الهايبرلوب .. مستقبل النقل الجماعي السريع
م. حنان حسين عواد
مهندسة مصرية كندية مهتمة بالثقافة العلمية، المدير التنفيذي للمجلس الكندي لنشر الثقافة والعلوم (كندا)
تخيل أن تسافر داخل كبسولة منطلقة في أنبوب مفرغ بسرعة 200 ميل في الساعة داخل شبكة من الأنفاق الممتدة، دون أن تلوث النظام البيئي، متنقلا بين بيتك في لوس أنجلوس إلى مقر عملك في سان فرانسيسكو في أقل من ساعة. هذا ليس مشهداً في فيلم خيال علمي، إنما هو خطة طموحة تسعى لقلب موازيين عالم النقل الجماعي السريع، فالهايبرلوب هنا لينقل ما يزيد عن 30 ألف مسافر في الساعة، حيث يجلس الركاب في كبسولات تتحرك بسرعة فائقة عبر أنابيب مضغوطة باستخدام الدفع الكهربائي والرفع المغناطيسي، متنقلين بين المدن الكبرى في بضع دقائق. منذ قدم التاريخ، كانت الإنسانية تبحث عن وسائل للتنقل بين الأماكن ونقل البضائع والعتاد بسهولة ودون عناء أو مشقة، وبتكاليف معقولة.
لكن ثورة المواصلات والنقل جاءت بثمن باهظ دفعناه من سلامة وأمان بيئاتنا ومناخنا الأرضي، فأصبح البحث عن حل صديق للبيئة حتميا وضرورة لبقائنا وعدم فناء الحياة على كوكبنا. وجاءت السيارات الكهربائية بوعود براقة في مجال النقل الشخصي، وآن الأوان لأن نتجه للنقل الجماعي. هذا ما ذكره رجل الأعمال إيلون ماسك Elon Musk مؤخراً، معلنا أنه سيكرس جهده لتصميم نظام فعال أسماه هايبرلوب Hyperloop يعمل بتقنية الرفع المغناطيسي (ماغليف Maglev).
وتقنية ماغليف هي تقنية تستخدم لتحسين كفاءة القطارات المغناطيسية، وتعتمد على عدم وجود احتكاك بين القطار والمسار الذي ينطلق فيه حتى في ضوء انطلاقه بسرعة قد تصل إلى أكثر من 260 ميلاً في الساعة. والماغليف تعتمد على مجموعتين من المغناطيسات؛ المجموعة الأولى تعمل على صد القطار ورفعه أعلى المسار، والأخرى مسؤولة عن تحريك القطار الحائم في الاتجاه الأفقي. والتنافر الكهرومغناطيسي بين المجموعتين هو ما يجعل قيادة وسير المركبة داخل الأنبوب العملاق أكثر سلاسة.
وكأي تقنية، فإن للماغليف حدودها المحكومة بقوانين الديناميكا الهوائية والفيزياء الطبيعية. وهنا يأتي دور مشروع الهايبرلوب الذي يطمح إلى تطوير مجموعات المغناطيسات والمحركات الكهربائية التي تعمل بالطاقة المتجددة لتحريك القطار بسرعات فائقة قد تصل إلى أكثر من 750 ميلاً في الساعة، والتغلب على مقاومة الهواء مع أقل انبعاثات ممكنة للحفاظ على البيئة، حيث يمكن تشغيل أنظمة الهايبرلوب بتقنيات متجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.
وإلى جانب النظام المتطور للمغناطيسات القوية، تعمل مضخات هوائية وضواغط عملاقة مثبتة في الكبسولة على إعادة توجيه الهواء لتعزيز قدرة النظام على رفع الكبسولة ودفعها مع تقليل الاحتكاك.
وتحاول فرق تصميم الهايبرلوب التغلب على مشكلة تراكم ضغط الهواء أمام الكبسولة بإعادة توجيه الهواء مع وجود محركات الحث الخطي على طول الأنبوب للتحكم في سرعة الكبسولة المنطلقة، وهو حل استخدم في عدد من المشروعات منها بيبول موفر PeopleMover في مدينة ديزني الترفيهية. يعادل ضغط الهواء داخل أنبوب الهايبرلوب الضغط الناتج عن الطيران على ارتفاع 200 ألف قدم فوق مستوى سطح البحر. وهذا المعدل من الضغط يتيح للمركبة التحرك بسرعة قد تصل إلى 760 ميلاً في الساعة.
إحياء فكرة قديمة
وإيلون ماسك ليس أول من فكر في هذه التقنية، فمعروف عنه أنه يعيد تدوير الأفكار والاختراعات التي سبقه إليها العلماء والمخترعون. وفكرة أنابيب النقل المفرغة قديمة، ففي عام 1845، اقترح المهندس البريطاني إيسامبارد برونيل Isambard Brunel بناء أنبوب في محطة سكك حديد بجنوب غرب إنجلترا لدفع القطارات بسرعة 70 ميلاً في الساعة. كان هذا النظام ينقل العربات بهواء مضغوط، بحيث يستخرج الهواء من أنبوب يمتد بين القضبان عن طريق محطات الضخ التي تقع كل ثلاثة أميال تقريبًا على طول الطريق، مما يؤدي إلى حدوث فراغ.
يوصل مكبس موجود داخل هذا الأنبوب بالقطار الذي يدفعه إلى الأمام. لكن نقص الموارد جعل اللوحات الجلدية التي جعلت الأنابيب المفرغة محكمة الإغلاق تتعطل، مما تسبب في تسرب الهواء من النظام فتم التخلي عن تلك السكة. بعدها بسنوات قدم المخترع روبرت غودارد Robert Goddard مشروعه فاكترين vactrain الذي يشبه في تصميمه الهايبرلوب، والذي توقف أيضا لأسباب متعددة.
وفي عام 1978، نشر المخترع روبرت إم سالتر Robert M Salterمن شركة راند Rand بحثا بعنوان “أنظمة مترو أنفاق عبر الكواكب- قدرة متنامية”، استند إليها ماسك في بحث قدمه عام 2013 بعنوان “ألفا هايبرلوب”، وأشار إلى فكرة مفادها أنه يمكننا اعتبار كوكبنا كنظام أنابيب متداخلة معقد تحت الأرض على عمق كبير، لكن تكلفة التنفيذ قدرت بـ 750 بليون دولار.
ومما يبعث على التفاؤل هو مقدار التطور التكنولوجي الذي حققته البشرية في العقود الأخيرة والاهتمام الكبير بفكرة الهايبرلوب. ومع تنفيذ أول قطار فائق السرعة في اليابان طور وشغل خلال نحو 10 سنوات، فليس من المستغرب أن تعلن الشركات المطورة للهايبرلوب عزمها على تشغيل المشروع تجاريا في غضون السنوات القليلة المقبلة. والهايبرلوب حسب بحث ماسك هو نموذج هجين بين مدفع كهرومغناطيسي وطاولة الهوكي الهوائي، حيث يعادل ضغط الهواء فيه سُدس معدل الضغط الجوي لكوكب المريخ، مما يساعد على خفض سحب الهواء 1000 مرة، أو ما يعادل التحليق على ارتفاع 150 ألف قدم من سطح الأرض.
ويعتبر الكثيرون أن الهايبرلوب مبني إلى حد كبير على نموذج Planetran الذي طورته شركة راند، والذي من أجله أنشأ ماسك شركة ذي بورينغ كومباني The Boring Company. وحسب نموذج الهايبرلوب التصميمي ستطفو المركبة محمولة على زلاجات تولد وسادة هوائية، وفي نموذج آخر تستخدم الزلاجات مجالاً مغناطيسياً لخفض التكاليف، حيث يقدر ماسك وفريقه أن الرحلة من مدينة سان فرانسيسكو إلى لوس أنجلوس (350 ميلا) ستبلغ تكلفتها 20 دولارا فقط، مع تكلفة إجمالية لإنشاء البنية التحتية لا تتعدى ستة بلايين دولار.
أجهزة صديقة للبيئة
في الولايات المتحدة، أنشئت شركة هايبرلوب تراسبورتيشن تكنولوجيز Hyperloop Transportation Technologies HyperloopTT، ثم بدأت بالعمل في عدة دول أخرى منها الهند وكوريا الجنوبية. وطورت الشركة أليافا كربونية ذكية مزودة بمجسات مدمجة في الطبقة الخارجية للمركبة تستخدم في نقل معلومات ومتابعة مقاييس الثبات والأمان ودرجة الحرارة وعوامل أخرى أسمتها فيبرانيوم Vibranium، وهي تبدو كأنها مستنبطة من فيلم خيال علمي.
ولإحداث نظام فعال لتوليد الطاقة، يستخدم الهايبرلوب مجموعة من ألواح توليد الطاقة الشمسية ومولدات أخرى صديقة للبيئة تعمل على توليد أعلى معدلات الطاقة بأقل التكاليف التشغيلية وأقل الانبعاثات.
وإضافة إلى شركة HyperloopTT، أنشئت شركة فيرجين هايبرلوب التي ركزت على تطوير تقنيات الأمن والسلامة من أجهزة استشعار وبروتوكولات الأمان والتقنيات المدمجة لاستشعار التغيرات في الضغط والحرارة، وتقنيات مكافحة الحريق والطوارئ. كما طورت تقنية ماغليف سلبية passive maglev technology أطلق عليها اسم إندوتراك Indutrack لتساعد المركبة على التحليق عند انقطاع التيار الكهربائي، ومن ثم تبطىء سرعة الكبسولة حتى تستقر على عجلاتها وتتوقف تماماً. وتصميم الهايبرلوب يشمل مضخات التفريغ المثبتة بطول الأنبوب لتقليل مقاومة الهواء وإزالة السحب الهوائي. وتزعم الشركات المطورة للهايبرلوب أن المشروع هو ما نحتاج إليه في النقل الجماعي لنحقق مستقبلاً منخفض الانبعاثات.
فحسب تقديرات فيرجين هايبرلوب، أدت رحلات الطيران على المستوى العالمي في عام 2017 إلى انبعاث نحو 950 مليون طن من غاز ثاني أكسيد الكربون، وقدرت الشركة أن رحلات الهايبرلوب ربما تقلل من الغازات المنبعثة الناتجة عن استخدام الطرق التقليدية لتوليد الطاقة بنسبة تزيد على 50%. وللهايبرلوب مزايا عديدة، إذ سيسهل التنقل السريع بين أحياء المدن الداخلية، ويربط المدن بعضها ببعض على عكس الطيران الجوي المكلف الذي يتطلب أن تكون المطارات على أطراف المدن، إلى جانب التكلفة الباهظة للسفر جواً. وهذا يفتح المجال أمام المزيد من فرص الإسكان والتوظيف، مع عدم التقيد بالعيش في المدينة نفسها التي يقع فيها مقر العمل.
تحديات تكنولوجية وطبيعية
وعلى الرغم من وجود تلك المزايا، فإن هناك قائمة من التحديات التي قد تعرقل العمل في المشروع. وأول هذه التحديات هي تكلفة بناء البنية التحتية التي تقدر بما بين 11 و 25 مليون دولار لكل ميل طولي لمسار الهايبرلوب. وهناك تحديات تكنولوجية تتعلق بتجنب الكوارث الطبيعية مثل الزلازل وانزلاقات التربة التي تؤثر في البنية التحتية والمنشآت الهيكلية، إلى جانب الأضرار التي قد تطرأ على الأنبوب المفرغ وقد تخل بتوازن الضغط داخله.
ولمواجهة هذه الاحتمالات عمدت فرق التصميم إلى تصميم الأنابيب بكفاءة عالية لضمان تحملها للضغط والتغيرات التي تطرأ عليه واحتمال تسرب الهواء والإضرار بسلامة الأنابيب الهيكلية. ويرى المصممون أن زيادة مقاومة الهواء قد تؤدي إلى إبطاء الحزم المغناطيسية، لذا فإنهم يركزون على تصميم التقنيات التي تساعد على خفض مقاومة الهواء. وللتعامل مع المخاطر المحتملة الناجمة عن الكوارث الطبيعية مثل الزلازل، عمدت شركة فيرجين هايبرلوب إلى تصميم الأنبوب من الفولاذ القوي المقاوم للصدمات والضغط، إلى جانب إمكانية التحرك والانثناء بشكل مستقل عن بعضها بعضا لتقليل الضرر في حال حدوث تخلخل كبير في الأرض.
وتعمل المستشعرات الموجودة على طول الأنبوب على نقل المعلومات عن المشكلات الطارئة على الفور إلى مراكز التحكم. ولاستكمال الأبحاث في مشروع الهايبرلوب، تقام مسابقات سنوية تُدعى فيها فرق عمل بحثية وتصميمية من مختلف أنحاء العالم. وفي ذات الوقت يتنافس عدد من الشركات في سباق محموم للسيطرة على الأسواق الناشئة. وقال ماسك إن مفهوم الهايبرلوب سيكون “مفتوح المصدر” لتشجيع الفرق البحثية والتصميمة على العمل معاً وتطوير التكنولوجيا اللازمة لتحقيق نجاح المشروع على أرض الواقع.
رحلات تجريبية
نظمت شركة فيرجين هايبرلوب مسابقة عالمية قدم فيها أكثر من 2600 مشاركة، فاز فيها 10 فرق من خمس دول، وهي تعمل جميعها مع فيرجين هايبرلوب لتطوير التقنيات اللازمة لتشغيل المشروع على أرض الواقع.
وفي عام 2018، أعلنت الشركة عن تشغيل أول نموذج أولي بين دبي-أبوظبي يتوقع أن يقلل من الوقت اللازم للسفر بالسيارة بين المدينتين من ساعتين إلى 12 دقيقة. وأجرت شركة فيرجين هايبرلوب أول اختباراتها مع ركاب بشريين في لاس فيغاس في نوفمبر 2020، وأسمت النموذج الأولي بيغاسوس Pegasus. وقد احتوى على مقعدين فقط، وبلغ تسارع الكبسولة 100 ميل في الساعة على طول مسار الاختبار.وأثناء الاختبار لم يشعر الراكبان بقوة الاندفاع. وأثبت الاختبار الأولي سلامة التكنولوجيا، مما يمهد الطريق أمام التشغيل الفعلي للهايبرلوب بكبسولات تسع 28 راكباً وقدرة استيعابية لنحو 30000 راكب في الساعة.
ومن المتوقع أن يتم تشغيل أول مشروع أمريكي لشركة فيرجن هايبرلوب بين مدينتي شيكاغو وكليفلاند، إلى جانب خطط الشركة في دبي والهند والغرب الأوسط ونورث كارولينا وتكساس في الولايات المتحدة، والتي تأمل الشركة إتمامها بحلول عام 2030. أما معهد أبحاث السكك الحديد الكورية (Korail) فقد أعلن عن تحقيقه سرعة بلغت 633 ميلاً في الساعة في سلسلة من الاختبارات أجريت باستخدام نموذج مصغر للهايبرلوب، ويطمح المعهد لإطلاق شبكة للهايبرلوب بحلول عام 2024. ومع تجربة بشرية ناجحة في نوفمبر 2020، ربما نكون على بعد أقل من 10 سنوات من أن تصبح حقيقة واقعة.وبالتزامن مع هذه الجهود، تحرز شركة HyperloopTT تطورات كبيرة آخرها مسار اختبار أنشأته في فرنسا. وهذه المنافسة المحتدمة تستلزم وضع معايير قياسية تتحكم في مواصفات السلامة والأمان، ومحاولات التقييس الدولي يدفعها اتحاد عالمي لشركات متعددة الجنسيات.
يهدف الاتحاد العالمي إلى وضع وتطوير وتعميم معايير ومواصفات مشتركة تضمن تنفيذ المشروعات المشابهة للهايبرلوب وفق أعلى المواصفات الفنية والتقنية. وكالعديد من الكتاب العلميين الذين سبقوني في الكتابة عن الهايبرلوب، فأنا متفائلة لكن بحذر، فليس هناك حدود لطموحاتنا، لكن عندما نفكر في المخاطر التي تحف بتنفيذ الهايبرلوب على أرض الواقع والكوارث التي قد تحدث في أجزاء من الثانية والأرواح التي قد نخسرها فلا يسعني إلا التفكير في المخاطر المتعلقة بوسائل النقل الجماعي التي نعتمد عليها اليوم، ومدى المكاسب التي نجنيها مقارنة بالمخاطر، عدا الضرر الذي يلحق بكوكبنا والذي يعد مشروع الهايبرلوب بتفاديه.