البرمجة الجينية الآلية وتطورات الذكاء الصنعي
د. إبراهيم عبدالفتاح عبدالحميد
البرمجة الجينية والتعلم العميق جزء من ثورات علمية أخذت تنتشر بصورة هائلة في شتى أنحاء العالم، وبدأت تطبيقاتها تجد مجالات رحبة في معظم ميادين الحياة ، على الرغم من أن عدداً كبيراً من الأشخاص لايعرفون الكثير عنها و لم يسمعوا عن فوائدها.
يقول الدكتور ستيوارت آرمسترونغ الأستاذ في جامعة أكسفورد: «إن البشر يواجهون المستقبل ليس لأنهم الأقوى أو الأسرع، لكن لأنهم الأذكى، وعندما تصبح الآلات أذكى من البشر فإنها ستتسلم عجلة القيادة شئنا ذلك أم أبينا».
ظل الذكاء الصنعي ردحاً طويلاً من الزمن محصوراً في استغلال وتوظيف قدرة الحاسوب الهائلة وسرعته الخارقة في مسألة البحث عن حلول نموذجية لمشكلات قد تستغرق سنوات طويلة من الحسابات المجهدة إذا حاول الإنسان حلها بقدراته المحدودة.
كما ظلت محاولات العلماء محصورة في تطوير آليات وخوارزميات البحث، وأصبح بالإمكان إنتاج آلات يديرها الذكاء الصنعي قادرة على العمل على مدار الساعة لتنفيذ مهام محددة وبدقة شديدة.
وأصبح لدى تلك الآلات من القدرة والاعتمادية ما مكنها من أن تحل رويداً رويداً محل العامل البشري للقيام بالمهام الرتيبة بداية؛ مثل قص الحشائش وحلب الأبقار في المزارع، وتنظيف الأرضيات في مراكز التسوق وحمامات السباحة، ثم القيام بمهامات أكبر في مصانع السيارات والإلكترونيات لتحل محل العمال المهرة. فتكلفة إنسالة واحدة تعمل على مدار الساعة في أحد مصانع السيارات لن تتجاوز أجر عامل بشري واحد في العام، دون احتساب تكلفة التأمين الصحي والمعاش التقاعدي والإجازات السنوية.
فالإنسالات يمكن تحميلها بالبرامج اللازمة لتقوم بالعمل مباشرة على أي خط إنتاج، كما يمكن برمجتها للقيام بأي وظيفة دون الحاجة إلى تدريب أو قضاء سنوات طويلة في تعلم مبادئ الإلكترونيات أو اللحام وخرط المعادن.
الصحة والتعليم
واتجه الأمر أيضاً إلى اقتحام الإنسالات عالم الرعاية الصحية والتعليم من خلال إنتاج إنسالات اجتماعية ذكية قادرة على التحاور مع البشر مباشرةً، عبر الصوت، دون حاجة إلى لوحة مفاتيح لإدخال الأوامر.
وصممت تلك الإنسالات من أجل رعاية كبار السن والذين يعانون الوحدة في المجتمعات الأوروبية لسنوات طويلة، لدرجة فقدهم لمهارات التواصل، لتقوم الإنسالة بدور الرفيق والمحاور، إضافة إلى مراقبة الحالة الصحية والاتصال بالمستشفيات في حالات الطوارئ إذا لم يتواصل كبير السن معها كما هو الأمر في الحالات المعتادة.
بدأ استخدام ذلك النوع من الإنسالات الاجتماعية في تعليم الأطفال في البيوت والمدارس والعناية بهم، وصار ممكناً تحميل تلك الإنسالات ببرامج قادرة على التحاور وتحليل شخصية الطفل وتفقد نقاط الضعف في مستواه التحصيلي، وتقديم المحتوى العلمي المناسب لكل طفل على حدة، وهو ما يضمن التركيز على الفروق الفردية بين التلاميذ، وهذا ما يستحيل تنفيذه من خلال المدرس ذي الوقت والقدرات المحدودة، وبخاصة في ضوء وجود عدد كبير من التلاميذ في الفصل الواحد.
لكن على الرغم من التطور المذهل الجاري والبصمة الواضحة للذكاء الصنعي الذي نلمسه في معظم المنتجات – بدءاً من غسالة الأطباق المنزلية وحتى السيارات الذاتية القيادة التي تتعلم عادات راكبها اليومية ولا تحتاج لإعادة ضبط، ولكن بمجرد إحساسها بوجوده تقوم بضبط أجهزتها بشكل تلقائي – فإن طرق الذكاء الصنعي التي تطورت خلال العقود الماضية والمستخدمة حتى الآن باتت تقليدية إلى حد ما، واتجه العلماء إلى إنتاج آلات تستطيع إنجاز مهمات معينة، وفي الوقت نفسه تستطيع التفكير والابتكار والتعلم من خلال ما بات يعرف بالبرمجة الجينية والتعلم العميق في الشبكات العصبية الصنعية.
البرمجة الجينية
البرمجة الجينية هي إحدى فروع شجرة عائلة الخوارزميات التطورية، وهي تلك التي تستخدم آليات مستوحاة من التطور البيولوجي مثل الاستنساخ والتزاوج والطفرة والانتخاب الطبيعي. وهي الآليات نفسها المستخدمة في الخوارزميات الجينية، مع وجود فارق وحيد هو الاستعاضة عن الأفراد أو الحلول في الخوارزميات الجينية بالبرامج في البرمجة الجينية.
والبرمجة الجينية بدأت في وقت مبكر جداً، وبالتحديد في أوائل النصف الثاني من القرن العشرين على يد نيلس باريسيلي، ولكن نظراً إلى حاجتها إلى حسابات مكثفة فقد عانت كغيرها من طرق الذكاء الصنعي في ذلك الوقت بسبب تواضع قدرات الحواسيب، ولذلك ظلت حبيسة التطبيقات الهزيلة.
وبعد التحسينات التقانية والنمو الهائل في قدرات وحدات المعالجة المركزية في الحواسيب الحديثة في أوائل تسعينيات القرن العشرين بدأت البرمجة الجينية في تحقيق نتائج باهرة في مجالات معقدة مثل: الحوسبة الكمية، وتصميم الدارات الإلكترونية، وبرامج الحاسوب.
وتشمل تلك النتائج إمكانية استنتاج خوارزميات، وإن لم تكن أفضل من تلك التي اكتشفت وسجلت في مراكز براءات الاختراع في القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين. بل وصل الأمر بالبرمجة الجينية إلى اكتشاف خوارزميات جديدة، وتسجيل براءات اختراع جديدة باسمها، لتحجز لها مكاناً بين عظماء العلماء والمبتكرين.
وهناك الآن على أقل تقدير 36 حالة موثقة تمكنت خلالها البرمجة الجينية من منافسة البشر والتفوق عليهم، حيث تمكنت من إعادة استنتاج 15 من أشهر الخوارزميات المكتشفة في القرن العشرين، وستة من أشهر اكتشافات القرن الحادي والعشرين، إضافة إلى براءتي اختراع سجلتا حديثاً باسم البرمجة الجينية – تلك الآلة العجيبة – آلة الاختراع الآلية.
وبذلك يمكن القول إننا أصبحنا أقرب ما يكون لتحقيق تعريف تورينغ للآلة الذكية؛ وهي تلك الآلة القادرة على القيام بما يجب عليها فعله دون الحاجة إلى إخبارها بكيفية القيام بذلك (انظر الإطار الخاص بآلة تورينغ ومصممها في آخر المقال)، وكذلك معيار رائد التعلم الآلي آرثر صموئيل في محاضرته في عام 1983 تحت عنوان: (الذكاء الصنعي: أين كان وإلى أين هو ذاهب؟) حينما قال: “إن الذكاء الصنعي يستهدف الحصول على آلات قادرة على إظهار سلوك معين يفسره البشر بأنه ينطوي على استخدام الذكاء “.
لقد تمكنت البرمجة الجينية من تناول تلك التحديات من خلال توفير وسيلة قادرة تلقائياً على تخليق أو ابتكار برامج على مستوى عال لحل أو وصف المشكلات والعلاقات الرياضية، وتراوح تطبيقات البرمجة الجينية اليوم من البسيطة إلى الأكثر تعقيداً.
فعلى سبيل المثال؛ يمكن استخدام البرمجة الجينية في إيجاد تعبير من الرياضيات لتمثيل علاقة معقدة بين عدد من المتغيرات قد تعجز طرق الرياضيات العادية عن استنتاجها، أو تحتاج إلى وقت طويل للتوصل إليها.
كذلك يمكن استخدامها في تبسيط علاقات قائمة أو تقديمها بصورة مختلفة، واستخدامها في تبسيط الدارات المنطقية وتصميمها بشكل أكثر كفاءة، وذلك يفتح الباب لاستخدام البرمجة الجينية في إعادة تصميم وحدات المعالجة المركزية والوصول بها إلى قدرات هائلة.
نموذج طائرة
وأمكن استخدام البرمجة الجينية في تخليق تصاميم جديدة لمنتجات موجودة فعلياً بشكل لا يتخيله أمهر المصممين البشريين. فتصميم نموذج جديد لطائرة ركاب على سبيل المثال قد يستغرق سنوات طويلة من التصميم والتجارب داخل مختبرات المواد وأنفاق الرياح من أجل اختيار التصميم الأنسب والمواد الأكثر تحملاً وكفاءة. أما من خلال النمذجة الحاسوبية القائمة على البرمجة الجينية، فيمكن الحصول على تصاميم أكثر وبشكل أسرع وبكفاءة عالية من حيث استهلاك الوقود وتوفير عدد أكبر من المقاعد والمساحات الداخلية والوضعية الأنسب لمحركات الطائرة.
وتمكُّن البرمجة الجينية من الاستنتاج والابتكار وإنتاج برامج حاسوب ومنتجات أكثر فاعلية من نظيراتها البشرية، قد يفتح الباب واسعاً أمام تلك الآلات، ليس فقط لتنفيذ مهمات محددة بسرعة وبكفاءة ومنافسة الإنسان، لكن قد تصل أيضاً إلى مستوى آخر ربما يتمثل في تمكنها من إعادة كتابة أكوادها بنفسها، أو إعادة استنباط خوارزميات تمكنها من مستويات من الكفاءة لا يمكن تصورها.
وقد يأتي اليوم الذي تقوم فيه تلك الآلات الجبارة بإعادة كتابة الدساتير ونظم التعليم وتنظيم العلاقات بين البشر، بل وحتى كتابة الروايات والشعر، لتسحب البساط من تحت أقدام البشر، وتتسلم عجلة قيادة العالم.