- تجارب الطب الوقائي بالدول المتقدمة أثبتت قدرته على رفع المستوى الصحي للأفراد، وخفض التكاليف الصحية، والعجز المالي الذي تواجهه المؤسسات الصحية والاقتصادية
- نجاح برامج الطب الوقائي يؤدي إلى نجاح برامج الصحة العامة والطب الإكلينيكي (السريري)، وكذلك ضمان استمرارية مفهوم سلامة المرضى
د. عبدالله بدران
حينما تنتشر الأوبئة بين المجتمعات وتستشري أخطارها وتبدأ المنظومة الصحية بالضعف أو الانهيار، ومن ثم يزداد عدد الوفيات والمرضى بصورة كبيرة، يستذكر أبناء تلك المجتمعات تفريطهم الشديد بالإجراءات الوقائية، وإهمالهم الكبير للتعليمات الصادرة عن الجهات الصحية المعنية، وتسود بينهم حالة من الندم على ذلك التجاهل الذي بدر منهم وأدى إلى كوارث صحية لا تحمد عقباها.
وأعادت جائحة كوفيد-19 التي هزت أركان العالم وأضعفت اقتصاداته إلى الأذهان تلك الأهمية البالغة للطب الوقائي، وضرورة اتباع جميع الإجراءات التي ينادي بها، والاستماع إلى صوته التحذيري الدائم من اعتبار احتياطاته أمرا كماليا وهامشيا، بل نوعا من الترف غير المبرر. وبالفعل، فقد أثبتت تجارب وممارسات الطب الوقائي في الدول المتقدمة قدرته على رفع المستوى الصحي للأفراد، ودوره الكبير في خفض التكاليف الصحية، والعجز المالي الذي تواجهه المؤسسات الصحية والاقتصادية.
والطب الوقائي يركز على صحة الفرد والمجتمع، ويهدف إلى الحد من المرض وتجنب حدوثه، أو الإعاقة، وتقليل نسبة الوفيات. وقد شهد العالم خلال العقود الأخيرة تغيرا جذريا واهتماما متزايدا بدوره في الوقاية من الأمراض وخصوصا المعدية والسارية. وهو ما يوضحه كتاب (الطب الوقائي) الذي أعده الدكتور خالد المدني ومجدي الطوخي ونشره حديثا المركز العربي لتأليف وترجمة العلوم الصحية في 12 فصلا ليكون بمنزل مرجع للقارىء غير المتخصص عن أهمية ذلك الطب ودوره في الوقاية من الأمراض.
مفهوم الطب الوقائي
تقوم الركيزة الأساسية للخدمات الصحية العامة على ثلاثة خطوط دفاع رئيسية هي الرعاية الصحية الأولية، ثم الخدمات الصحية الثانوية، ثم الخدمات الصحية الثالثية، ثم تأتي الخدمات الصحية المتقدمة التي تتوفر عادة في مراكز محددة ومدن معينة نظرا لارتفاع التكلفة، سواءً للعلاج أم للأجهزة المستخدمة.
ويعتبر الطب الوقائي، وفق رأي المؤلفين، المدخل الأساسي للمحافظة على الفرد والمجتمع. ويتم ذلك من خلال طريقتين، الأولى: هي الوقاية من الأمراض قبل وقوعها، ومنع انتشار العدوى، والأخرى: هي المحافظة على صحة الفرد والمجتمع بتعزيز مفهوم الصحة العامة والصحة النفسية والتقليل من أسباب التوتر العصبي والنفسي. ونجاح برامج الطب الوقائي يؤدي إلى نجاح برامج الصحة العامة والطب الإكلينيكي (السريري)، وكذلك ضمان استمرارية مفهوم سلامة المرضى.
ويلفت الكتاب إلى موضوع الوقاية المعتمدة على البراهين، ويذكر أن الأطباء يختارون معايير أثبتت فاعليتها بهذا الصدد؛ نظرا لارتباط الوقاية بحدوث تدخل في حياة المرضى الذين لا يعانون الأعراض. ومن هذه المعايير: التحري لآلية تطبيق الوقاية، وتقديم المشورة والنصح، والوقاية الكيميائية، والتحصينات. وتعتبر التدخلات هذه المعايير مهمة نظرا لوجود بعض الضرر من جميع التدخلات وخصوصاً بالنسبة للتحري، وكذلك التحصينات. لذلك تؤكد الوقاية المعتمدة على البراهين على أن أي تدخل بالنسبة للمرضى الذين لا يعانون أي أعراض يكون بوجود أدلة كافية بأن الفائدة منه تفوق الضرر الذي قد يحدث. ويجب أن تكون الفائدة من التدخل ذات أهمية في شكل تحسن في النتائج من حيث الوظائف والصحة، وليس فقط تحسنا مرحليا مثل التحسن في نتائج الاختبارات المختبرية.
وهناك خطوات تنظيمية لتقييم الفائدة النهائية للخدمة الوقائية تشمل تقييم المقدرة على اكتشاف عامل الخطورة أو المرض مبكرا وذلك قبل حدوث أي مضاعفات، وفهم وقياس فاعلية التعرف المبكر لتعديل عامل الخطورة، أو الحالة والتدخل المبكر (مقارنة بالانتظار حتى ظهور الحالة بصورة مرضية)، وفهم وقياس الأضرار التي قد تظهر نتيجة الخدمة الوقائية التي تظهر أيضا من الاختبارات التأكيدية أو العلاجية للحالة، والتوازن ما بين الفوائد الكلية والضرر من هذه الخدمة الوقائية.
إجراءات الممارسات الوبائية
في الفصل الثالث يستعرض الكتاب القواعد والممارسات الوبائية المتخذة في ميدان علوم الصحة العامة والطب الوقائي، ويرى أنها تحتاج إلى مهارة وخبرة، إضافة إلى التأهيل الأكاديمي في هذا المجال. والنتائج المحققة دائما تمس الإنسان حيثما كان، لذلك يجب معرفة بعض التعريفات والمهام التي تدخل في صميم عمل العاملين في الصحة العامة والطب الوقائي.
وتظهر أهمية الدراسات الوبائية في مجال البحوث العلمية، وكذلك في التخطيط للمشاريع الصحية ووضع الميزانيات واستجلاب القوى العاملة. وعدم توفر المعلومات الصحيحة المدعومة بالأرقام والإحصائيات عن الأمراض وأنواعها وأماكن انتشارها والمتأثرين منها، يجعل متخذي القرار في حيرة من أمرهم، ومن ثم قد يترتب على ذلك إنفاق مبالغ كبيرة في غير أماكنها الصحيحة للوقاية والمكافحة من الأمراض. وهناك جملة من الممارسات أو المهارات يجب أن يتقنها العاملون في الطب الوقائي وأهمها الترصد الوبائي، والإحصاء الحيوي.
معضلة الأمراض المعدية
مع انتشار جائحة كوفيد-19 في العام الحالي، وقبلها انتشار عدد من الأمراض الفيروسية خلال العقود الأخيرة حذرت المنظمات المعنية من الأخطار الكبيرة الناجمة عن الأمراض المعدية، وكثفت جهودها في عمليات رصد تلك الأمراض ومكافحتها، والحد من انتشارها بين أفراد المجتمع. ومن المعلوم أن هناك أمراضا معدية وغيرها غير معدية. ويتركز الاهتمام على تلك المعدية باعتبارها تخمل معها خطرا داهما عبى جميع شرائح المجتمع. ومن الأمراض التي تندرج تحت نطاق الطب الوقائي والتي يركز عليها كثيرا: الأمراض الفيروسية، والأمراض المنقولة بالهواء، والأمراض المعدية، والأمراض المنقولة بواسطة الحيوانات.
ومن الجوانب المهمة في الطب الوقائي عملية ضمان السلامة الغذائية من الملوثات البيولوجية التي تسعى الدول إلى تحقيقها على امتداد السلسلة الغذائية بكاملها، من الإنتاج إلى الاستهلاك. وتتم حماية المستهلك فيما يتعلق بسلامة الطعام وأمانه من خلال جهات حكومية وأهلية، فتضع الهيئات المختصة مواصفات الغذاء الصحي، وتحرص على تنفيذ ومراقبة ومراجعة تطبيق هذه المواصفات للمواد المنتجة محليا وتلك المستوردة، إضافة إلى التوعية والتعريف بحقوق المستهلك وواجباته من حيث سلامة الغذاء.
وأصدرت منظمة الصحة العالمية خمس خطوات لضمان السلامة الغذائية من الملوثات البيولوجية هي: الحفاظ على النظافة، وفصل الطعام النيىء عن الطعام المطبوخ، وطهو الطعام لفترة كافية، وحفظ الأغذية في درجات حرارة مأمونة، واستخدام مياه نظيفة وأطعمة طازجة.
الطب الوقائي والتنمية المستدامة
تبرز أهمية عناصر الصحة العامة والطب الوقائي بالتحديد كأحد العناصر المهمة لقياس مدى تقدم الدول، وينعكس ذلك على جودة الخدمات الصحية الوقائية المقدمة للسكان. ويقول المؤلفان إن الرعاية الصحية الأولية تعتبر خط الدفاع الأول في النظام الصحي الحديث، فكلما كان هذا الخط قويا ومتمكنا سيدفع باقي الخدمات الثانوية والمتقدمة إلى الإجادة والإبداع في التخصص بدلا من استهلاك الوقت والمال في خدمات يمكن تنفيذها بأقل التكاليف.
والتمتع بصحة جيدة هو هدف كل إنسان ومحور أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة ويدعم ويعزز كل متطلبات واحتياجات الإنسان من العيش بكرامة، والقدرة على العمل والحصول على التعليم المناسب، والتخلص من الفقر والجوع، ومن ثم العيش في وسط جيد ملائم وتعزيز البيئة الصحية الجيدة. وتختلف خطة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة 2030 عن الخطة السابقة التي كان محور اهتمامها مسببات الأمراض والوفيات في الدول ذات الدخل المنخفض ولاسيما وفيات حالات الأمومة والطفولة، وأيضاً الأمراض السارية والمعدية؛ إذ تهتم خطة التنمية المستدامة 2030 بالعناصر الثلاثة الأساسية المكونة للخطة الشاملة وهي: الاجتماعية، والبيئية، والاقتصادية، وفق ما يذكر المؤلفان.
إن فلسفة هذه الخطة لاتعتمد على التركيز والاهتمام بعنصر واحد أو مرض معين، بل هي شاملة وجامعة، وتعتبر منهج حياة. ويعتمد نظام التأمين الصحي الشامل للفرد على عنصرين رئيسيين هما: الخدمات الصحية الجيدة، والقدرة المادية، ويساهم كلا العاملين في توفير القوى العاملة القادرة والنشيطة، ومن ثم تعزيز دورة الاقتصاد ودعم التنمية المستدامة.