الحسن بن الهيثم مؤسس علم الضوء الحديث
د. سائر بصمه جي
جميعنا يفتح عينيه عندما يولد ليدخل إليهما النور ويتحسس ما حوله، إلا أن بعض الأشخاص يفتح عينيه ويفتح معهما عقول الكثير من الناس بما رأى من النور. وكان من هؤلاء صاحب احتفالية الألف الثالث للميلاد عالمنا العربي الحسن بن الهيثم البصري(430-354هـ/ 1039-965م)، أبو علي شيخ البصرة، الطبيب والفيزيائي والفلكي والرياضي، أحد عباقرة العلم في العالم.
كان ابن الهيثم شغوفاً بالعلم، محباً للاطلاع والاستكشاف، درس طب العيون (الكحالة كما كانت تسمى)، لكن ابن الهيثم لم يمارس العمل فيه لأنه ربما لم يجد ما يحقق به ذاته، كما هي الحال في العمل في الرياضيات والفيزياء، لقد وجد نفسه مبدعاً فيهما أكثر من طب العيون، والدليل على ذلك من مؤلفاته التي بلغت (80 في الرياضيات والفيزياء والفلك) وكتاباً واحداً في علم الطب. وحتى أواخر حياته نجده قد فضّل أن ينسخ الكتب ويعيش عيشة الكفاف على أن يمارس طب العيون.
كان ابن الهيثم كثير الأسفار والترحال في طلب العلم، فسافر إلى بغداد وبلاد الشام ومصر وتنقّل في أرجاء الإمبراطورية الإسلامية. وفي أسفاره اطلع على حضارة الأمصار ولم تفته معرفة وصل إليها العلم في عصره وقبل عصره، فقرأ ما كتب وذلك حتى ينطلق من حيث انتهى الآخرون، وهي البداية الطبيعية والصحيحة لتطوير العلم.
مصادر علم الضوء
عرف علم البصريات Optics عند العرب باسم (علم المناظر). وكان المسلمون قد أخذوا أطراف هذا العلم من اليونانيين السابقين أمثال إقليدس صاحب كتاب (اختلاف المناظر)، الذي ترجمه حنين بن إسحق وصححه ثابت بن قرة، وأبولونيوس وأرخميدس وأرسطو وهيرون، وبطلميوس صاحب كتاب (كتاب المناظر) وغيرهم.
وقد ألفّ علماء مسلمون قبل ابن الهيثم في هذا العلم مثل الكندي والرازي وإبراهيم بن سنان والعلاء بن سهل، إلا أن هذا العلم لم يأخذ سمته العلمية إلا على يدي قامة كبيرة من قامات العلم هي الحسن بن الهيثم في مستهل القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي).
ملاحظات حول الاسم
قبل أن ندلف في سيرته العلمية يجدر بنا أن نشير إلى بعض الإشكاليات المتعلقة باسم ابن الهيثم، سواء اسمه الحقيقي العربي أو الأجنبي أو لقبه.
إذْ يجب أن ننتبه للتمييز بين شخصين لهما اسمان متقاربان جداً عاشا في القرن نفسه:
– الأول اسمه: الحسن بن الحسن بن الهيثم (وهو الفيزيائي الذي يحتفل به هذه السنة).
– والثاني اسمه: محمد بن الحسن بن الهيثم (وهو فيلسوف في القرن 5هـ/11م).
وهو ما جعل الكثير من كتّاب السير المحدثين يقعون في هذا الخلط بينهما. ويعود أصل الخطأ في البداية إلى ابن أبي أصيبعة في كتابه (عيون الأنباء في طبقات الأطباء)، الذي ظن أنهما شخص واحد، في حين أنهما شخصان مختلفان كما أكد ذلك الباحث رشدي راشد في دراسة نشرها في كتابه (الرياضيات التحليلية).
أما ما وقع من خلط بين اسم الحسن بن الهيثم والعالم الفلكي (أبي جعفر الخازن) صاحب كتاب (زيج الصفائح) في الغرب الأوروبي، والفيزيائي أبو الفتح عبد الرحمن الخازني صاحب كتاب (ميزان الحكمة)، فقد كان بسبب رسم الأسماء الثلاثة باللغات الأجنبية:
Al-Khazeni, Al-Khazen, Al-Hazen, Alhazenus وهو ما أدى إلى الخطأ في ترجمة الاسم التي قام بها البولوني فيتلو Vitelo الذي ألف كتاباً عن البصريات عام 1270م، معتمداً على كتاب ابن الهيثم الذي عُرِف في العالم اللاتيني باسم (الهازن). وقد كرّس هذا الاسم رزنر – طوال القرون الوسطى- عندما قام بترجمة (كتاب المناظر) للاتينية عام 1572م تحت عنوان (الذخيرة في البصريات للهازن)، وبقي الأمر كذلك حتى حسمه الباحث الألماني إيلهارد فيدمان عام 1876م عندما عثر على مخطوطة عربية في مكتبة ليدن تحمل عنوان (تنقيح المناظر لذوي الأبصار والبصائر) لكمال الدين الفارسي، فكان أن عقدَ فيدمان مقارنةً بين (الذخيرة) و(التنقيح) وتبين له أن الذخيرة ترجمة لكتاب المناظر للحسن ابن الهيثم، وأن اسم (الهازن) ما هو إلا تحريف لاسم (الحسن).
أما بخصوص تلقيبه من قبل المؤرخين وغيرهم بــ (بطلميوس الثاني)، أو (الحكيم بطلميوس الثاني) فكان تمييزاً له عن لقب أحد حكام مصر (بطلميوس الثاني) ابن الملك بطلميوس الأول الذي اعتلى عرش مصر سنة 285 ق.م. وكذلك تمييزاً له عن البتاني الذي حصل على لقب مماثل هو (بطلميوس العرب)، صاحب الإنجازات الفلكية المهمة، والاثنان حصلا على اللقب تشبيهاً لهما بالعالم الفلكي والرياضي والجغرافي السكندري «كلوديوس بطلميوس» الذي عاش في القرن الثاني الميلادي، والذي كتب أيضاً في مجال البصريات.
قائد ثورة في الضوء
اتبع ابن الهيثم في أبحاثه كلها- وما كان في الضوء منها خاصة- طريقة مثلى، فقد بنى منهجه العلمي على الاستقراء والقياس والتمثيل، أو كما يقول: «… نبتدئ باستقراء الموجودات وتصفح أحوال المبصرات وتمييز خواص الجزئيات، ثم نرتقي في البحث والمقاييس على التدريج والترتيب، مع انتقاد المقدمات والتحفظ من الغلط في النتائج…». وكان يجعل غرضه في سائر ما يميزه وينتقده طلب الحق لا الميل مع الآراء واتباع الهوى. ويعترف أنه بعد كل ذلك ليس «براء مما هو في طبيعة الإنسان من كدر البشرية»، ولكن يجتهد بقدر ما له من القوة الإنسانية، ومن الله يستمد العون في جميع الأمور.
هذا النهج الذي سلكه ابن الهيثم وألزم نفسه به هو الذي سمي فيما بعد المنهج العلمي، وعلى هذا يكون قد سبق روجر بيكون الذي ينسب إليه هذا الفضل. ولم يسبقه فحسب، بل تفوق عليه بإضافته مبدأ العمل بالقياس والتمثيل واستطاع أن يجمع بين المقدرة الرياضية والكتابة العلمية.
نخلص من آراء ابن الهيثم ومنهجه الذي أقره وسار عليه، أنه كان مخلصاً في طلب العلم، منصفاً لمن سبقه من العلماء، ومدركاً للوضع الصحيح للبحث العلمي ووظيفته ومهمته.
وإذا حكّمنا (المناظر) لابن الهيثم في مجال الضوء فلن نجد بينه وبين (مبادئ) نيوتن أي فرق من حيث الأثر العلمي الثوري؛ فمفهوم «الثورة العلمية» ينطبق على عمل ابن الهيثم لأنه صحح أخطاء من سبقه، وامتد أثره ليشمل حقولاً معرفية واسعةً قد قَبِلَ بها المجتمع العلمي، ونجحت في تطبيقاتها، وفتحت آفاقاً جديدة مستقبلية ولزمن طويل. وكما أن نيوتن كان يتبع منهجية علمية صارمة في صياغة أبحاثه، نجد الأمر ذاته لدى ابن الهيثم، وإلا لما كان له كل هذا الأثر العلمي الواسع والشامل.
كيف نرى الأشياء؟
عاجلاً أم آجلاً، كان لطبيب عيون وفيزيائي محنك في البصريات مثل ابن الهيثم أن يدرك خطأ نظرية (الشعاع) التي تقر بأن عملية الرؤية تتم بسبب خروج شعاع مخروطي رأسه عند العين وقاعدته عند الجسم المُبْصر.
قال ابن الهيثم بخطأ نظرية (أصحاب الشعاع) كما كان يسميهم؛ وهم: إقليدس، بطلميوس، ومن شايعهم من الرواقيين؛ فعملية الإبصار تتم بانعكاس الضوء عن الجسم ومن ثم دخول الشعاع إلى شبكية العين والذي يلامس بدوره العصب البصري الذي ينقل الصورة إلى الدماغ. وقد قدم دليله بأننا لا نستطيع رؤية الأجسام في الظلام الدامس، مع أن العين صحيحة سليمة. وقد اتفق كل من ابن سينا والبيروني مع ابن الهيثم في قوله هذا.
وقد تحدّث عن وضوح الرؤية، وإدراك الظلمة والظلال، وشروط صحة الإبصار وعيوب البصر التي تنتج عن غياب واحد أو أكثر من شروط صحة الإبصار. وقد وضع ابن الهيثم ثمانية شروط يراها لازمة لإدراك المبصر هي: الاستضاءة، البعد المعتدل، المواجهة، الحجم المقتدر، الكثافة، شفيف الوسط، الزمان، وسلامة البصر.
وما يدعو إلى الإعجاب حقاً كما يقول الأستاذ مصطفى نظيف: «أن ابن الهيثم منذ أكثر من تسعة قرون خلت قد تناول هذا الأمر وما يرتبط به من مسائل كثيرة بالدرس والشرح، وأدرك ما لهذه المسائل من الخطورة في موضوع الإبصار، في حين أن هذه الناحية من الإبصار لا نغالي إذا قلنا إنها لم يبدأ يُعنى بها بعد نهضة العلم الحديثة في أوروبا إلا في النصف الأول من القرن العشرين، عندما أخذت تتجه إليها عناية بعض علماء العلم التطبيقي من المهندسين الذين يعنون بشؤون الإضاءة، وأخذت بحوثهم التي يسلكون فيها السبل العلمية الحديثة تؤدي إلى نشوء فرع من فروع الهندسة الحديثة هو فرع «هندسة الإضاءة»، وإن كان الغرض الأول منه البحث عن قواعد الإضاءة المثلى التي تكفل أن يكون الإبصار بيناً محققاً على غاية ما يستطاع الإبصار البيّن المحقق في الحياة، وخصوصاً الأغراض الحربية لتضليل الخصم كستر الحركات وحجب المواقع».
انعكاس الضوء
وجد ابن الهيثم أنه ثمة خصائص في الحركة الميكانيكية تماثل ظاهرة انعكاس الضوء، وهو ما يسمى بالمماثلة Analog. فقد لاحظ أن بين امتداد الضوء وانطلاق الجسم المادي في الهواء شبهاً، إلاّ أن في الجسم المنطلق قوة تحركه إلى أسفل، ومن خصائص الضوء، أنه يستمر في امتداده على السّمت (الاتجاه المستقيم) الذي بدأ به حتى يعترضه حاجز، فيتبدل حينئذ سيره من حيث الاتجاه والمقدار (الزيادة والنقص في سرعته). وقد توصل ابن الهيثم إلى النسبة التي يكون بها هذا التبدل في اتجاه الضوء وسرعته. وتوصل أيضاً إلى أن سرعة الضوء بعد الانعكاس تساوي سرعته قبل الانعكاس.
يقول الأستاذ جون بزوند برناك، رئيس قسم الفيزياء في كلية بيركبك بجامعة لندن: «يعتبر كتاب المناظر لابن الهيثم هو أول دراسة علمية جادة في موضوع الضوء، وابن الهيثم وغيره من علماء العرب أول من فهم موضوع انعكاس الضوء كمفهوم جديد، وبمرور الضوء خلال الأجسام المشفة، الأمر الذي كان له الفضل في إرساء قواعد علم البصريات».
انكسار الضوء
ضمّن ابن الهيثم شروحه التجريبية الكمية في انعطاف الضوء (وهو مصطلح الانكسار كما كان يسميه) من الهواء في الزجاج، وانعطافه من الزجاج في الهواء، حكماً تاسعاً يعني أن الشعاع النافذ من وسط لطيف إلى وسط غليظ إذا نفذ في الوسطين نفسيهما في الاتجاه المضاد، أي من الغليظ إلى اللطيف، وكانت زاوية السقوط في الحالة الثانية هي عين زاوية الانكسار في الأولى، فإن زاوية انعطافه في الحالتين واحدة، أي كان خط مسيره فيهما هو هو.
وهذا الحكم التاسع صريح في تضمنه معنى قاعدة قبول العكس المعروفة حالياً، والمرتبطة فيما يتعلق بالانعطاف بمعنى معامل الانكسار وثبوته لكل وسطين معنيين. وهذان المعنيان مرتبطان بثبوت نسبة جيب زاوية السقوط إلى جيب زاوية الانكسار لكل وسطين، وثبوت هذه النسبة بقي مجهولاً حتى القرن التاسع عشر.
وحتى تكون دراسته كمية ودقيقة قام بتصميم جهاز خاص بالانكسار، وربما يكون الأول من نوعه. وقد وجد ابن الهيثم أن انعطاف الضوء لا يتم آنياً، أي إن انتقاله في الوسط المشف لا يكون دفعة واحدة وفى غير زمان، بل إنه يستغرق زمناً معيناً محدوداً بسرعة معينة، وأن سرعته في المشف الألطف أعظم من سرعته في المشف الأغلظ، و«إذا كان الثقب مستتراً، ثم رفع الساتر فوصول الضوء من الثقب المقابل، ليس يكون إلا في زمان، وإن كان خفياً على العين». وهذا ما نعلمه اليوم.
الظاهرات الضوئية الجوية
شرح ابن الهيثم في كتابه بعض الظاهرات التي تنشأ عن الانكسارات والانعكاسات الضوئية في طبقات الجو. مثل انكسار الضوء الآتي إلينا من النجوم والشمس والقمر عند اختراقه جو الأرض، حيث يبدو الجرم أرفع من حقيقته عندما يكون قريباً من الأفق، أو أنه يبدو فوق الأفق وهو تحته، أو ظهور قرص الشمس أو القمر بيضوياً بدل الاستدارة. كذلك فقد فسر ابن الهيثم الهالة التي تحيط بالقمر أو الشمس أحياناً، وهي تنتج من انكسار الضوء الآتي منهما خلال بلورات الجليد الصغيرة العالقة في أعالي الجو. كما كتب في تعليل الشفق والغسق، وهما حمرة السماء التي تبدو فوق الأفق قبل شروق الشمس وبعد مغيبها حيث يظهران حينما تكون الشمس تحت الأفق. وبين كذلك أن الزيادة الظاهرية في قطري الشمس والقمر عندما يكونان قريبين من الأفق هي زيادة وهمية لا حقيقة لها.
البحث في طبيعة الضوء
لم يقف ابن الهيثم عند حدود الظاهرات الضوئية من انعكاس وانكسار وغيرها؛ بل مضى لأبعد من ذلك، إنه يريد أن يعرف ما هي حقيقة الضوء، ومن أي شيء هو.
نعلم اليوم بأن الضوء شكل من أشكال الطاقة، وهو عبارة عن موجات كهرمغنطيسية تنتشر بسرعة كبيرة. وقد ميز ابن الهيثم تمييزاً واضحاً بين البحث في ماهية الضوء (طبيعته) ودراسته من الناحية الهندسية (بصرياته) فقال: «الكلام في مائية الضوء من العلوم الطبيعية «الفيزيائية» والكلام في كيفية إشراق الضوء محتاج إلى العلوم التعليمية «أي الرياضية» من أجل الخطوط التي تمتد عليها الأضواء وكذلك الكلام في مائية الشعاع وهو من العلوم الطبيعية والكلام في شكله وهيئته وهو من العلوم التعليمية، وكذلك الأجسام المشفة التي تنفذ الأضواء فيها والكلام في مائية شفيفها وهو من العلوم الطبيعية، والكلام في كيفية امتداد الضوء فيها وهو من العلوم التعليمية، فالكلام في الضوء وفي الشعاع وفي الشفيف يجب أن يكون مركباً من العلوم الطبيعية والعلوم التعليمية».
ثم يبين لنا ما هي طبيعة الضوء قائلاً: «الأضواء هي حرارة نارية وما كان منها قوياً كان محرقاً وما كان منها ضعيفاً كان غير محرق، فجميع الأضواء عند أصحاب التعاليم هي حرارة نارية وإنما تظهر في الجسم المضيء كما تظهر النار في الجسم الحامل للنار».
وما يقصده (بحرارة نارية) الطاقة الضوئية وفق مصطلحاتنا اليوم، فإذا زادت كثافتها في الأشعة الحاملة لها كانت محرقة، وإذا كانت ضعيفة لم تكن محرقة. إذاً؛ ابن الهيثم يرى أن طبيعة الضوء ماديّة؛ لذا فهو يرتد (ينعكس) إذا وقع على الأجسام الصّقيلة «فالضوء إذا لقي جسماً صقيلاً فهو ينعكس عنه من أجل أنه متحرك، ومن أجل أن الجسم الصقيل يمانعه، ويكون رجوعه في غاية القوة، لأن حركته في غاية القوة، ولأن الجسم الصقيل يمانعه ممانعة فعالة».
وينقسم الضوء عند ابن الهيثم إلى قسمين، الأول سمّاه الضوء الذاتي وهو الذي ينبعث من الأجسام المضيئة بذاتها مثل ضوء الشمس وضوء النار. والثاني سمّاه الضوء العرضي، وهو الذي ينبعث من الأجسام غير المضيئة بذاتها، إلا أن خصائص هذين النوعين من الضوء متشابهة في إشراقها على شكل خطوط مستقيمة، ومتشابهة من حيث القوة والضعف تبعاً لزيادة القرب أو البعد.
سرعة الضوء
كان الرأي الشائع في الفترة الأولى متأثراً بما قاله اليونانيون بأن سرعة الضوء لا نهاية لها، وأن الضوء لا يحتاج إلى زمن لدى انتقاله من مكان إلى آخر.
في حين أن مسألة سرعة الضوء عند ابن الهيثم كانت تنبثق أصلاً عن موضوعات الآثار العلوية، وقد وجدت إجابتها الصحيحة للمرة الأولى عنده، فهو يقول إن سرعة الضوء ليست سرعة طولية ولا عرضية بل محدودة؛ فانتقال الضوء في الوسط المشفّ لا يكون آنياً، أي دفعة واحدة وفي غير زمان، بل يستغرق زماناً مقدوراً؛ أي وجد أنّ سرعة الضوء تختلف في الأجسام الشفافة، فهي أكبر في الجسم الشفاف منها في الجسم الأكثر كثافة.
وبعد طرح ابن الهيثم لأفكاره بمئات السنين كان يسود لدى علماء النهضة الأوروبية أمثال كبلر وديكارت أن حركة الضوء لا زمان لها، ولا يستغرق في انتقاله من مكان إلى آخر مهما يكن البعد بينهما أي زمن لأن سرعة الضوء لانهائية، وهو ما قاله أسلافهم.
إلا أن أول إثبات مؤيد لكلام الحسن بن الهيثم جاء في أواخر القرن السابع عشر، وذلك عندما توصّل الفلكي أوله رومر إلى إثبات أن سرعة الضوء محدودة من خلال رصده لخسوفين متتابعين لأحد أقمار المشتري، واستطاع أن يقيس هذه السرعة أيضاً. ولم يؤيد العلم الحديث اكتشاف ابن الهيثم بالتجارب التي أثبتت أنه حقيقة علمية إلا في منتصف القرن التاسع عشر.
هذه السرعة الثابتة للضوء، والتي باتت كأحد الثوابت الكونية، ستقوم بدور مهم في النظرية النسبية الخاصة لآينشتاين، والتي غيّرت من نظرتنا للكون. فقد توصل الأخير إلى أن ما نراه من حقيقة الضوء القادم إلينا من النجوم لا يمثل حاضره؛ بل ماضيه.
أبحاث ابن الهيثم في الغرب
كان أثر ابن الهيثم كبيراً سواءً في الشرق حيث عاش ومات، أو لدى الغرب حيث انتشر ذكره وذاع صيته. ولم يكن هناك من معاصريه من كان يدانيه في ميدان البصريات وفي عبقريته العلمية، ولا في حياته الشخصية التي كانت انعكاساً لإخلاصه للعلم وحب البحث.
فقد كان روجر بيكون أول علماء الغرب الذين درسوا العلم العربي ثم حملوا نتاجه إلى الأجيال الأوروبية. وكان أشد فخراً بفصل الضوء في كتابه (التأليف الكبير) الذي استمده من ابن الهيثم والكندي بتتلمذه على يد العلماء العرب.
وقد اعترف مؤرخو الغرب المحدثون بأهمية ابن الهيثم في تطوير علم البصريات، فأرنولد في كتاب (تراث الإسلام)، قال: «إن علم البصريات وصل إلى الأوج بظهور ابن الهيثم».
أما سارتون فقال : «إن ابن الهيثم أعظم عالم ظهر عند المسلمين في علم الطبيعة، بل أعظم علماء الطبيعة في القرون الوسطى، ومن أعظم علماء البصريات القليلين المشهورين في كل زمن». أما دائرة المعارف البريطانية فقد وصفته بأنه رائد علم البصريات بعد بطلميوس.
طبعاً لم يكن تأثيره في الشرق بالقدر نفسه الذي كان عليه في الغرب، فقد ظلت شهرته في الشرق جانباً من التاريخ المروي؛ لقلة من تأثر بنظرياته العلمية من العرب والمسلمين. ولم يذع صيته أكثر إلا بعد أن قام كمال الدين الفارسي بشرح كتاب المناظر وعلق عليه وسمّاه كتاب (تنقيح المناظر لذوي الألباب والبصائر).
لقد أقبل المترجمون والمنتحلون في الغرب على كتب ابن الهيثم التي بقيت منهلاً عاماً ينهل منه أكثر علماء القرون الوسطى مثل روجر بيكون وكبلر ودافينشي وفيتلو وهوبكنز. ونقلت كتبه في الرياضيات والفلك والفيزياء إلى اللغات العبرية والإسبانية والإيطالية، أما اللغة اللاتينية فيبدو أن جيرار الكريموني (توفي 1187م) قد نقل إليها كل كتاب المناظر لابن الهيثم، كما نقله فيتلو إلى اللاتينية عام 1270م الذي ضمن أبحاثه عن الضوء كثيراً من آراء ابن الهيثم، من ذلك الخزانة السوداء ذات الثقب وتعليل قوس الألوان. ومن أوائل من تأثروا بابن الهيثم في علم الضوء روبرت جروستست (توفي 1253م) الذي يعد من رواد الحركة العلمية في الغرب. كما نجد أن كتاب (علم المناظر) لجون بيكام (توفي 1292م) ليس سوى اقتباس ناقص من كتاب المناظر لابن الهيثم. ونجد أن أبحاث ابن الهيثم في علم المناظر قد ألهمت الكثيرين من علماء أوروبا.
الاحتفالات العالمية بابن الهيثم
أجريت عدة احتفاليات عربية وعالمية بابن الهيثم في القرن 20، واحتفالية منظمة اليونسكو هذا العام 2015 بالسنة الدولية للضوء وابن الهيثم هي ثاني الاحتفاليات الرسمية في القرن 21، بعد احتفالية موقع البحث الشهير غوغل الأولى بذكرى ميلاده في 30 مارس 2014.
في عام 1939م أقامت الجمعية المصرية للعلوم الرياضية والطبيعية احتفاليتها بمناسبة مرور ألف سنة على وفاة ابن الهيثم، وذلك في قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة. حيث ألقى حينها الباحث المصري المعروف مصطفى مشرفة محاضرةً بعنوان (ابن الهيثم كعالم في الرياضيات).
كما أقيم حفل تذكاري في عام 1969م لابن الهيثم في باكستان، وقد قال فيه حكيم محمد سعيد رئيس مجلس العلوم في كراتشي: «يعد وقوف الإنسان على سطح القمر للمرة الأولى راجعاً بدون شك إلى التكنولوجيا الحديثة, ولو أخذ كل شيء بعين الاعتبار فإن ابن الهيثم يعد رائد هؤلاء العلماء الأمريكيين, حيث إن كل نظرياتهم في الرياضيات مقتبسة من ابتكارات أبي علي, ولهذا فإنه باستطاعتي أن أقول: إن لابن الهيثم عقلية القرن العشرين وإن كان قد عاش في القرن العاشر, ومهما حاولت أن أصف عالمنا الكبير فإنني عاجز عن ذلك».
ولعل أجمل وأفضل تكريم لابن الهيثم يكون عندما نتبع طريقته ومنهجيته العلمية في التفكير، ونعلمها لأبنائنا ليكون نبراساً لمستقبلهم يستضيؤون به في نهضتهم المقبلة. وأعتقد أن العالم سيبقى يكرّم عالمنا العربي ابن الهيثم مادامت المُقَل تبصر، ومادامت الأرض تشرق بنور ربها. لذلك سيكون لنا الحق بعد كل الذي استعرضناه عن ابن الهيثم أن نؤيد رأي الأستاذ محمد رضا مندور فيما يقوله عن ابن الهيثم: «وإذا أردنا أن نقارن ابن الهيثم بعلماء عصرنا الحاضر، فلن أكون مغالياً إذا اعتبرت الحسن بن الهيثم في مرتبة تضاهي العلامة آينشتاين في عصرنا هذا».