محمد المندعي
تعد الطحالب البحرية أساس السلسلة الغذائية، والبناء الذي ترتكز عليه الحياة في البحار والمحيطات، فهي المنتج الأول للغذاء، والمولد الأساسي للطاقة، عن طريق قيامها بعملية البناء الضوئي. لكن عندما تتبدل الظروف البيئية المحيطة بهذه الكائنات، ويكون الإنسان هو السبب في ذلك التغير، فإنها تتحول إلى كارثة بيئية يرجع وبالها على البشر والبيئة.
تجمع عشبي هائل
ما بين عامي 2007 و2015 حدث تفش غريب وضخم لنوع من الطحالب على ساحل البحر الأصفر (الواقع بين الصين والكوريتين) كان الأول من نوعه الذي تشهده المنطقة. وظهر حينذاك أكبر تراكم للطحالب البحرية. وفي صيف عام 2008 كانت المنطقة على موعد مع مسابقة الألعاب الأولمبية للمراكب الشراعية، لكن انتشار الطحالب فيها كاد يعطل استخدام الشواطئ. ومن أجل التخلص من هذه المشكلة وتنظيم فعاليات المنافسة، فقد استدعت الجهات المعنية 16 ألف شخص للمشاركة في إزالة الأعشاب المتراكمة. وجرى وضع حاجز طويل قبالة الساحل لمنع الكتل العائمة لطحلب الأولفا من الاقتراب منه، وشارك نحو 600 قارب في جمع هذه الكائنات من المنطقة. وفي النهاية، تمت إزالة أكثر من مليون طن من الطحالب الخضراء التي غطت مساحة تراوح بين 13 و 30 ألف كيلومتر مربع، وقدرت تكلفة تنظيف المنطقة بنحو 30 مليون دولار. فما ماهية هذا التجمع؟ ولماذا حدث؟ وما مسبباته وتأثيره في الكائنات الحية الأخرى؟ وما التدابير الوقائية والعلاجية التي يجب اتخاذها حياله؟
تراكمات طحلبية
وفقا لخبراء البيئة فإن هذه الظاهرة تدعى المد الأخضر Green tide، وهي تراكمات ضخمة من الطحالب الخضراء الكبيرة تحدث في أجزاء كثيرة من العالم، لكنها أكثر شيوعاً في خطوط العرض المعتدلة والاستوائية. وأكثر المناطق تضررا هي السواحل الشرقية والغربية لأمريكا الشمالية، وآسيا، والمحيط الهادىء. وتحصل هذه الحادثة في مساحة محددة، وغالبا ما تكون موسمية أو عرضية وهي مؤقتة وسريعة الزوال. وتشترك في اثنتين من الخصائص هما أن المسبب الرئيسي لها هو الأعشاب الخضراء الكبيرة، والأخرى أن لها تأثيرا سلبيا في البيئة بشكل عام.
وهذه الطحالب تتوزع في كل أنحاء العالم، وهي توجد في كل البيئات من المياه العذبة، وفي مياه المصبات والبيئات التامة الملوحة.
ومعظم حوادث هذه الظاهرة، سببها أعضاء جنس واحد فقط هو جنس الأولفا Ulva الذي يتضمن أكثر من 100 نوع. والمسبب لأكبر ازدهار طحلبي في العالم هو النوع U.prolifera الذي ينتشر على نطاق واسع في المناطق المدية من الشواطئ ومصبات الأنهار في جميع أنحاء العالم بحكم تحمله الواسع للملوحة، ودرجة الحرارة، ومعدل نموه المرتفع، وقدرته الاستثنائية على التكاثر.
أسباب المد الأخضر
منذ أواخر القرن التاسع عشر، كانت هناك طفرة عالمية في التمدن والتحضر وممارسات الزراعة المكثفة في الأراضي الزراعية، أو تربية الأحياء المائية. ونتيجة لذلك تعرضت المياه الساحلية لأحمال زائدة من المغذيات، ولاسيما النيتروجين والفوسفور. في المناطق الفقيرة التغذية تزيد إضافة العناصر الغذائية من نمو العوالق النباتية، وهذا سيكون له آثار إيجابية على السلسلة الغذائية، من خلال زيادة الأسماك ومصائدها. وعندما تزيد الخصوبة الغذائية للجسم المائي إلى الحد المفرط فإن مؤشرات الإغناء الغذائي تصبح واضحة.
ثمة عوامل عديدة تؤثر في ازدهار الأعشاب البحرية، إلا أن المغذيات تعد العامل الرئيسي لذلك، فهناك أبحاث كثيرة كشفت عن العلاقة بين المد الأخضر والإثراء الغذائي الناتج إما طبيعياً من عملية الانبثاق Upwelling – وهي صعود المياه من القاع محملة بالعناصر المغذية إلى المياه السطحية الساحلية تحت تأثير تغيرات في درجة الحرارة واتجاه الرياح- أو عن طريق النشاطات البشرية كما أوضحنا آنفا. وفي كلتا الحالتين تزيد المدخلات المخصبة إلى المياه الساحلية وتتجاوز المستوى الحرج الأقصى لقدرة النظام المائي على التنظيم الذاتي لتدفق وتدوير المواد المغذية.
ويعزو بعض الباحثين حصول المد الأخضرفي سنوات متتابعة إلى البقايا الخضرية المتوطنة للطحلب أولفا التي تعد مصدرا للبذور، وتوفر فرصاً للازدهار السنوي المتتالي. والأمر الأكثر خطورة في منشأ البقايا الخضرية هو استزراع الطحالب على الشواطئ أو أحواض تربية الأحياء المائية.
تداعيات الظاهرة
يرافق النمو المفرط للأعشاب البحرية مشكلات وآثار اقتصادية وبيئية تضر بالاقتصاديات القائمة على السياحة، وتخنق الاستزراع المائي، وتعطل مصائد الأسماك التقليدية. وتظهر الدراسات أنه حيثما حل المد الأخضر تحدث خسائر بدرجات متفاوتة اعتمادا على الكتلة الحيوية ومدة التراكم، فمثلاً تكبد قطاع تربية الأحياء المائية في الصين خسائر فادحة في إحدى السنوات قدرت بنحو 86 مليون يورو من جراء ذلك.
ومن الآثار الضارة للتكاثر الطحلبي على الأنظمة البحرية والمصبات، أن وجودها المادي يعوق مرور الضوء إلى الطبقات السفلى للمياه، ومن ثم ينخفض نشاط البناء الضوئي لمجتمع الأحياء الموجودة في هذه الطبقات، وتخنق كائنات الشعاب المرجانية، وتغير سلوك التغذية لبعض اللطيور، إضافة إلى تقييدها لحركة الماء وسرعتها، وهذا يتعارض مع نقل الأكسجين وتبادله بين الغلاف الجوي والبحار. والتكدس الطحلبي الهائل يغير من كيمياء الماء من خلال سحب المواد الغذائية، ومن ثم يحد من توافرها للكائنات الأخرى، ويسبب امتصاصه للكربون غير العضوي لاستخدامه في عملية البناء الضوئي طفرات محلية في درجة الحموضة لمياه البحر خلال النهار، مع انخفاضات مرافقة في الأس الهيدروجيني أثناء الليل عندما تتنفس الطحالب.
تفرز الأعشاب البحرية السائدة أثناء المد الأخضر مواد طبيعية يشار إليها باسم مركبات اليلوباثيك Allelopathic، وهي مواد تنتجها الكائنات الحية تؤثر تأثيرا فسيولوجياً ضاراً في أفراد الأنواع الأخرى عند إطلاقها في البيئة. وأظهرت الأبحاث وجود صلة بين المواد المفرزة –القابلة للذوبان في الماء- وزيادة معدل نفوق السرطانات والمحار واليرقات، والحد من نمو الكائنات القاعية والعوالق الحيوانية.
وبعد موت التراكمات الطحلبية الهائلة، فإنها تغرق وتملأ القاع، فتحللها الميكروبات، وتستخدم الأكسجين في هذه العملية، ما يؤدي إلى نضوبه، ومن ثم حصول تحلل لاهوائي يرافقه إطلاق غاز كبريتيد الهيدروجين السام معطياً المياه السطحية مظهرا داكنا كريمي اللون يطلق عليه «الماء الحليبي». وتنشأ حينها منطقة ميتة خالية من الأكسجين مما يؤدي إلى موت الأحياء البحرية.
التدابير والحلول
تبذل الحكومات جهودا حثيثة لمكافحة انتشار الطحالب البحرية بصورة فوضوية. ونظرا لمحدودية المعرفة الحالية بهذه الظاهرة، فإن مطلب السيطرة والوقاية والتخفيف منها ليس بسيطا. وخلال العقود الثلاثة الماضية عملت الحكومات والمؤسسات الأكاديمية والمجموعات غير الربحية معاً للتخفيف من تأثير المد الأخضر، وتطوير تكنولوجيات وقائية، وفهم منشأ واستمرار التكاثر الطحلبي. وينبغي أن توجه الوقاية بهذا الصدد للحد من التأثيرات البشرية عن طريق تحسين توزيع وتدفق الأنهار وقنوات المجاري داخل البحارلمنع تراكم المواد الغذائية. ويجب أيضا العمل على خفض ملوحة المياه الملوثة بواسطة التحكم في تدفق المياه العذبة من أجل قتل الطحالب، وكذلك إزالة المواد المغذية من النفايات السائلة (المجاري) في مرحلة معالجة مياه الصرف الصحي، أو على الاقل ضبط محتوى هذه المياه من المغذيات لإخراج مياه أقل ملاءمة لنمو الطحالب.
لكن العلاج الأكثر استخداماً على نطاق واسع يتضمن إزالة الكتلة الحيوية للطحالب المزعجة، ويستعمل ذلك بوجه خاص على الحالات التي توجد فيها كميات كبيرة من الأعشاب الضارة. وعادة ما تتم الإزالة ميكانيكا بواسطة آلات حصد خاصة، أو قوارب جمع للتخلص من الكتل العائمة من طحلب الأولفا ونقلها إلى مكب النفايات.
ومن الأهمية بمكان أن تأخذ الحكومات والعلماء خطورة المد الأخضر بشكل جدي. وتم إطلاق عدة مشروعات في هذا الشأن. وستفضي المبادرات المتكاملة والمتعددة التخصصات إلى فهم أفضل للعوامل التي تحكم ديناميات الازدهار الطحلبي في سياق التأثيرات الفيزيائية والكيمائية، وديناميات النظم البيئية، والآثار البشرية. وهذا بدوره سيؤدي إلى إدارة أكثر فعالية للتخفيف من هذه الظاهرة.