الزراعة الأسرية..قضاء على الفقر وتنمية مُستدامة
د. محمد البسام
منذ أن وجدت البشرية على هذه الأرض، وأبناؤها يسعون إلى الاستفادة من كل ما تجود به أرضها وسماؤها وبحرها، ومما تحويه من خيرات وإمكانات، بهدف تحسين معيشتهم، واستمرار نشاطهم وبقائهم على قيد الحياة. ولعل الزراعة أهم نشاط مارسه البشر على مر العصور، ومَا زَالت أهمّ نشاطات الحياة لدى عدد كبير من المجتمعات، والمورد الرئيسي للحياة لمجتمعات عديدة، وملاذ الأمن الغذائي لجميع الأمم والشعوب.
ومن أهم أنواع الزراعة ما يدعى (الزراعة الأسرية) التي تشمل كل النشاطات الزراعية التي ترتكز على الأسرة، وهي ترتبط بالعديد من مجالات التنمية الريفية. والزراعة الأسرية وسيلة لتنظيم الإنتاج في مجالات الزراعة والغابات وصيد الأسماك وقطاع تربية الأحياء المائية الذي تقوم بإدارته وتشغيله الأسرة، ويعتمد بصورة رئيسية على العمالة الأسرية من جانب النساء والرجال معاً.
ووفق منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو)؛ فإن الزراعة الأسرية تعد الشكل المهيمن على الزراعة في قطاع الإنتاج الغذائي في البلدان النامية والبلدان المتقدمة على حدٍ سواء. وعلى الصعيد القطري، ثمة عدد من العوامل التي تعتبر مفتاحاً لنجاح تنمية وتطوير الزراعة الأسرية مثل: الظروف الزراعية الإيكولوجية والخصائص التضاريسية، وبيئة السياسات، والوصول الى الأسواق، والوصول الى الأراضي والموارد الطبيعية الأخرى، والوصول الى التكنولوجيا والخدمات الإرشادية، والوصول الى الائتمان، والأوضاع الديمغرافية والاقتصادية والاجتماعية الثقافية، إضافة إلى توافر التعليم المتخصص.
اهتمام عالمي
وهذه الأهمية الدائمة للزراعة الأسرية دعت الأمم المتحدة إلى تخصيص سنة دولية لها دعيت (السنة الدولية للزراعة الأسرية 2014) تستهدف إعلاء شأن هذه الزراعة من خلال تركيز انتباه العالم على دورها المهم في التخفيف من وطأة الجوع والفقر، وذلك بالنظر الى مساهمتها في توفير الأمن الغذائي والتغذية، وتحسين سبل المعيشة، وإدارة الموارد الطبيعية، وحماية البيئة، وتحقيق التنمية المستدامة، وبوجه خاص في المناطق الريفية. ويتمثل الهدف العام للسنة الدولية للزراعة الأسرية في إعادة الزراعة الأسرية لتحتل مركز السياسات الزراعية والبيئية والاجتماعية في الأجندات القطرية، وذلك من خلال تحديد الفجوات والفرص المتاحة من أجل تشجيع التحوّل نحو تنميةٍ أكثر تكافؤاً وتوازناً. ولذلك ستقوم السنة الدولية بتشجيع النقاش والتعاون الواسع النطاق على الأصعدة القطرية والإقليمية والعالمية من أجل زيادة التوعية وفهم التحديات التي تواجه صغار المزارعين ، ومن ثم المساعدة على التعرف إلى السبل السليمة والكفؤة لدعم أصحاب المزارع الأسرية.
وكانت الجمعية العمومية للأمم المتحدة في دورتها الـ66 أعلنت عام 2014 السنة الدولية للزراعة الأسرية)، ووجّهت الدعوة الى منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة لتيسير تنفيذها، وذلك بالتعاون مع الحكومات ووكالات التنمية الدولية ومنظمات المزارعين والمنظمات الأخرى، ضمن منظومة الأمم المتحدة، إضافة إلى المنظمات غير الحكومية ذات الصلة.
وقال المدير العام للمنظمة جوزيه غرازيانو دا سيلفا بهذه المناسبة إن صغار المزارعين وصيادي الأسماك وأسر الرعاة كان ينظر إليهم في أجزاء كثيرة من العالم لسنوات عديدة بوصفهم جزءاً من مشكلة الجوع. لكن لا يمكن اعتبار هذا القول صحيحاً؛ إذ إن مزارعي الأسرة هم بالفعل منتجو الغذاء الرئيسيون لدى معظم البلدان، بل وبوسعهم أن ينجزوا أكثر من ذلك إذا ما تلقوا الدعم الصحيح.
وأقر المسؤول الدولي بأن تحسين فرص الحصول على الخدمات المالية والتدريب والميكنة والتكنولوجيا يمكن أن يحوّل مزارعي الكفاف إلى منتجين ذوي كفاءة، مبينا أن الزراعة الأسرية التي تؤدي إلى زيادة الإنتاج مع الحفاظ على الموارد الطبيعية، يمكن أيضاً أن توفر بديلاً مستداماً للتكنولوجيا الكثيفة المدخلات التي تمخضت عن الإضرار بنوعية التربة والأراضي، والمياه، والتنوع البيولوجي.
رسائل رئيسية
تعتبر الزراعة الأسرية هي الشكل المسيطر من أشكال الزراعة، وذلك في البلدان المتقدمة والبلدان النامية على حدٍ سواء. ويوجد في العالم ما يزيد على 500 مليون مزرعة أسرية. وتتم إدارة النشاطات الريفية لهذه المزارع وتشغيلها من جانب الأسرة، وهي تعتمد بصورة أساسية على العمل الأسري. ويمتد نطاقها ليشمل أصحاب الحيازات الصغيرة والمزارعين المتوسطي النطاق والفلاحين والشعوب الأصلية والمجتمعات المحلية التقليدية وصيادي الأسماك والرعاة وجامعي الثمار من الغابات وجماعات أخرى كثيرة في أي منطقة أو مجمع حيوي حول العالم، وفق تقرير خاص لمنظمة (فاو).
ويشكل المزارعون الأسريون جزءاً مهماً من الحل للتوصل إلى عالمٍ متحرر من الفقر والجوع، وفي أقاليم كثيرة، يعتبر المزارعون الأسريون هم المنتجين الرئيسيين للمواد الغذائية التي نستهلكها يوميا في وجباتنا.
وحالياً يعيش ما يزيد على %70 من السكان الذين يعانون انعدام الأمن الغذائي في مناطق ريفية بإفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأدنى، ومعظمهم مزارعون أسريون، خصوصاً أصحاب الحيازات الصغيرة، ويفتقرون للوصول إلى الموارد الطبيعية والسياسات والتكنولوجيات.
وقال التقرير إن جميع الأدلة والبراهين تثبت أن بمقدور المزارعين الأسريين الفقراء تحريك إمكاناتهم الإنتاجية بصورة سريعة حالما يتم وضع بيئة السياسات الملائمة موضع التطبيق.
ويشكل تيسير الوصول الى الأراضي والمياه والموارد الطبيعية الأخرى وتنفيذ سياسات عمومية مخصصة للمزارعين الأسريين – لاسيما الائتمان والمساعدات التقنية والتأمين والوصول الى الأسواق وشراء القطاع العام لمنتوجاتهم والتكنولوجيات الملائمة – عناصر رئيسية لزيادة الإنتاجية الزراعية واستئصال الفقر وتحقيق الأمن الغذائي العالمي.
الزراعة الأسرية والنظم المتطورة
يطبق المزارعون الأسريون نظماً زراعية ترتكز على تنويع المحاصيل، ويحافظون على المنتجات الغذائية التقليدية، وهو ما يساهم في توفير وجبة متوازنة وحماية التنوع البيولوجي الزراعي العالمي.
وأوضح التقرير أن المزارعين الأسريين ينغمسون في صميم الشبكات المناطقية والثقافات المحلية، وينفقون معظم دخلهم ضمن الأسواق المحلية والإقليمية، ما يولِّد الكثير من الوظائف الزراعية وغير الزراعية.
كمَا أنَّ هنالك دوراً رئيسياً لحَلقات الإنتاج والاستهلاك المحلية التي ترتكز على الزراعة الأسرية لتضطلع به في الحرب على الجوع، خصوصاً عندما يتم ربطها بسياسات الحماية الاجتماعية التي تلبّي حاجات السكان من الفئات الضعيفة.
وجميع الخصائص الآنفة الذكر تمكّن المزارعين الأسريين من الانفراد بالإمكانات اللازمة للسير قٌدٌماً صوب تحقيق نظم غذائية منتجة ومستدامة إذا ما ساندتهم بيئات السياسات في هذا المسار.
وبهذا الصَّدد تتيح السنَة الدولية للزراعة الأسرية فرصة سانحة لزيادة تسليط الضوء على الدور الاستراتيجي للمزارعين الأسريين في التنمية الزراعية والريفية وتعزيز قدراتهم.
ويمكن للحكومات أن تدلل على التزامها السياسي من خلال بناء الإطار التشريعي والقانوني والمؤسسات والسياسات الداعمة للمزارعين الأسريين. وعلى سبيل المثال، فإنَّ تأسيس المنابر اللازمة للحوار في مجال السياسات مع منظمات المزارعين الأسريين من أجل توليد توافق في الآراء، ورسم وتنفيذ سياسات فعالة تعد من الأهداف الرئيسية التي ترمي إليها تلك السنة الدولية. كما أنَّ التعاون الدولي يمكن أنْ يعزِّز الحِوار في مَجال السياسات بين جميع أصحاب المصلحة، وأنْ يُساعد على بناء حلول ناجعة ومستدامة.
تعاون استراتيجي دولي
إنَّ مشاركة مجموعة كبيرة من أصحاب المصلحة في إعداد وتنفيذ خطة عمل السنة الدولية للزراعة الأسرية وتطوير شراكات استراتيجية ومبتكرة، إضافة إلى تعميق وترسيخ الشراكات القائمة حالياً، أمرٌ حاسم لكفالة الاقتناع بها ونجاحها.
وتشجع اللجنة التوجيهية الدولية – التي تضم جهات عدة – إدماج المسائل المتصلة بالزراعة الأسرية في عمليات رسم السياسات على الأصعدة القطرية والإقليمية والعالمية. ومن الآليات أيضاً تطوير التحالفات الاستراتيجية عبر قيام منظمة الأغذية والزراعة بتيسير تطوير تحالفاتٍ استراتيجية يتمثل القصد منها في تعزيز تحقيق أهداف السنة الدولية.
وتضم هذه التحالفات وكالات الأمم المتحدة الأخرى، ولجنة الأمن الغذائي العالمي، والمنظمات غير الحكومية، ومنظمات المزارعين، والجماعة الاستشارية للأبحاث الزراعية الدولية، والمؤسسات المالية الدولية وبنوك التنمية، والصناديق المختلفة والقطاع الخاص.
أهداف وخطوط عمل
ثمة أهداف رئيسية للسنة الدولية للزراعة الأسرية ذكرتها منظمة (فاو) وهي:
أ – دعم ومساندة تطوير سياساتٍ زراعية وبيئية واجتماعية من شأنها أن تفضي الى زراعة أسرية مستدامة، وذلك من خلال تشجيع الحكومات على تأسيس بيئةٍ تمكينية (سياسات محفّزة، وتشريعات
مواتية، وتخطيط تشاركي للحوار في مجال السياسات، واستثمارات) من أجل تنمية الزراعة الأسرية بصورة مستدامة.
ب – زيادة المعرفة والتواصل والوعي العام، ويتم ذلك عبر الأمور الآتية:
1 – زيادة توعية الجمهور في شأن الزراعة الأسرية والزراعة الريفية وصيد الأسماك الصغير النطاق ومساهماتها (الفعلية والممكنة/المحدَّثة معاً) في الأمن الغذائي، وتحسين التغذية، واستئصال شأفة الفقر، والنمو الاقتصادي، وتوليد فرص العمل وتحسين سبل المعيشة، والتنمية المناطقية، والاستخدام المستدام للموارد الطبيعية، خصوصاً لدى فقراء الموارد من المزارعين والصيادين والعاملين في مجال الصيد.
2 – زيادة توعية الجمهور ومعرفته بشأن تنوع وتعقيد نظم الإنتاج والاستهلاك في قطاعات الزراعة الأسرية والزراعة الريفية وصيد الأسماك الصغير النطاق.
3 – تعزيز الحوار والتعاون الدولي.
4 – زيادة توعية الجمهور ومعرفته بشأن الزراعة الأسرية والزراعة الريفية وصيد الأسماك الصغير النطاق، وبشأن الاتجاهات في مجالات السياسات والاستثمارات، مع التشديد على “قصص النجاح” والسياسات الجيدة والممارسات المثلى.
5 – زيادة الفرص المتاحة أمام صغار المزارعين وروابطهم للحوار والمشاركة والوصول إلى المعلومات.
اكتساب فهمٍ أفضل لحاجات الزراعة الأسرية وطاقاتها الكامنة والقيود التي تواجهها، وكفالة توفر الدعم الفني اللازم لها، وذلك عبر تحديد وتشجيع وتعزيز الدعم الفني لأعمال تنمية القدرات، بما في ذلك السياسات، ومحاولة الوصول إلى الجهات الفاعلة غير الزراعية (المؤسسات المالية وبنوك التنمية وصنّاع السياسات.. الخ) والتواصل معهم من أجل زيادة توعيتهم ومعرفتهم بشأن إمكانات الزراعة الأسرية والزراعة الريفية في مجال التنمية المستدامة، وتشجيع القيام بأعمال فعلية تخدم الزراعة الأسرية، وذلك على الأصعدة العالمية والإقليمية والوطنية والمحلية.
ورصد كيفية تطور المزارع الأسرية والسياسات المتصلة بالزراعة الأسرية والزراعة الريفية، وخلق فرص تآزر للاستدامة، وذلك عبر تشجيع إدخال رؤية السنة الدولية للزراعة الأسرية في صلب العمليات واللجان الدولية، وضمان انعكاس الأعمال الطويلة الأجل المتصلة بالزراعة الأسرية في الأجندة الدولية (إطار ما بعد 2015)، وإيجاد صور من التعاضد والتكاتف مع السنوات الدولية الأخرى، خصوصاً التعاونيات الزراعية.