الأوبئة في الأدبيات والمدونات غير العلمية
د. نزار العاني
مسيرة «العلم» خلال القرون الثلاثة الماضية كانت مظفرة. انسحب الفكر الخرافي جزئيا وتحول إلى مجرد ذاكرة للبشرية. جزيرة الأطلنطي أو الأطلنطس المترامية وراء أعمدة هرقل العملاقة، غيبتها الوقائع وافترستها ظروف التيارات البحرية والزلازل ومحي أثرها، وبقيت الأسطورة إلى يومنا هذا حية في الدراما السينمائية وأحلام الشعراء وأخيلة الأدباء، وبقيت أطلنطس رمزا فاعلا لمسألة الحضور والغياب !والعلم يقف حائراً أمام سطوة الأسطورة.
الأوبئة مثل أطلنطس، غائبة وحاضرة، وليس هناك إجابة خطأ بين هذين الاحتمالين، لأن أقدم ما لدينا من مخطوطات وبرديات وشرائع وكتب ومدونات وقبل تنزيل الكتب الدينية الثلاثة تتحدث عن الأوبئة. وكلما كاد العالم يقضي على الأوبئة، خرجت كعنقاء أسطورية من رمادها كما فعلت وتفعل الإيبولا في الساحل الغربي في إفريقيا حاليا.
الوباء في المدونات
على سبيل المثال لا الحصر، تناولت الكتب الهرمسية القديمة التي ترجع كما يقال إلى عهد النبي إدريس (عليه السلام) بصفة عارضة مسمّى الأوبئة. وهرمس مثار إشكالية تنوس بين الرواية الشفهية الإخبارية للتاريخ والواقعة، لكن بعض الكتب الهرمسية ترقى إلى الألف الثاني قبل الميلاد. وفي هذه الكتب يكتب هرمس إلى ابنه «تات»: (سوف أذكر ثورات الممالك، وتمردات المدن، والمجاعات والأوبئة). ولأن هذه الكتب ممتلئة بالنفحات الإيمانية في عهود الوثنية فهي تذكر شيئا عن نهاية العالم، وقد تكون الأوبئة إرادة عليا وقدراً وفق هرمس الذي يقول: (سوف تتلف المدن والحواضر إما بالحديد أو بالنار وإما بزلازل مألوفة للأرض وبالطوفان، وإما بالطاعون أو المجاعة…). ويُنعت هرمس بالطب والحكمة، ويقال إن شعار الطب الحالي والعصا التي تلتف حولها حيتان ما هي سوى رمز صولجانه. ومسيرة الإنسان في خطوته الأولى مكللة بالمرض. في البدء كان المرض. وكلما تأمل المخلوق في أحجية وجوده وغيابه كان الوباء حاضرا في ذاكرته مثل الزلازل والحروب وقلة الموارد.
وجميع مدونات الشعوب القديمة تقف أمام ألغاز وجودها ويمسك الهلع بتلابيبها حين تذكر «الوباء» الذي لسطوته صار بمنزلة الطقس الإلهي، إنه عقوبة الإله للآثمين والأشرار،لذا كان الأفارقة القدامى يضعون المصاب في قارعة الطريق، يلفظونه لأنه أصيب بالعدوى كما يقول ليفي بريل. وكذلك يتحدث كولن ولسن عن الشامانية، والشامان ماهو سوى طبيب ساحر عليه أن يزيل لعنة الوباء التي نزلت ببدن المرء! الوباء عصا الإله الغليظة لقمع الشر.
الأوبئة في الملاحم الكبرى
يعرف البدائيون الموت كواقعة فيزيقية غير مفهومة. منجل الموت كان يحصد ويعترض قوة التوالد. الموت والخوف منه هو المعلم الأكبر للإنسان. ولأن الحروب منذ فجر الخليقة تشكل باب العبور إلى الموت بسبب الأوبئة التي غالباً ما تكون من مخلفات المعارك، فمن نجا من سيف الحرب قتله الوباء. ولأن الملاحم الكبرى (الإلياذة والأوذيسة اليونانيتين، الإنيادة الرومانية، المهابهاراتا الهندية، الشاهنامة الفارسية) هي تاريخ حروب الشعوب التي أنتجتها لتمجيد الأبطال الخالدين، ولأن كتابها شعراء، ففيها الكثير من الوقفات المتأملة الحزينة لأولئك القتلى المتروكين في العراء للهوام والذباب وللكائنات المتقممة، تنقل الريح رائحة عفن أجسادهم النتنة، فيعم الوباء والبلاء. تزدحم تلك الملاحم بذكر الأوبئة، ولم يكن لديهم آنذاك ما يدفع أذى الخمج infection سوى الخمور والخل والصوابين والأعشاب. وتذكر الملاحم شيئا عن حرق الجثث لتطويق انتشار العدوى وكسر حلقته الكارثية، ودور آلهة الطب والشفاء في إنقاذ الأبطال الأفذاذ الذين عفر التراب جراحهم لضربة سيف أو طعنة رمح، وأحيانا صمودهم الخارق وقهرهم للأوبئة بشجاعتهم وإرادة الحياة والعودة للقتال لديهم.
الأوبئة في الكتب المقدسة
في سفر الخروج حديث طويل للتوراة عن تعليمات الرب لموسى وأخيه هارون (عليهما السلام) في مقاومتهم لشرور وآثام فرعون مصر، وبمشيئة الله تتحول عصا موسى إلى حية، وتتوالى الضربات على فرعون: فينتشر الضفادع والبعوض والذباب وموت المواشي والجراد والقروح (فقال الرب لموسى وهارون: «خذا ملء كفَّيكما من رماد الأتون، وليَذرَّه موسى إلى السماء أمام عيني فرعون، فيصير غباراً على جميع أرض مصر ويخرج قروحاً وبثوراً في الناس والبهائم كلها») خروج 9/8-9. وكأن التوراة تتحدث عن الحصبة والجدري، وتستمر التوراة مهددة، وإن لم يَرْعَو فرعون فستكون الضربة القاضية بما يخبئه الله له من عقاب: (وإنْ كنتُ حتّى الآن لم أمُدَّ يدي وأضربك أنت وشعبك بالوباء لتزول من الأرض ) خروج 15/9؛ وذلك لأن نازلة الوباء هي الأشد وليس بعدها سوى الفناء.
في الإنجيل نقرأ عشرات الصفحات عن معجزة المسيح في شفاء الأبرص والأعرج والكسيح والمصاب بالحمّى والمرأة التي تنزف والصبي المصروع وكل أنواع المرضى، حتى ليكاد القارئ يظن أنه يقرأ كتاباً في علم الأمراض، وأن النبوّة إنما هي الحرب الشعواء على الأوبئة وتبشير بالإنسان المتعافي والسليم.
في الإسلام جرى الحديث عن إعجاز طبي في النصوص، بدءاً من مشاهد يوم القيامة التي تبدو وكأن الهلع المفاجئ من وباء لايترك للناس فرصة ترك الوصية، مروراً بمفردات الطب النبوي وماجاء تحت هذا العنوان من مبادئ الوقاية في زمان الأوبئة (حديث «إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها»، وفي لسان العرب، الوباء هو الطاعون)، ووصولاً إلى مئات المقالات التي نشرت بعد تفشي وباء إنفلونزا الخنازير.
الأوبئة في الفكر والأدب
كان للطاعون أكثر من جولة في أوروبا وخصوصاً في الأعوام الممتدة بعد عام 1500، وهي الفترة التي اشتهر فيها الطبيب والصيدلاني والمنجم ميشيل دي نوسترأداموس. ونبوءات هذا الرجل التي كتبها بأسلوب مجازي شعري مشهورة. ويقال إنه كان يلامس المطعونين ويخالطهم ولا تصيبه العدوى لاكتشافه عُقّاراً للوباء. ولأنه عايش هجمتين للوباء فقد سجل في رباعياته تواريخ بعض الأوبئة التي ستنزل بساحة البشرية في القرون التي تلي زمانه:
< ستحدث كارثتان ليس لهما مثيل؛
جوع وطاعون في الداخل
أناس يطرحون خارجا بفـعل السيف،
سيبكون من أجل الحصول
على مساعدة من الإله العظيم الأبدي.
وفي رباعية أخرى يصف فيها سنوات الحرب العالمية الأولى:
إن حربا مخيفة تدار في الغرب،
السنة التالية سيأتي مرض سارٍ رهيب.
ونقرأ أيضاً أن البلاد الأوروبية ستعاني (عواقب مهلكة وستغمرها القواصف والعواصف والأوبئة ) وفي بابل/ العراق اليوم (ستراق الكثير من الدماء، وستبدو السماء غير عادلة في البر والبحر والجو. طوائف ومجاعة, ممالك, أوبئة). شخصياً، لا أرى في نبوءات الأوبئة عبقرية، فهي حدثت، وتحدث، وستحدث دائماً!
إن صراع الإنسان مع الأوبئة متصل منذ أن نشرت البرديات الفرعونية ومنذ أن كتب الإمبراطور الصيني «شن نونج» كشوفه الدوائية في كتابه الشهير «بن تساو» منذ أكثر من أربعة آلاف سنة.
وكي لا أطيل، فإن أشهر روايتين صدرتا في القرن الماضي هما «الطاعون» لألبير كامو، و«الحب في زمن الكوليرا» لغارسيا ماركيز، فلماذا هذه المصادفة؟ اسم الوباء خرج من دلالته الحصرية المرتبطة بمرض، وغدا في رمزيته التاريخية عنوانا كبيرا لمعان حضارية وسياسية ووجودية. إنه الموت الأسود البشع الذي يصفه الأديب الكبير هرمان هسّه: (حمل المشعل وقربه من وجه الجالسة. فرأى تحت الشعر الأبيض القسمات الزرقاء الرمادية لجثة…عند مدخل باب الغرفة النائية جثة أخرى متمددة على طولها، كان صبيا في نحو التاسعة أو العاشرة، متغضناً ومنتفخاً، ميتاً وهو في قميصه التحتي…على السرير جثة أخرى، كان رجلاً ملتحياً متيبساً، وكان وجهه الغائر يتلألأ بتلألؤ باهت، وقد ارتسمت عليه تدرجات ألوان الموت البراقة…وفي السرير الثاني كانت امرأة مربوعة قوية،مدفونة وملفعة بالملاءات وإلى جانبها تمددت خادمة لم تبلغ الحلم بعد، وقد غطت وجهها الميت لُطَخٌ زرقاء). في الأدب والرواية تصبح الأوبئة هي اللعنة التراجيدية المرافقة لبؤس الإنسان.
الأوبئة في الشعر والسينما
منذ ستة عقود لم يهدأ النقاش حول أول من كتب قصيدة التفعيلة ووضع الشعر العربي على طريق الحداثة. إحدى النظريات، وهي الأكثر شيوعاً ترجح أن الشاعرة نازك الملائكة في قصيدتها «الكوليرا» هي البدايات. وهكذا عانق الشعر بكثير من الرأفة ضحايا الأوبئة الذين يجتاحهم الرعب والحزن وعذابات النفس وهلع أرواحهم وصدى استغاثاتهم أمام قسوة الموت «الأصفر». تقول نازك الملائكة:
عشرةُ أمواتٍ, عشرونا
لا تُحْـــــــــــــصِ أصِخْ للباكينا
اسمعْ صوتَ الطِّفْل المسكين
مَوْتَــــــــى, مَوْتَى, ضاعَ العددُ
مَوْتَى, موتَى, لم يَبْـــــــــــــقَ غَدُ
في كلِّ مكانٍ جَسَدٌ يندُبُه محزونْ
لا لحظَةَ إخلادٍ لا صَمْـــــــــــتْ
هــــــــــــذا ما فعلتْ كفُّ الموتْ
المـــــــــوتُ المــــــــــوتُ المـــــــــــــــــــــوتُ
تشكو البشريّةُ تشكو ما يرتكبُ الموتْ
الكوليرا في كَهْفِ الرُّعْب مع الأشلاءْ
في صمْت الأبدِ القاسي حيثُ الموتُ دواءْ
وكما تردد الندب في فضاءات الشعر، وتدثر هذا الأخير بالأسى على ثقل محنة الأوبئة التي لا تأخذها الرأفة بأولئك الآلاف من النفوس التي يحصدها منجل الموت الكريه، قامت السينما المسلحة بقوة تأثير الصورة، وتطور تقانات الإخراج العبقري والمدعومة بقدرات الخداع البصري التي يقدمها الحاسوب.
هوليوود السبّاقة في هذا المجال أنجزت عشرات الأفلام التي ترتكز وتتمحور حول الأوبئة.إن كل ماذكرت آنفا صار مادة درامية للسينما. وقد تابعت أكثر من عشرة أفلام هوليودية حول الأوبئة، وكلها تشد المشاهد وتدهشه على الرغم مما فيها من مشاهد مقززة لتحولات المصابين الجسدية، إذ إن بعض الأفلام يتجاوز الحقائق العلمية والتاريخية، ويذهب إلى فضاء الخيال العلمي ليروي لنا احتمالات لأوبئة المستقبل.
وفي الأفلام، سعي لقهر الأوبئة باللقاحات أو التحوير الجيني للفيروسات، والصراعات الخفية لجني الأموال عبر تلفيق عوامل وبائية، والصفقات السرية بين الممولين ورجال الصحافة والإعلام لإقناع الرأي العام بأمر خاطئ، والترويج لدواء يعرف صانعوه أنه فاشل، وتقنية العلاج الجماعي لا الفردي، والفيروسات التي تخرج من مختبرات تصنيع الأسلحة البيولوجية بالخطأ، واحتكار اللقاحات، وإجراء التجارب على الناس دون علمهم على الرغم من خطورتها.
قائمة الأفلام الحديثة التي تبني شهرتها على الأوبئة طويلة، وعلى سبيل المثال لا الحصر وفقاً لأسمائها باللغة الإنكليزية: Contagion , Outbreak , Quarantine , Pontypool , I Am Legend ,.
الوباء هاجس مقلق للبشرية. وقائمة الأوبئة التي أثقلت تاريخنا بمئات الملايين من الموبوئين، الذين قَضَوا والذين عاشوا، طويلة جداً وباتت معروفة، ولاتزال المعركة بيننا وبينها حامية الوطيس، والأمل أن النصر النهائي سيكون للإنسان لا للفيروس. >