عبسَ الدهر! فلم تكن شمس الأول من يناير عام 2020 كقالبٍ من الحلوى كما تنبأ لها المتنبئون وتأوّل المتأولون، بل حملت معها بنتاً من بنات الدهر صعقت الكوكب بكامله كأسراب الجراد، تُقلعُ دونَ أشرعةٍ، وتُبحرُ دون بُوصلةٍ، وتفترسُ الحُدودَ.
بعد أسابيع قليلة من شروقها، كان كوفيد19- مالئ الدنيا وشاغل الناس، وبدأت عجائبه تتوالى ومضاعفاته تتجلى، وأصبح الشخص فاقد الشمّ والذوق محل شبهة وموضع تهمة، مُداناً حتى تظهر براءته، وقيد الإقامة الجبرية حتى تثبت سلامته!
أعراض بسيطة تخفي كوارث
كما بات معروفاً، يتظاهر داء كوفيد19- في معظم المرضى بأعراض خفيفة تشبه الإنفلونزا، لكن هذا الفيروس يستغلّ كبار السن وذوي الأمراض القلبية والرئوية المزمنة ومرضى السكري، فيفاقم الأمور سوءاً ويذيقهم من الويل والثبور وعظائم الأمور ما لم يذقه الآخرون. وعلى الرغم من اشتهار هذا الداء بقدرته على سرقة أنفاس الخلق، فإن المختصين – في خضمّ هذه المفاجأة- كانوا قلقلين من أن يعاني الناجون تداعيات عصبية. استند هذا القلق في البداية إلى نتائج سابقة من عائلة فيروسات كورونا. وتنافست مراكز الأبحاث ومؤسسات الإحصاء والجامعات في جمع الحالات وتفسير النتائج ليخرجوا علينا بأفواجٍ من التحليلات ونشراتٍ متضاربة من النتائج!
في بداية الأمر، ظن الباحثون أن الإصابة تقتصر على الأعصاب المحيطية، وفقدان الشم والذوق ما هو إلا مثال عليها، لكن سرعان ما خرج الفيروس على النص، وتقاطرت الأدلة من كل حدب وصوب لتظهر أن الناجين من هذا الداء معرضون فعلا لاضطرابات المزاج والقلق والأرق والصداع المزمن والتعب المزمن، التي لم يكن من تفسير واضح لها إلا الشك بأنها من تداعيات الداء الوليد.
وزادت كوابيسنا -معشر الأطباء- سوءاً حين بدأ المرضى أنفسهم بالإبلاغ عن مجموعة مقلقة من الاضـطـرابات الـنفسيـة والـسلوكيـة والمـعرفيـة والإدراكية، فبدأنا نتعرف على “الغموض العقلي” الذي أصبح يـعرف بـضبـاب الـدماغ brain fog، ومن الـتعب اللا مفسر إلى هـفوات الذاكرة مروراً بـالذهان والهلـوسة وتطرف الأحاسيس، لينتهي الأمر بجنون العظمة أو خواطر الانتحار.
غزو النسيج الدماغي
هذه الكوكبة الغريبة من الأعراض دفعت الباحثين إلى الشك بأن الفيروس يشكل هجوماً مباشرا ومباغتاً للنسيج الدماغي، وبدؤوا بجمع أدمغة وعقول ضحايا كوفيد19-، وتعين عليهم تفكيك تلافيفِ كل دماغ على حدة، وتتبع جيناته وتوثيق بروتيناته، وكيفية تصرف الخلايا الدبقية الصغيرة. وكان لا بدّ لهم من رسم خريطة لآثار المرض ليفهموا الكيفية التي يغيّر بها الفيروس دماغ ضحيته دافعا إياها إلى الانتحار، كما حدث مع طبيبةٍ في قسم الطوارىء في كولومبيا عملت في الخطوط الأمامية خلال الموجة الوحشية الأولى للوباء قبل أن تمرض وتشفى وتتغير صحتها العقلية، لينتهي بها الأمر منتحرة بعد شفائها بأسابيع.
وكما يُكتشف غلاف الطلق الناري على مسرح الجريمة، أظهرت شرائح النسج الدماغية المصابة بقايا شريط الحمض النووي للفيروس، وأنها أقل وفرة بالخلايا العصبية الشابة بمقدار 10 مرات عن الدماغ الطبيعي، هذه الخلايا ضرورية جداً للتعلم والذاكرة، وللتعامل مع التوتر ولدمج الذكريات مع العواطف. وتبيّنَ أيضاً أن الخلايا النجمية لحق التلف بها أو بوظيفتها، فقلّ عددها، والكثير ممن نجا منها لا يعمل بالشكل الصحيح. تؤدي هذه الخلايا العديد من الوظائف، بما فيها الدعم الكيميائي الحيوي للخلايا البطانية التي تشكل الحاجز الدموي الدماغي، ذلك الحاجز الذي يعتبر كالحرس الرئاسي أو الملكي للدماغ، كما أنها مسؤولة عن سلاسل التوريد الغذائية للأنسجة العصبية، وتنظيم تدفق الدم في المخ، إضافةً إلى دورها في عمليات الإصلاح والتندب في الدماغ والنخاع الشوكي بعد العدوى والإصابات الرضية. إن انخفاض عدد هذه الخلايا قد يفسّر التعب وضباب الدماغ والارتباك والنسيان. وأما تلفها أو تلف وظيفتها فيؤدي إلى اكتئاب المريض فيغدو وكأنه يحمل روحاً ممتلئة بالندوب!
وبدراسة شظايا الحمض النووي في هذه العينات وبالاستعانة بالحاسوب، بدأ المختصون برسم خريطة الهجوم التي يتبعها هذا الفيروس في اجتياحه للدماغ، ومدى تورطه المباشر بالإبادة العرقية الجماعية لهذه الخلايا الشابة والنجمية. لكن الطريق كان وما يزال طويلاً، فالليل أعمى والصباح بعيد!
مفاجآت غير سارة
تفاجأ الدارسون ببعض النتائج المشتركة مع مرضى رضوض الدماغ مثل قدامى المحاربين وضحايا حوادث المركبات، مما جعلهم يشكون أيضا بدور الوسائط الالتهابية ولاسيما بعد توارد تقارير تتحدث عن عواصف السيتوكين التي لا تبقي ولا تذر!
وأظهرت الصور الشعاعية تناقصا واضحاً في المادة الرمادية في القشرة الدماغية، وهي التي تحتوي على أجسام الخلايا العصبية. كان ذلك مخيفاً؛ لأنه يشبه الى حد كبير فقدان هذه المادة في حالات الاستهلاك المفرط للكحول والتعاطي المبكر طويل الأمد للقنب الهندي، مما يجعل المرضى مترنحين كقمح الحقول.
بدأت الصورة تتضح رويداً رويداً، حيث أصبح يعتقد أن الفيروس يجتاح الدماغ عن طريق الغشاء المخاطي للأنف – حيث تؤخذ المسحات- أو البلعوم الأنفي، ملتفاً بذلك على الحرس الرئاسي للدماغ وهو الحاجز الدموي الدماغي. وبات معروفاً أن الإصابة بهذا الفيروس ولاسيما عند المرضى ذوي المشكلات المزمنة يقود إلى القصور التنفسي، حيث يكافح المريض من أجل بعض الأكسجين مما يؤدي إلى اختناق الدماغ بسبب قلة الأكسجين الوارد إليه. إن نقص الأكسجة هذا يؤثر في كل أعضاء الجسد مسبباً قصورَ أو فشل أعضاء متعددة وتخثراً منتشراً داخل الأوعية DIC. وإضافة إلى ما تسببه هذه الحالات من تغيّرٍ للحالة العقلية بشكل رئيسي، فليس من المستغرب أن يتطور لدى المريض اعتلال دماغي أو سكتة دماغية (انسداد شرايين الدماغ). وقد تحدث أطباء الأعصاب عن حالات انسداد كانت تتشكل أثناء تصويرهم للدماغ، لتصيبهم بالذهول وغرغرينا الحزن.
مضاعفات ما بعد العدوى
من المثير للاهتمام هو ظهور حالات يمكن تسميتها (مضاعفات ما بعد العدوى). وكان أول هذه التقارير من إيطاليا المنكوبة، إذ تحدث عن تشخيص متلازمة غيلان باريه GBS، حيث يتعرى العصب فاقداً غمده فيصبح مثل سلك كهربائي منزوع الغمد، تتسرب منه الشحنات فيغدو عديم الفائدة، ويبدأ الشلل لدى المريض من الأسفل للأعلى؛ أي من عضلات الساقين ليصل إلى العضلات التنفسية، مع عدم استجابة هذا الداء للمعالجات التقليدية. وهذا يذكرنا بفيروس زيكا الشهير المرعب قبل بضعة أعوام، لكن انقضت تلك السنون وأهلها!
لقد أحصينا حتى الآن أكثر من 14 نتيجة عصبية ونفسية لكوفيد19-، من أشيعها فقدان الشم والذوق، والسكتة الدماغية، والتهاب الدماغ، والاضطرابات العصبية المعرفية والاختلالات النفسية، والنزف داخل الجمجمة، والشلل الرعاش، ومتلازمة غيلان باريه، وبعض الأمراض العقلية، واضطرابات الذهان والمزاج والقلق.
مستقبلاً، كل هذه الأمراض ستتطلب منا تدخلات لتحديد متلازمات عصبية مرتبطة بكوفيد19-، وتطوير خوارزميات تشخيصية لها، وذلك لكشف آليات المرض الأساسية التي ستوجّهنا نحو العلاجات الفعالة.
تكمن أهمية هذه المضاعفات العصبية في أن هذا الداء الوليد سيترك هؤلاء المرضى مع عقابيل عصبية شديدة، ربما تجعلهم خارج الزمن. وعلى الرغم من نسبتها المتدنية في هذا الداء، فإن استمرار وانتشار الوباء سيجعل عدد هؤلاء المرضى ملحوظا، مما يزيد من الأعباء الصحية والتكاليف الاجتماعية والاقتصادية التي هي بدورها أصلا منهكة في ضوء هذا الوباء، إضافة إلى ما يتركه من أثر على شبابنا المعذبين في الأساس.
يجب على مخططي الرعاية الصحية وواضعي السياسات وصانعي القرار الاستعداد لهذا الاحتمال غير معتمدين على سراب الإمكانات ووهم المعجزات، في حين تسعى العديد من الدراسات الجارية إلى زيادة قاعدة معارفنا للتصدي لمعركتنا مع هذا الفيروس الذي لا يعرف قواعد فكّ الاشتباك. وكلنا أمل أن يكشف الله هذه الغمة قريبا، ويحمي شعوبنا والبشرية من هذا البلاء.
طبيب مختص في طب الطوارئ والعناية المشددة