنع التلوث وعدم الاستنزاف واستخدام المصادر المتوافرة حالياً بطريقة لا تؤثر في حاجات الأجيال القادمة، وبدأت الأصوات ترتفع داعية إلى تحقيق التوازن بين التنمية والبيئة ودمج الاعتبارات البيئية في النشاطات الاقتصادية وصياغة استراتيجيات وقائية لمشروعات التنمية. ونتيجة لذلك بدأ العالم يستعد لاستقبال مفاهيم جديد في حماية البيئة مثل الكفاءة البيئية والإنتاجية الخضراء والإنتاج الأنظف ومنع التلوث وخفض النفايات والكيمياء الخضراء والهندسة الخضراء. وجميع هذه المفاهيم تركز على استخدام الأساليب الوقائية والمنتجات والعمليات الإنتاجية في ضوء ارتفاع تكاليف الإدارة البيئية وازدياد الاهتمام العالمي بالبيئة، وهذا في الواقع ينسجم مع القوانين والتشريعات البيئية ويقلل الأخطار المتوقعة على الإنسان والبيئة، ويحقق العديد من الفوائد الاقتصادية والاجتماعية.
ومما لا شك فيه أن للهندسة بمختلف فروعها تأثيراً واضحاً على الاستدامة، وفي كل يوم يتخذ المهندسون قرارات فنية لها تأثير كبير على البيئة، فهي إما أن تنقلنا خطوة باتجاه الاستدامة أو تساهم في زيادة المشكلات البيئية، ولذلك أصبح واضحاً ضرورة إدماج التفكير البيئي في تصميم وتخطيط وتنفيذ المشروعات والعمليات الصناعية والأنظمة في عقول المهندسين، وهذا ما تسعى إليه الهندسة الخضراء.
مفهوم الهندسة الخضراء
يمكن تعريف الهندسة الخضراء Green Engineering بأنها المبادئ والقيم والتوجهات الصديقة للبيئة المصاحبة لممارسات الهندسة والتكنولوجيا بهدف تحسين جودة البيئة المحلية والعالمية، وذلك بتصميم العمليات والمنتجات والأنظمة التي تحافظ على المصادر الطبيعية وتقلل التأثيرات البيئية السلبية إلى أدنى حد ممكن. وعرفت وكالة حماية البيئة الأمريكية EPA الهندسة الخضراء بأنها (تصميم وتسويق واستعمال العمليات والمنتجات الفعالة من الناحيتين الاقتصادية والفنية، وفي الوقت نفسه تقليل توليد النفايات من المصدر، والحد من الأخطار على صحة الإنسان والبيئة).
والهندسة الخضراء ليست تخصصاً قائماً بذاته، لكنها منهج يساعد المهندسين على تطبيق الاستدامة في كل نشاطات الهندسة بمختلف تخصصاتها الميكانيكية والكهربائية والإلكترونية والكيميائية والصناعية والنووية والمعمارية والمدنية والحيوية. ويطبق مفهوم الهندسة الخضراء على العديد من المنتجات في حياتنا؛ مثل المباني والسيارات والمواد الكيميائية والمعدات، والأجهزة الإلكترونية والكهربائية، والتجهيزات المنزلية ومحطات معالجة المياه والمياه العادمة، والمشروعات الهندسية، وعمليات التصنيع.
ومن أجل إبراز دور الاستدامة في جميع التقنيات الهندسية تعمل الهندسة الخضراء من خلال دمج اعتبارات دورة الحياة في عملية التصميم، وتطبيقها على معايير متعددة مثل المنتجات والعمليات الإنتاجية والأنظمة.
تطبيقات متعددة
يشمل إطار عمل الهندسة الخضراء العمليات الصناعية والمشروعات الهندسية والقضايا التقنية بشكل عام، وهي تسعى إلى الإجابة عن السؤال المطروح دائماً: كيف يمكن لممارسات الهندسة والتكنولوجيا أن تساعد على نقل المنتجات والعمليات والأنظمة التي جرى تطويرها إلى الاستدامة؟ وفي سبيل الإجابة عن هذا السؤال تسعى الهندسة الخضراء إلى التصدي للآثار البيئية في مرحلة التصميم للمنتجات والعمليات والأنظمة، لأن الفوائد تتعاظم عندما نتحرك نحو المنبع في دورة الحياة، ويمكن تحقيق تحسينات تدريجية في استعمال المواد والطاقة وخفض النفايات وزيادة كفاءة الأنظمة، أفضل بكثير من مناهج التصميم التقليدي. إن الهندسة الخضراء هي جزء من نسيج حياتنا اليومية، ونرى أمثلتها من حولنا كل يوم، سواء كان ذلك في السيارة الكهربائية أو في عمارة مبنية على الريادة في الطاقة والتصميم البيئي أو المنظفات القابلة للتحلل البيولوجي.
وفيما يلي أمثلة لبعض التطبيقات الناجحة للهندسة الخضراء:
تطوير التقنيات:
ينتج عن تقنيات التصنيع الحديثة كميات أقل من النفايات مقارنة بمثيلاتها القديمة، ولذلك فإن استخدام التقنيات الحديثة أو تطوير المعدات القائمة يمكن أن يؤدي إلى خفض حجم الفضلات وسميتها، ويقلل من تكاليف إدارة عملية الإنتاج، ويساهم في خفض الأخطار المصاحبة لها. ويراوح مدى التغيير في التقنيات بين التطوير البسيط الذي يمكن تنفيذه في عدة أيام، وبتكاليف قليلة، والتطور الكبير الذي يحتاج إلى وقت طويل واستثمارات كبيرة. ويشمل تطوير التقنيات معدات تستخدم المواد والطاقة والمياه بفعالية، وينتج عنها أقل قدر ممكن من التلوث، فمثلاً تحتاج الطائرة إلى 8000 غالون من المذيبات (كلوريد المثيلين) أو القلويات الساخنة لنزع الدهان القديم عن هيكلها، لكن سلاح الجو الأمريكي تحول بنجاح إلى استخدام طريقة القذف بالكرات البلاستيكية Plastic beads لإزالة الدهان عن هياكل الطائرات بدلاً من المذيبات، وهذه الطريقة الجديدة ساهمت في تحسين ظروف العمل للمستخدمين، كما أنها ذات تكاليف أقل، ولا ينتج عنها ملوثات.
استبدال المواد:
في مجال الهواتف النقالة يتجه العالم إلى تصنيع هواتف صديقة للبيئة من خلال الاستعاضة عن المواد الضارة ببدائل صحية أكثر، وزيادة كفاءة استخدام الطاقة وقابلية إعادة التدوير.
وتنص توجيهات الاتحاد الأوروبي على حظر استخدام المعادن الثقيلة مثل الرصاص والكادميوم في إنتاج الهواتف النقالة نظرا لأخطارها الصحية والنيكل لما قد يسببه من تهيج للبشرة، كما يتجه العالم للتخلص من المواد الهالوجينية في الغلاف الخارجي ومواد التغليف ولوحات الدارات الرئيسية في الهواتف النقالة.
المنتجات الخضراء:
تؤدي الهندسة الخضراء دوراً مهماً في تصميم وتصنيع المنتجات الخضراء أو المنتجات البيئية أو المنتجات ذات الوعي البيئي، وهذه المصطلحات تستخدم لوصف المنتجات التي تعمل على حماية أو تحسين البيئة الطبيعية، وذلك عن طريق حفظ الطاقة والموارد ومنع أو خفض استعمال المواد الضارة، وينتج عنها أقل ما يمكن من الانبعاثات أو النفايات. وأصدرت اللجنة الاتحادية الأمريكية نشرة بيئية تعرف المنتج الأخضر بأنه يحتوي على أقل كمية ممكنة من المواد الخام، وأكبر كمية ممكنة من المواد المدورة، ويصنع من مادة غير سامة وبطريقة تصنيع نظيفة (غير ملوثة للبيئة)، ويستهلك طاقة قليلة في الإنتاج والاستعمال والتخلص منه، ولا يحتاج للتغليف والتعبئة، وعند الضرورة يجب أن تكون مواد التغليف والتعبئة قابلة لإعادة التدوير، وتخدم مدة طويلة وقابلة للتطوير عند الضرورة، كما تكون قابلة للتفكيك والتجميع وإعادة التصنيع عند نهاية عمرها الافتراضي. فمثلاً استطاع فريق من الباحثين الأمريكيين بواسطة تقنيات الهندسة الخضراء إنتاج مادة بلاستيكية من النباتات القابلة للتحلل البيولوجي، ويمكن أن تؤدي إلى آفاق مستقبلية تجارية، فقد نجح الفريق في معاملة أو منابلة المورثات في نباتات الجرجير والكولزا، وتوصلوا إلى إنتاج تلك المادة. ونشرت أبحاثهم في مجلة (Nature Biotechnology)، وهذه المادة الجديدة يمكن أن تستخدم في صناعة التغليف، وأن تتحلل ذاتياً بعد الاستعمال على عكس المواد البلاستيكية المستخدمة في الوقت الحاضر.
مستقبل الهندسة الخضراء
في السنوات الأخيرة أصبح ينظر للبيئة والتنمية نظرة تكاملية، وأدرك الجميع أن تعزيز الاقتصاد وحماية الموارد الطبيعية لا يتناقض أحدهما مع الآخر، لذلك أصبحت البيئة والتنمية من الموضوعات المطروحة للدراسة في كثير من المناهج في الجامعات والمدارس، ليس هذا فحسب؛ بل استحدثت مناهج جديدة لتناول المجالات المتداخلة والمتقاطعة في العمل البيئي، ولما كان التوجه نحو الهندسة الخضراء جزءاً من اتجاه عالمي متنام لبحث التفكير الهندسي في استشراف مستقبل البشرية ودراسة دور الهندسة والمهندسين في إيجاد الحلول المناسبة للمشكلات البيئية المتزايدة التي تعانيها البشرية حالياً، وذلك ضمن إطار التنمية المستدامة، فإنًّ هذا يتطلب دمج منهج وفلسفة الهندسة الخضراء في التعليم الهندسي، وذلك لتغيير التوجهات والطرق القديمة والمفاتيح الرئيسية لذلك التصميم الأخضر والبدائل المبتكرة والإنتاج الأنظف، وإعادة تعريف مشكلات الاستدامة لملاءمة الحاجات، وحماية البيئة.