الطب المحرّم
توم أيرلاند Tom Ireland
من الطب النازي إلى الأطفال المعدلين وراثيّاً، للأبحاث غير الأخلاقية تاريخ إشكالي حافل. ولكن ماذا يجدر بنا أن نفعل عندما تقدم نتائج هذه الدراسات رؤية علمية مفيدة؟
قبل أكثر من 30 عاماً، في عام 1988، قرر خبير انخفاض حرارة الجسم Hypothermia، روبرت بوزوس Robert Pozos، الكشف عن وثيقة حاول المجتمع نسيانها طيلة ما يقرب من 40 عاماً. وتضمن التقرير المكون من 68 صفحة وحفظه ضابط بالجيش الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية، تفاصيل عن التجارب المروعة التي أجراها الأطباء النازيون على العديد من الأشخاص في معسكرات الاعتقال. والقراءة عما جرى خلال تلك العمليات، وعن سلوك الأطباء النازيين المتمركزين في معسكرات الاعتقال مثل داخاو Dachau وأوشفيتز Auschwitz، أمر مؤلم. كانت ‘التجارب’ أقرب إلى التعذيب السّاديّ منه إلى البحث العلمي، إذ شملت تجميد يهود حتى الموت أو تشريحهم أحياء أو تسميمهم أو إصابتهم بجروح دون تخدير أو تعقيمهم، وكل ذلك تحت مسمى تطوير الطب النازي.
بعد الكشف عن تفاصيل جرائم الحرب النازية في محاكمات نورمبرغ في أواخر أربعينات القرن الـ20، أودِعَت الوثائق المتعلقة بهذه الفظائع في مكتبة الكونغرس الأمريكي. ولم يكن يتوقع أن يبدي كثيرون اهتماماً بالاطلاع على تلك المواد.
ومع ذلك، يعتقد بوزوس، مدير مختبر يُعنى بأبحاث انخفاض حرارة الجسم من جامعة مينيابوليس University of Minneapolis، أن نتائج بعض هذه الدراسات الشريرة قد تستخدم لما هو مفيد. وقد اعتقد أن التجارب النازية على تأثير البرد – التي أجريت على أمل أن تساعد على إبقاء الطيارين الحربيين الألمان على قيد الحياة لفترة أطول عندما يسقطون في المياه المتجمدة – قد تكون مفيدة في عمله لتطوير علاج للانخفاض الحاد في حرارة الجسم. فقد سجل النازيون بدقة تأثير البرد حتى لحظة الموت Point of death، واختبروا طرق مختلفة لتدفئة الجسم بعد إيصاله إلى حافة الموت. فهذه البيانات هي من النوع الذي لا يمكن لبوزوس الحصول عليه بإجرء تجارب على متطوعين أو مرضى في جناح معالجة الصدمات Trauma ward. ولكنها قد تساعد على إنقاذ الأرواح. وقد عبَّر البعض عن سخطهم إزاء مشروع استخدام ‘الأبحاث’ النازية. إذ كيف يمكن للمرء التعامل مع نتائج على صلة بتعذيب البشر كما لو أنها بيانات علمية؟ ومع ذلك، شعر آخرون، بمن فيهم بعض أقارب الضحايا، بأنه إذا عنى هذا أن المعاناة الرهيبة قد تعود بالخير، فينبغي فعل ذلك. هذه المعضلة أطلقت جدلا أخلاقيا لا تزال الآراء منقسمة حيالها إلى اليوم: ما الذي يجب أن نفعله بنتائج الأبحاث الذميمة أو غير الأخلاقية؟
لم يكن بوزوس الوحيد الذي أراد الاطلاع على الأبحاث النازية وتحليلها. ففي الوقت نفسه تقريباً، مضى خبير آخر في انخفاض حرارة الجسم هو جون هايوارد John Hayward، قدماً واستخدم نتائج التجارب النازية للمساعدة على صنع بدلات نجاة للصيادين العاملين في المياه المتجمدة. وفي عام 1989 كانت وكالة حماية البيئة الأمريكية Environmental Protection Agency (اختصاراً: EPA) بحاجة ماسة إلى فهم كيف يؤثر غاز الفوسجين Phosgene في البشر. والفوسجين مادة كيميائية صناعية مهمة تستخدم في إنتاج مواد بلاستيكية معينة، لكن وكالة حماية البيئة لاحظت أنه بالكاد يمكن العثور على بحث حول موضوع سمية هذه المادة لدى البشر، باستثناء الأوراق البحثية النازية.
لقد سمم النازيون جنوداً فرنسيين بغاز الفوسجين؛ ومات معظم السجناء موتاً بطيئاً ومؤلماً. ونظراً لاستقرار العديد من المجتمعات الأمريكية بالقرب من مصانع إنتاج الفوسجين، ووسط شائعات بأن صدام حسين كان يخطط لاستخدام الفوسجين كسلاح حربي ضد الجنود الأمريكيين، اضطرت وكالة حماية البيئة، ولتقييم الأمر، إلى التفكير في استخدام الدراسة القاتلة التي أجراها النازيون. ولكنها تراجعت في النهاية، وسط زوبعة الاحتجاجات.
ومن ثم، إذا كان يمكن أن تعود تجربة غير أخلاقية بالخير، فهل يجدر بنا استخدامها؟ تقول د. سارة تشان Sarah Chan، خبيرة الأخلاقيات الطبية من جامعة إدنبرة University of Edinburgh: «هناك هاجسان رئيسيان عند التفكير في استخدام هذا النوع من البيانات. أولاً، هل يجعلنا ذلك بطريقة ما متواطئين مع ما حدث من شرور إذا استخدمناها؟ وثانياً، باستخدامها، هل نضفي شرعية على هذا السلوك أو نشجعه في المستقبل؟»
تعتقد تشان أنه إذا كان الناس متأكدين من أن الإجابة عن هذين السؤالين هي لا، فإن استخدام نتائج أبحاث مروعة يمكن تبريره في بعض الأحيان.
ويقول ديفيد ريسنيك David Resnik، اختصاصي الأخلاقيات الحيوية في المعهد الوطني الأمريكي للصحة البيئية US National Institute of Environmental Health: «أعتقد أن لدى كلا الجانبين حججاً وجيهة… في بعض الحالات، قد تكون البيانات ذات قيمة للصحة العامة أو للإسهام في تقدم البحث العلمي؛ ولكن من ناحية أخرى، فإن استخدام بيانات تجارب على الرغم من أنها غير أخلاقية سيمثل سابقة سيئة. وهناك أشخاص يقولون إنه يجب عليك ألا تستخدمها، بغض النظر عن المنفعة المحتملة التي قد تعود بها، لإرسال رسالة مفادها أن الأخلاقيات مهمة ويجب عدم انتهاكها».
قرارات صعبة
في حين تمثل التجارب النازية علامة شائنة في تاريخ البحث الطبي، فإن العديد من أوجه التقدم العظيمة المسجلة في مجال الطب تُعزى إلى أبحاث أخرى تبدو غير مقبولة على الإطلاق بالمقاييس الحديثة. وواجه علماء التشريح الأوائل في إنجلترا وأسكتلندا، مثلا، نقصاً في الجثث التي استخدموها في دراساتهم بسبب القوانين السائدة في ذاك الوقت. فتعلَّم كثيرون، بمن فيهم الطبيب الشهير روبرت نوكس Robert Knox، كيف يعمل الجسم البشري من خلال تشريح جثث سُرقت من القبور أو حتى جثث ضحايا المجرمَين الشهيرَين وليم بيرك William Burke ووليم هير William Hare اللذين ارتكبا جرائم قتل لبيع الجثث إلى نوكس. وعمد طبيب الريف ورائد التطعيم إدوارد جينر Edward Jenner، إلى إصابة ابن البستاني الذي يعمل لديه بجدري البقر Cowpox في فترة مبكرة من عمله البحثي. ويقال إن أبحاث جينر أنقذت حياة عدد أكبر من الناس من أي تجربة أخرى في التاريخ، وحاز بفضل إنجازاته على ميدالية من نابليون. لكن، لو لجأ طبيب إلى مثل هذه التجارب حالياً؛ لاستحق عليها عقوبة السجن.
وفي كلتا الحالتين، لا يمكن عملياً تجاهل أو إبطال التقدم الكبير الذي تحقق نتيجة ممارسات علمية رهيبة. ولكن، على الرغم من الجهود التي بُذلت في أعقاب الحرب العالمية الثانية لصياغة القوانين المتصلة بالتجارب البشرية وتطبيقها، استمرت الممارسات المشينة طوال بقية القرن العشرين. وفي ستينات القرن الـ20 أصاب طبيب الأطفال سول كروغمان Saul Krugman الأطفال الذين يعانون إعاقات ذهنية بالتهاب الكبد الوبائي Hepatitis لدراسة كيفية انتشار المرض. (قال إن المرض كان منتشراً على نطاق واسع في الدار التي أجرى فيها دراسته، بحيث إنهم «كانوا سيصابون به على أي حال»، وحصل على العديد من الجوائز عن عمله هذا). وخلال تجارب توسكيجي Tuskegee Trials سيئة السمعة، التي أشرفت عليها الهيئات الصحية الأمريكية US health agencies، درس الباحثون رجالاً سود مصابين بمرض الزهري على امتداد عقود من الزمن دون إعطائهم أي علاج حتى يتمكنوا من متابعة التطور الطبيعي للمرض. ولم توقف هذه التجارب إلا في سبعينات القرن الـ20.
وتعتقد تشان أنه إذا كان باستطاعة المجتمع استخدام نتائج الأبحاث المشينة دون الإشادة بمن أجروها أو اعتبار ما فعلوه ذا مصداقية، فقد يساعد ذلك في تقليل إغراء الشهرة الذي يدفع البعض للتصرف بشكل غير أخلاقي. وتضيف: «إذا فكرنا فيما يحفز الناس على إجراء أبحاث نعتبرها غير أخلاقية، سنجد أن جزءاً منه هو أنه بغض النظر عن مدى إدانة التاريخ لهم، فسيُشار إليهم بأنهم ‘أول شخص…’ أو ‘مؤلف البحث’. فالأمر يتعلق بالاعتراف بجهودهم. لذلك علينا أن نفكر في كيفية استخدام هذه المعرفة دون الإشادة بالأفعال التي أدت إليها».
يبدو أن هناك زيادة في الأبحاث التي تُعد غير أخلاقية. ومن الأمثلة الحديثة على ذلك، ما فعله عالم الأحياء الصيني هي جيانكوي He Jiankui الذي صدم العالَم في عام 2018 بإعلانه أنه ساعد على ولادة أول طفل معدّل وراثيّاً. لقد قال إنه نجح في توليد طفلتين توأم من أجنة أدخل عليها تعديلاً باستخدام أداة تحرير الجينات كريسبر CRISPR. كان العلماء في جميع أنحاء العالم قد اتفقوا على أن تقنية كريسبر ليست جاهزة بعد لاستخدامها بهذه الطريقة. وإضافة إلى تجاوزه العديد من الخطوط الحمراء الأخلاقية والقانونية، لم ينشر جيناكوي نتائجه. وقد اكتفى بنشر مقطع فيديو على يوتيوب YouTube حول ما فعله. ومع ذلك تصدر بحثه عناوين الصحف ووسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم.
وتقول تشان: «الواقع الذي يتعين علينا التعامل معه هو أن نشر العلم يتجاوز حاليّاً المجلات والنشرات الأكاديمية التقليدية… وبغض النظر عما نفعله لنوضح أنه ‘لن يُعترف بعملك، ولن يُنشر في الأدبيات الأكاديمية، ولن نستشهد بهذا البحث’، مع ذلك سيعرف العالَم بأسره أنه قد حدث وسيرغب في معرفة إن نجح ذلك».
تغيير التعاريف
ما يجعل الأمور أكثر تعقيداً هو أن تعريف ما هو ‘أخلاقي’ وما هو ‘غير أخلاقي’ يتغير باستمرار. وتعتقد تشان أنه من المهم أن نأخذ بالاعتبار ما كان المجتمع العلمي يعده مقبولاً في فترة إجراء البحث. وتقول: «إذا ارتكبت خطأ في الوقت الذي كان جميع زملائك يفعلون الشيء نفسه وكانوا متفقين على أنه مقبول، فسيظل ذلك خطأً، لكنه أقل جسامة من أن تفعل شيئاً قال لك زملاؤك: ‘لا تفعله، إنه أمر مروّع’… فالخطأ يصبح أكبر عند الانتهاك الصارخ لمعايير مجتمعك».
وفي الوقت نفسه، يقول ريزنيك إنه من المحتمل أن يُنظر إلى الأبحاث التي نعتبرها سليمة أخلاقيّاً حالياً بشكل مختلف في المستقبل: «في حياتي فقط، حدثت تغييرات هائلة في كيفية التعامل مع البيانات الطبية الحيوية البشرية. كان أمراً روتينيّاً أخذ عينات من أنسجة العمليات الجراحية واستخدامها في الأبحاث وعدم إخبار المرضى». ويضيف: «لا أعرف ما هي القضايا الأخلاقية التي ستُطرح في المستقبل، ولكن صار من السهل علينا أكثر فأكثر إعادة تحديد مصدر الأنسجة والبيانات الجينية التي اعتقدنا أنها مجهولة المصدر. ومن الممكن أن تتغير الأمور، وما نعتقد أنه مقبول اليوم ربما لا يُعد مقبولا بعد 100 عام من الآن».
في النهاية، عندما يتعلق الأمر بأبحاث قد تنقذ أرواحاً ولكنها تأتي من مصدر فظيع، سيساعدك على أن تضع نفسك في مكان شخص تعتمد حياته على الحصول على أفضل المعلومات المتاحة. وذكرت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) مؤخراً أن الكثير من الجراحين ما زالوا يستخدمون كتاباً يتضمن رسوماً تشريحية ألفه طبيب نازي لأنه يُعدُّ من أفضل الأدلة التشريحية للجسم البشري على الإطلاق. وقد رُسم كتاب طبوغرافيا تشريح الإنسان The Pernkopf Topographic Anatomy Of Man لبرنكوف باستخدام جثث الأشخاص الذين قتلوا على يد نظام الرايخ الثالث النازي، ومع ذلك فإن الأطباء يريدون الحصول على أفضل المواد لتوجيه عملهم.
تقول تشان: «إذا كنتُ على وشك دخول غرفة الجراحة وعلمتُ أنه ستكون لدي فرصة أفضل للبقاء على قيد الحياة إذا استعان جراحي بهذا الكتاب، سأرغب في أن يستعين به». فهل سيكون لديكم الموقف نفسه؟