رامي جحى
طيار مدني ( كندا)
في كل يوم تقلع من مطارات العالم نحو مئة ألف طائرة تنطلق إلى مدن شتى في كل القارات حاملة على متنها نحو نصف مليون شخص في رحلات متنوعة تتباين ما بين عمل وسياحة وزيارة ودراسة وعلاج.
وتلك الحركة الدؤوبة التي غيّرت صورة العالم بتقصير المسافات وربط الشعوب بعضها ببعض وتعزيز الأعمال التجارية كان بطلها طائرات من كل الأنواع والأحجام مرت بمسيرة طويلة من التطوير والتحديث. وهذه الأهمية جعلت من الطيران المدني واحدا من أهم قطاعات الاقتصاد وأكثرها نمواً، بمعدلات بلغت نحو 5% سنوياً خلال العقود الثلاثة الماضية. وما زال هنالك مجال واعد وآفاق نمو واسعة أكثر بكثير؛ لأن 2 % من سكان العالم فقط يسافرون جوا، وفق إحصائيات الجهات المعنية بالطيران. كانت أول رحلة جوية تجارية في التاريخ قبل 107 أعوام حين أقلع الزورق الطائر “بينويست” في الأول من يناير عام 1914 من مدينة سانت بطرسبرغ في ولاية فلوريدا الأمريكية، وعلى متنه راكب واحد فقط فاز بتذكرة قيمتها 400 دولار أمريكي. استمرت الرحلة 23 دقيقة فوق خليج تامبا لتصبح بسرعة خطاً جوياً منتظماً مهّد الطريق لفكرة نقل الركاب جواً بين المدن والبلاد ومن ثم عبر القارات.
وتسارعت عجلة النقل الجوي بعد الحرب العالمية الثانية، مما أدى إلى إحداث نقلة كبيرة في علوم وتقنيات صناعة الطيران ولاسيما المحركات المتطورة التي أصبحت تنتج قوة كبيرة، إضافة إلى هياكل أقوى قادرة على تحمل التغيرات الفيزيائية في الجو، ومن ثم كانت النتيجة زيادة في السلامة والأمان في عالم الطيران. كل هذا أدى إلى تضاعف أحجام الطائرات وزيادة سرعتها، وحدوث منافسة شديدة بين المصنعين لصناعة طائرات أكبر وأسرع وأكثر أمانًا.
التنافس التجاري
كان لشركات النقل الجوي الدور الأكبر في نشر السفر بالطائرات وإشعال نار المنافسة بين مصنّعي الطائرات. وكانت شركة بان آم Pan Am المثال الذي يجب اتباعه في سباق النقل الجوي. وهذه الشركة التي كانت الناقل الأكبر عالمياً في حقبة الخمسينات واستمرت في ذلك حتى أواخر السبعينات أحدثت ثورة في عالم الطيران عندما وضعت ثقتها بالمحركات النفاثة وأدخلتها أسطولها في طائرات بوينغ 707، ثم ما عرف لاحقاً بملكة الطائرات الـ 747. لم تكن بان آم أول من استخدم الطائرات النفاثة في النقل الجوي لكنها كانت أول من استعملها على نطاق واسع لتصبح لاحقاً الخيار الأمثل.
وأدت الثورة الكبيرة التي حققتها الطائرات النفاثة إلى التنوع الكبير الذي نشهده حاليا في الشركات الناقلة، وفي أنواع الطائرات التي أصبحت أساسية في حركة اقتصاد العالم وحركة النقل الكبيرة فيه. ونلاحظ جميعا تأثير الطيران في العالم عندما توقف الطيران خلال جائحة كورونا المستمرة حتى الآن، وانهيار الكثير من الشركات الناقلة. بل إننا أدركنا أهمية وأثر الطيران حين بدأت قطاعات عديدة بالانهيار بسبب توقف حركة الطيران ووقف تدفق السيّاح والسلع، ناهيك عن التسريحات الكبيرة للعمال في مجالات عدة مرتبطة بالطيران.
العوامل البيئية
إن كون الطيران جزءا أساسيا من الاقتصاد وتوفيره الوظائف وتسهيل التقارب في العالم، له في المقابل وجه مظلم بتأثيره السلبي في البيئة. ويؤدي النقل الجوي إلى تلوث البيئة والاحتباس الحراري؛ بسبب كمية الكربون البالغة نحو 3 % من انبعاثات الكربون في العالم التي تطرحها المحركات العملاقة في الطبقات العليا من الغلاف الجوي. وهذا الأمر يشهد تزايدا مطردا. على سبيل المثال، تطرح رحلة واحدة بين نيويورك ولندن من ثاني أكسيد الكربون ما يعادل قيادة سيارة لمسافة 12 ألف كيلومتر تقريبًا، أي نحو طنين من أكسيد الكربون لكل راكب من الدرجة الاقتصادية، أو ما يعادل متوسط الاستخدام اليومي للسيارة على مدار عام.
وبينما نجد أن محركات الطائرات الحديثة باتت متقدمة بأجيال عن نظيرتها من العقود الماضية، من حيث التوفير والحدّ من انبعاثات الكربون، فإن معدل التحسن لا يواكب ارتفاع عدد المسافرين، وهي حقيقة تعترف بها حتى منظمة الطيران المدني الدولي لأسباب عدة، أهمها العمر العملي الطويل للطائرات الحديثة الذي قد يبلغ متوسطه 30 سنة للطائرة، إضافة إلى صعوبة إيجاد وقود صديق للبيئة صالح للاستخدام في المحركات النفاثة. وهذا يعني أننا سنبقى في الوضع القائم لفترة من الزمن. لكن هناك جهات عدة تعمل بجهد كبير وتضخ استثمارات كبيرة في البحوث العلمية سعيا نحو إيجاد أنواع من الوقود صديقة للبيئة، ومنها الوقود الحيوي الذي صار يستخدم كثيرا في الآونة الأخيرة كبديل منخفض الكربون.
وتستخدم أيضا محركات كهربائية للطائرات المروحية الصغيرة المدى التي تعمل على نطاق الطيران المدني الخاص أو ما يسمى بالـ Air Taxi Operations ريثما يتوصل العلماء إلى حلول مناسبة لوقود نفاث عديم الانبعاث ربما ينقلنا إلى مرحلة جديدة متقدمة في عالم الطيران.
السلامة الجوية
السلامة في الجو هي أهم ركائز الطيران المدني والعسكري على حد سواء. وشهدت السلامة الجوية تطوراً كبيرا خلال المئة عام الماضية لاسيما خلال العقود الثلاثة الماضية مع دخول الحواسيب والرقائق الإلكترونية الفائقة القدرة والدقة حيز الاستخدام في كل المنظومات الإلكترونية والميكانيكية للطائرات.
ومن ذلك على سبيل المثال رادارات عالية الدقة لرصد العوامل الجوية للطيار الآلي الذي يتحكم في الطائرة ويخفف عبء السيطرة على الطائرة ليكتفي دور الطيار بالمراقبة والمتابعة في حال حدوث خلل ما، وحساسات إلكترونية تجري فحوصا بصورة مستمرة لكل أجزاء الطائرة لرصد أي عطل أو خلل ما لتخبر الطيار وقطاع الصيانة بجميع التطورات وهم في مقر الشركة الأم. وهذه التطورات رفعت درجات السلامة الجوية وجعلت قطاع الطيران من أكثر قطاعات النقل أمانا في العالم.
وستستمر هذه الثورة في التطور مع دخول الذكاء الاصطناعي حيز الاستخدام، إذ سنرى الطائرات تستبق الأعطال من خلال المحاكاة الافتراضية واستخدام الخوارزميات للتنبؤ بالأعطال.
وثمة حدث يضاهي أفلام الخيال العلمي يتمثل في استخدام تقنيي الصيانة للنظارات الثلاثية الأبعاد لرؤية الأعطال وفحص الأجهزة المعقدة دون الحاجة إلى تفكيكها وإعادة تركيبها، سعيا نحو توفير الوقت والجهد المكلفين جداً. ويتوقع أن يحمل المستقبل تغيير كبيراً داخل الطائرات لتوفير راحة أكبر للمسافر الذي لطالما اشتكى من أمور عدة أهمها صغر المساحة المخصصة لجلوسه.
وتتجه العديد من الشركات نحو إلغاء الدرجة الأولى التي بات نجمها يندثر، والتركيز على درجة رجال الأعمال والدرجة الاقتصادية لتعطي المسافر مسافة راحة أكبر. ومن أهم التطورات التي ستضطر الشركات المصنعة والناقلة إلى مواكبتها توفير كل تقنيات التواصل الحديثة للمسافر من خلال خدمة الإنترنت السريعة في الجو والشاشات الكبيرة لتكون تجربة المسافر فريدة وتجعله زبوناً وفياً.
هذان الأمران أصبحا أساسيين لطائرات المستقبل لاسيما أننا سنشهد ازدياد عدد رحلات المسافات الطويلة خلال السنوات العشر المقبلة.
الطائرات الفائقة السرعة
وفي سياق الحديث عن الرحلات الطويلة المدى، قد يتساءل بعض الأشخاص: لماذا لا تعيد الشركات الطائرات الفائقة السرعة كالكونكورد التي تطير بسرعة تفوق سرعة الصوت. إن الطيران المتمتع بمزية السرعة التي تتجاوز الصوت Supersonic يتطلب طائرات من سلالة خاصة، وتكلفة إنتاجها وتشغيلها على أرض الواقع باهظة، عدا العوامل البيئية السلبية لتلك الطائرات وأهمها التلوث الصادر عن محركاتها التي تحتاج لكميات وقود كبيرة، إضافة إلى التلوث الصوتي الناتج عن كسر جدار الصوت أو ما يسمى Sonic Boom. باختصار، الطيران فوق الصوتي ليس مجديا مادياً على أرض الواقع، لكن، لما كنا نمتلك تقنيات أثبتت جدارتها، فإنه يتوقع أن نرى عودة للطيران فوق الصوتي من خلال طائرات خاصة صغيرة تنقل الأثرياء من رجال الأعمال وغيرهم أو أفراد الحكومات.
وكما أن الطيران فوق الصوتي غير مجد مادياً، وبالتوافق مع زيادة الرحلات الطويلة المدى، فإننا ربما نرى خلال السنوات المقبلة تسريح الناقلات الجوية الضخمة كالأيرباص A380 والبوينغ 747 من الخدمة بشكل تدريجي، إضافة إلى تعليق إنتاج ناقلات جديدة. وستركز صناعة الطائرات على تطوير الناقلات الموجودة حالياً وتعديلها كالبوينغ 777 و 787 والأيرباص A350 وA220 من خلال إطلاق نسخ بأحجام مختلفة وقدرات متفاوتة تتناسب مع المسافات والسعات المطلوبة. كل هذا يأتي في سياق العلاقة الوثيقة بين العوامل الاقتصادية من تكلفة وأرباح للشركات الناقلة، إضافة إلى العوامل البيئية التي أصبحت حقيقة يستحيل تجاهلها.