القرم في سلطنة عمان
استزراع مليون شتلة وخطة متكاملة للرعاية والإنماء
بدر بن يوسف البلوشي
مدير مساعد لدائرة صون البيئة البحرية بسلطنة عمان
لطالما اعتبرت أشجار القرم من أهم الموائل البيولوجية القاعية التي تتميز بها سواحل الدول الاستوائية وشبه الاستوائية في أكثر من منطقة ساحلية في العالم؛ وذلك لدورها في حفظ التوازن البيئي، والإكثار من الأسماك الشائعة وذات القيمة التجارية ومن غيرها من الكائنات البحرية التي تعد حاضنات طبيعية لها، فضلا عن كونها مناطق ذات مناظر طبيعية خــــــلابة وجذابة.
وأشجار القرم تنتمي إلى أنواع النباتات الخشبية الصلبة التي تتميز بخاصية مقاومتها للتعفن والتحلل، وبنموها بشكل مستمر وإن كان بمعدلات بطيئة، بسبب الظروف البيئية البالغة الصعوبة التي تنشأ وتترعرع فيها. كما تتميز معظم أنواع القرم بمقاومتها للملوحة ووجود أكثر من آلية لمقاومة والتخلص من الأملاح الزائدة، مثل وجود غدد ملحية خاصة تساعد النبات على إفراز وطرد الأملاح، وإن كان هناك أنواع أخرى من القرم تركز الأملاح في أوراقها، التي تتساقط بدورها بعد ذلك، لتتخلص بهذه الطريقة من الأملاح.
منافع النظام البيئي
يتطلب نمو أشجار القرم في المناطق الساحلية توافر عدد من العوامل الأساسية، مثل درجة الحرارة المناسبة، وملوحة غير فائقة، وتربة طينية ناعمة إلى حد ما، ومدى مناسب من تيارات المد والجذر وكذلك من الأمواج، حتى لا تؤدي هذه التيارات أو الأمواج الشديدة إلى الإضرار بالنبات أو بذوره.
وفي معظم المواقع نجد أن أشجار القرم عادة ما تنمو وسط المستنقعات وتربة غنية تتشكل غالبا من طين ووحل لزج يحتوي على كم كبير من العناصر الغذائية التي تكونت بفعل التحلل البيولوجي لأوراق وثمار الأشجار بواسطة الكائنات الدقيقة والتفاعلات الكيميائية الأخرى. لذا لطالما اعتبرت غابات القرم بيئة مناسبة لتكاثر البعوض وتراكم الوحل والبقايا العضوية القذرة، بيد أن هذه الفكرة السلبية تغيرت بمرور السنين؛ حينما اتضحت أهمية هذه الأشجار وقيمة الوسط المائي والرسوبي الذي ينمو فيه القرم.
وهذا النظام البيئي للقرم يعد أحد أهم الأنظمة البيئية التي تسهم في إثراء التنوع الأحيائي (البيولوجي)، نظرا لاجتذابها أعدادا كبيرة من الطيور والكائنات البحرية الدقيقة وغير الدقيقة، ناهيك عن كونها حاضنة طبيعية لأنواع كثيرة من الأسماك والروبيان والقشريات والمحار والسرطانات وغيرها من الكائنات البحرية، إذ عادة ما تنمو صغار هذه الكائنات في تلك المناطق قبل انتقالها إلى المياه العميقة.
إضافة إلى ذلك، فهي تؤدي دوراً أساسياً في حماية الشواطئ من التآكل عبر تثبيت التربة الشاطئية ومنع انجراف الرسوبيات. كما تسهم في الحد من انبعاثات غازات الدفيئة وفي امتصاص غاز ثاني أكسيد الكربون، ومن ثم تساعد على الحد من آثار وتداعيات تغير المناخ على كوكب الأرض.
وقد عرف الإنسان أهمية القرم منذ القدم فاستغل أخشابه في بناء البيوت والقوارب وإقامة السياج والمنحوتات الخشبية، واستخدم لحاءه في صناعة لب الورق واستخراج عدد من العقاقير الطبية.
حد الاحتمال
أسهمت الزيادة السكانية المطردة وتعاظم الضغوط بسبب الأنشطة البشرية في تزايد الخطر الذي يتهدد غابات القرم، لاسيما أن معظمها ينمو في المناطق الساحلية، المستهدفة بطبيعة الحال بالتنمية السياحية والأنشطة الترفيهية والتوسع العمراني وغيرها. وأدت الأعمال السلبية المصاحبة لهذه الأنشطة إلى سوء استغلال تلك الغابات، مما جعل مساحتها تتراجع في عدد كبير من المناطق، وأدى إلى اختفائها من مناطق أخرى. كما تضررت بالتبعية بعض الأنظمة البيئية الساحلية الأخرى لاسيما الشعاب المرجانية ومروج البحر، نظرا لوجود علاقة تبادلية وتكافلية أصيلة وقوية بين أشجار القرم كنظام منفرد وبين هذه الأنظمة. وعلى سبيل المثال، تعمل أشجار وغابات القرم الموجودة قبالة السواحل على تنقية المياه من العكارة الزائدة والرسوبيات العالقة التي تتسبب في خنق الشعاب وإفساد صفاء المياه المحيطة بها، وفي المقابل تعمل الشعاب على تهدئة الأمواج البحرية وقوة التيارات المد والجزر المتوجهة إلى الشاطئ، فتصل بذلك هادئة إلى المواقع والمناطق التي يوجد القرم بها.
وأدت بعض الأنشطة الأخرى، مثل لجوء العاملين في مجال الرعي إلى قطع بعض أشجار القرم أو أوراق النبات بغرض تغذية مواشيهم من الإبل والأغنام والماعز أو بغرض استخدامها كعلف حيواني، إلى تضرر مزيد من الأشجار. ويلجأ بعض مرتادي الشواطئ إلى ممارسات خاطئة منها صيد الأسماك الصغيرة ويرقات الروبيان بكميات كبيرة، إضافة إلى جمع القواقع والأصداف وبعض القشريات، وهي ممارسات تضر بالتوازن البيئي في بيئة القرم، وتؤثر بشكل أو آخر على المخزون السمكي المتاح.
إن المجال لا يتسع هنا لحصر كل الأنشطة والممارسات البشرية الضارة بهذا الموئل المتميز، لكن علينا أن نعي أن للنظام البيئي لأي موئل بيولوجي، وبخاصة القرم باعتباره من الموائل القاعية الحساسة، حد احتمال وطاقة استيعاب للأضرار، ما يعني أن تعدي هذا الحد سيقود لا محالة إلى خسارة كثير من المنافع والخدمات التي يقدمها.
القرم في سلطنة عمان
تحظى سلطنة عمان بسواحل طويلة تمتد لمسافة 3165 كم، وهي غنية ومتنوعة بمواردها الطبيعية ومناظرها الساحرة وموائلها البيولوجية. وأدى سكانها عبر القرون دورا مهما في التبادل التجاري والثقافي بين الشعوب والحضارات المجاورة لبحر العرب والمحيط الهندي. وكانت غابات القرم شاهدا على هذا الكفاح التاريخي، حيث كان التجار العمانيون يتاجرون منذ القدم بأخشاب القرم وببذورها في رحلاتهم البحرية بغرض التجارة الخارجية. وعلى سبيل المثال، فقد أشارت الحفريات الأثرية التي تم العثور عليها قرب محمية القرم الطبيعية في العاصمة مسقط إلى وجود أشجار القرم في هذه المنطقة واستغلال الصيادين لها منذ ما يزيد على أربعة آلاف عام.
ويسود في سلطنة عمان نوع واحد من القرم هو النوع المعروف بالقرم أو القرم الأسود Avicennia Marina، الـذي تأقلـم بكفاءة مع البيئـة العمانيـة ذات الطقس الحار والمياه العذبة الشحيحة، وامتد بطول سواحل البلاد بإجمالي مساحة كلية تقدر بنحو ألف هكتار أو أكثر. ويتوزع هذا النوع في عدة مناطق ساحلية على سواحل بحر عمان وبحر العرب، بداية من منطقة الباطنة شمالاً، مروراً بالعاصمة مسقط والمنطقة الشرقية والمنطقة الوسطى، وصولاً إلى محافظة ظفار جنوباً. وتعد منطقة القرم بالقرب من العاصمة مسقط من أشهر مناطق انتشار هذا النبات على مستوى السلطنة. وإلى جانب حديقة القرم تنتشر هذه النوعية من الأشجار بكثافة أيضا في بندر الخيران وقريات في مسقط، وخور القرم الكبير وخور القرم الصغير في محافظة ظفار، وولايات شناص ولوى في منطقة الباطنة، وخور صور وجراما وجزيرة مصيرة في المنطقة الشرقية وولاية محوت في المنطقة الوسطى. ووفقا لإحدى الدراسات يستوطن هذه المحميات ما يزيد على 40 نوعاً من القشريات و200 نوع من الطيور وأكثر من 80 نوعاً من الرخويات، إضافة إلى ما يزيد على 100 نوع من الأسماك والكائنات البحرية الأخرى.
وإدراكا لأهمية غابات القرم وإيماناً بدورها الحيوي في حفظ التوازن البيئي وإثراء التنوع الأحيائي، إضافة إلى كونها مناطق طبيعية جذابة وذات قيمة سياحية كبيرة، فقد أولت سلطنة عمان، ممثلة في هيئة البيئة، اهتماماً بالغا بها، حيث أعدت خطة واعدة لصون وإدارة أشجار القرم، كما أعلنت أكثر من منطقة على مستوى السلطنة محمية طبيعية، بهدف حمايتها والمحافظة عليها من جور الأنشطة البشرية.
وقد تشرفت بكوني أحد المساهمين في تلك الخطة، لاسيما أن هناك علاقة عشق بيني وبين هذه الأشجار، لأني من سكان المناطق الساحلية في محافظة مسقط وأعيش بالقرب من محمية القرم الطبيعية الشهيرة. واتخذت هيئة البيئة بسلطنة عمان عددا من الخطوات العملية لتنفيذ تلك الخطة، وطبقت جزءا منها على غابات القرم المكتملة النمو على أسس مستدامة، لأنه يمكن لبعضها أن تكون ذات مردود اقتصادي للسكان المحليين لاسيما إذا ما استغلت في تربية العسل، على سبيل المثال. كما يمكن لبعضها أن تكون أماكن للترفيه والسياحة، فيما لا يمكن إنكار دورها الفاعل والدائم في إثراء التنوع الأحيائي البحري والإكثار من الأسماك والقشريات.
وإضافة إلى كل هذه الجهود، هناك مشروع واعد بدأ في السلطنة عام 2001 بهدف استزراع مليون شتلة من أشجار القرم، واستطاع منذ بدايته وحتى الآن استزراع نحو 700 ألف شتلة. غير أن الهدف الأسمى لهذا المشروع يتمثل في تحقيق التناغم الكامل بين تنمية إقليمية لأشجار القرم على أسس مستدامة وفي الوقت ذات تحقيق مفاهيم صون البيئة، وهو جزء من خطة طويلة الأمد للمحافظة على غابات القرم والموارد الطبيعية والأنظمة البيئية الساحلية الحساسة والمنتجة التي تشكل إحدى أهم السمات البيئية لسلطنة عمان.