د. أحمد العليمي
باحث في مجال التغذية بالمركز القومي للبحوث (مصر)
يشهد الإنسان المعاصر تزايدا كبيرا في ضغوط الحياة التي ربما تؤدي إلى العديد من الاضطرابات النفسية كالاكتئاب والقلق والتوتر. وعند التحدث عن مشكلات الصحة النفسية يتجه معظم الأشخاص إلى التفكير بالاضطرابات العقلية التي قد تصيب الدماغ، في حين كشفت دراسات حديثة أن صحة الأمعاء تؤدي دورا حيويا في اتزان الحالة النفسية والمزاجية.
وتظهر إحصائيات منظمة الصحة العالمية أن الاكتئاب هو أهم مشكلات الصحة النفسية على مستوى العالم. وعلى الرغم من ذلك فإن علاجات الاكتئاب المتاحة تسهم في شفاء نحو 50% من حالاته. وأظهرت دراسات حديثة أن لنوع الغذاء واضطرابات ميكروبات الأمعاء (المعروفة علميا بميكروبيوم الأمعاء) دورا مهما في حدوث العديد من أمراض الصحة النفسية، لذا يسعى ما يسمى (علم الطب النفسي الغذائي) إلى اتباع أسلوب جديد يبعث على الأمل في الوقاية من الاضطرابات الذهنية والمزاجية وعلاجها من خلال تعديل النظام الغذائي.
وليس معنى هذا الامتناع عن تناول الأدوية العلاجية أو جلسات العلاج النفسي، بل على العكس تماما؛ إذ تجب المحافظة على هذا الجانب من العلاج التقليدي مع ضرورة البحث عن طرق مبتكرة تحسن من استجابتنا للعلاج. ويعزى ذلك إلى أن إضطرابات الصحة النفسية تكون متعددة العوامل وتحتاج في كثير من الأحيان لعلاج متعدد الجوانب. ولا ينبغي أن يحل تعديل النظام الغذائي كطريقة للوقاية من المشكلات النفسية أو كطريقة محتملة لعلاج حالات الاكتئاب والقلق واضطرابات الصحة العقلية محل العلاجات الدوائية والنفسية المستخدمة حاليا. فعلى الرغم من أن دماغنا يخلق تجاربنا العاطفية والفكرية، فإنه يجب أن نتذكر أن الدماغ هو عضو حيوي يحتاج إلى التغذية والرعاية، تمامًا مثل القلب أو الكبد.
التهاب الأمعاء والحالة النفسية
تظهر الكثير من الدلائل وجود ارتباط بين حدوث الالتهابات وظهور اضطرابات نفسية، وأن الارتفاع المفاجىء في تركيز السيتوكين IL-6 الداعم لحدوث الالتهابات في السائل النخاعي قد يسبب أعراض اكتئاب لدى الرجال. ووجدت دراسة أجريت على مرضى يعانون اكتئابا شديدا ارتفاعا في بروتينCRP كدليل على وجود التهاب مع انخفاض في السيتوكين المضاد للالتهابات IL-10 . كذلك فإن الأدوية المثبطة للمناعة المستخدمة لعلاج أمراض المناعة الذاتية مثل مرض القولون العصبي قللت من أعراض الاكتئاب لدى كل من البشر وفئران التجارب.
وفيما قد يكون مفاجأة للكثيرين، فإن القناة الهضمية هي أكبر جهاز مناعي في الجسم؛ إذ إن مساحة سطح خملات الامتصاص في الأمعاء قد تغطي نصف مساحة ملعب التنس (نحو 82 مترا مربعا). وتحت هذا السطح الكبير لخملات الأمعاء توجد شبكة متنوعة من الخلايا المناعية مهمتها الأساسية هي حماية صحة الأمعاء والمحافظة على عملها. ويعلو هذه الخملات ناحية فراغ الأمعاء طبقة واقية من المخاط، حيث يوجد فيها وفوقها أكبر تجمع من الميكروبات النافعة (وغير النافعة في بعض الأحيان) في الجسم فيما يعرف بـ (ميكروبيوم الأمعاء).
تؤدي ميكروبات الأمعاء وظائف فسيولوجية مهمة في أجسامنا مثل تسهيل عمليات التمثيل الغذائي، واستقرار خملات الأمعاء، وتوفير التغذية للخلايا المعوية، وإنتاج النواقل العصبية. وتتأثر بكتيريا الأمعاء بشكل مباشر بالطعام الذي نتناوله، لأن طعامنا في النهاية هو طعامها. وتؤثر بكتيريا الأمعاء، بدورها، في حدوث الالتهابات داخل أجسامنا عن طريق هضم طعامنا وتكسيره إلى مركبات تؤثر في الخلايا المناعية. لذلك عندما نتحدث عن النظام الغذائي، فإننا نتحدث عن سلسلة كاملة من الأحداث التي قد تظهر في حالة صحية سيئة عندما تكون غير متوازنة، وقد يؤثر عدم التوازن هذا أيضًا على عقولنا.
لاحظت العديد من الدراسات انخفاض الإصابة بالاكتئاب عند تناول الوجبات الغذائية الغنية بالفواكه والخضراوات والأسماك والحبوب الكاملة وزيت الزيتون، وأن الأشخاص المصابين بمرض السكري، وهو مرض شديد التأثر بطبيعة النظام الغذائي، ينتشر بينهم الإصابة بالاكتئاب بمقدار الضعف، كما أنهم أكثر عرضة للإصابة بالقلق، كما ازدادت نسبة الأشخاص الذين عولجوا من الاكتئاب الشديد عن طريق اتباع نظم غذائية صحية بنسبة 4 أضعاف مقارنة بأشخاص تلقوا الدعم الاجتماعى فقط.
إضافة إلى ذلك، فإن زرع ميكروبات الأمعاء من البشر المكتئبين في فئران التجارب أظهر اكتئابا وقلقا لدى الفئران، مما يشير إلى أن الأمعاء هي مكان حيوي للميكروبات التي يمكن أن تغير من أداء العقل. إن النظم الغذائية التي أظهرت وقاية من اضطرابات الصحة النفسية أو أسهمت في علاجها كان العامل المشترك بينها هو احتواءها على كمية كبيرة من الفواكه والخضراوات والألياف والحبوب الكاملة. وعلى الرغم من أن اتباع نظم غذائية محددة يعد ضروريا لعلاج أمراض مثل القلب والسكري فإنه ليس شائعا في اضطرابات الصحة النفسية.
وهناك عدد كبير من العناصر الغذائية التي يحتمل وجود ارتباط لها بالصحة العقلية، لكن سنتحدث عن المكونات الغذائية التي تسهم في تعزيز الصحة النفسية، ولاسيما فيما يتعلق بأمراض العصر النفسية مثل الاكتئاب والقلق.
أهمية البريبيوتيك
البريبيوتيك هي ألياف من سكريات معقدة غير قابلة للهضم توجد في الفواكه والخضراوات والبقوليات والبذور والحبوب الكاملة. وتعد السكريات المعقدة مصدرًا غذائيا رئيسيا للعديد من البكتيريا النافعة في الأمعاء. تُهضم الألياف وتُكسر بواسطة ميكروبات الأمعاء إلى أحماض دهنية قصيرة السلسلة تؤدي أدوارا مهمة في صحة القناة الهضمية، من خلال اعتبار الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة مصدر الطاقة الأساسي لخملات الامتصاص في الأمعاء، ومحافظتها على الروابط البينية بين خلايا الأمعاء، ومساعدتها على تصنيع مخاط الأمعاء لمنع اختراق الميكروبات للأمعاء والوصول إلى الدم وإحداث أضرار في أجسامنا، ولأنها أيضا توفر رقم الحموضة المناسب في الأمعاء بما يسمح بزيادة أعداد الميكروبات النافعة والحد من نمو الميكروبات الضارة في الأمعاء. إضافة إلى ذلك فهي تدعم نمو الخلايا المناعية وتقلل الالتهابات.
وأوضحت دراسات حديثة أن تناول الألياف الغنية بالفواكه والخضراوات وما تنتجه من أحماض دهنية قصيرة السلسلة في الأمعاء يرتبط بانخفاض معدلات الاكتئاب والقلق والعزلة عن المجتمع. ونظرًا لأن الثأثيرات المفيدة للألياف تنتج من خلال استهلاكها بواسطة ميكروبات الأمعاء، فمن المهم استهلاك الألياف باستمرار للحفاظ على تلك الميكروبات. وتظهر الدلائل أن لأغذية البريبيوتيك، أي الأغذية المتخمرة الغنية بالميكروبات الحية النافعة مثل الزبادي واللبن الرائب والمخللات، فوائد مهمة للصحة العقلية، كتخفيف التهاب الأعصاب المصاحب للعديد من الاضطرابات العقلية. وتوفر أغذية البريبيوتيك بيئة مستقرة في القولون وتحمي من التهابات الأمعاء، مما قد يعطيها تأثيرًا في الصحة العقلية. وثمة ارتباط بين تناول أغذية البريبيوتيك وانخفاض الاكتئاب لدى أشخاص تقل أعمارهم عن 60 عامًا، فتناول سلالة واحدة من الميكروبات النافعة مثل لاكتوباسيلاس ريوتيراي يحمي الفئران من الاكتئاب. ومما ينقص أغذية البريبيوتيك هو عدم وضوح ما تحويه من الميكروبات الحية النافعة من حيث الأعداد والأنواع.
مضادات الأكسدة والمركبات النباتية
مضادات الأكسدة هي مكونات طبيعية تزيل المواد المؤكسدة الضارة في أجسامنا التي قد تسبب تلفًا للخلايا. ووجود الألوان الداكنة للأخضر والأحمر والأزرق والبنفسجي والبرتقالي والأصفر في الفواكه والخضراوات يشير إلى توافر مضادات الأكسدة والفيتامينات المهمة لصحة ميكروبات الأمعاء، والتي لها فوائد عديدة للصحة العقلية. ومن المعروف أن حدوث الإجهاد التأكسدي، الناجم عن إنتاج الشقوق الحرة في الخلايا تحت ظروف التوتر، قد ينشط المواد المحفزة للالتهابات ويؤدي إلى اضطرابات نفسية عدة.
وتشير الاكتشافات الحديثة إلى أن معظم مضادات الأكسدة تخفف أعراض الاكتئاب بشكل مباشر، أو ترتبط بانخفاض معدل الإصابة به. ومن أمثلة مضادات الأكسدة الكاروتينات، وهي مركبات ذات لون أصفر وبرتقالي موجودة في الفواكه والخضراوات مثل الطماطم والجزر والبرتقال والمشمش. وهناك الكركمين الموجود في توابل الكركم، الذي يستخدم عن طريق ميكروبات الأمعاء، ويعمل كمضاد أكسدة قوي ومضاد للاكتئاب. أما الفيتامين سي فهو مضاد أكسدة قوي يوجد في العديد من الفواكه والخضراوات. وهناك البوليفينول مثل الفلافونويدات، وهي مكونات تتوافر في الشاي والموالح والبقوليات، وتحسن من الحالة المزاجية لدى الشباب، والذاكرة والإدراك لدى كبار السن. وتسهم بعض المعادن في تعزيز الصحة النفسية كالزنك. في حين يرتبط نقص بعض الفيتامينات مثل فيتامين بي 9 و بي 12 بضعف الاستجابة لعلاجات الاكتئاب.
ويرتبط النظام الغذائي الغني بالدهون والقليل بالخضراوات بزيادة الإجهاد التأكسدي مما ينتج عنه انخفاض تنوع ميكروبات الأمعاء النافعة مع زيادة أعداد مسببات الأمراض المحتملة في القناة الهضمية، ومن ثم فإن النظام الغذائي منخفض مضادات الأكسدة يعد خسارة مزدوجة؛ عن طريق فقدان العناصر الغذائية المهمة من ناحية وتسبب الضرر للميكروبات النافعة في الأمعاء من ناحية أخرى. ويوصي المتخصصون بالحصول على الفيتامينات ومضادات الأكسدة من الغذاء بدلاً من المكملات الغذائية سابقة التصنيع، لأن الأطعمة الطازجة توفر مجموعة متنوعة من العناصر الغذائية والألياف في وقت واحد وفي صورة يفضلها الجسم.
نصائح تغذوية
ينصح المختصون باتباع عدد من النصائح الغذائية لتحسين الحالة النفسية، منها تناول الخضراوات والفواكه الملونة الغنية بالألياف لدعم الميكروبات النافعة في الأمعاء، والمحافظة على تناول كمية كافية من الألياف تتراوح بين 19-38 غراما من الألياف يوميا، وإجراء تعديلات بسيطة على النظام الغذائي مثل إضافة بذور الشيا والتوت إلى اللبن الزبادي أو تناول التمر بين الوجبات بدلا من المعجنات.
عندما يذهب المرء إلى الطبيب وهو مصاب بأمراض القلب أوالأوعية الدموية أوالسكري، فمن الطبيعي أن يناقش معه ما يأكله، ولا يتم ذلك النقاش عادة في عيادات الصحة النفسية، لكنه قد يصبح جزءًا أساسيا من فحوص الصحة النفسية في المستقبل.