د. محمد رامي المعري
قبيل وفاته في عام 2018، تنبأ الفيزيائي الشهير ستيفن هوكينغ بأن أمام البشرية 100 عام فقط للعيش على الأرض، وأنّهم بحاجة إلى إيجاد أماكن أخرى في النظام الشمسي للحياة فيها. وقبل هذا التصريح بعام واحد تقريبًا، بدا هوكينغ أكثر تفاؤلاً في الإعلان عن أنه لا يزال أمام البشرية 1000 عام للعثور على مكان جديد قبل وقوع كارثة طبيعية (على سبيل المثال، ارتطام كويكب ضخم بالأرض).
لكن يبدو أن المخاوف المتزايدة بشأن تغير المناخ، والانفجار السكاني، ونقص الغذاء، وقرارات جيوسياسية (على سبيل المثال، اعتزام الولايات المتحدة الانسحاب من اتفاق باريس المناخي) هي التي دفعت هوكينغ إلى أن يكون أكثر تشاؤماً قبل وفاته، بعد أن أصبح جلياً أن البشرية قد تندثر بسبب أفعالها، وليس بكارثة طبيعية.
فوائد استيطان الفضاء
لطالما كان استيطان الفضاء بمثابة حلم للإنسانية لأن استكشاف المجهول سمة إنسانية أساسية تبدو متأصلة في جيناتنا. ومع ذلك، هناك أسباب أخرى للاهتمام بغزو الفضاء، لاسيما لمزاياه الاقتصادية الجذابة. على سبيل المثال، الهليوم (نظير عنصر الهيليوم) نادر جدًا على الأرض، لكنه متوفر على القمر. ويمكن استخدامه في الاندماج النووي، وقد يكون مصدرًا مهمًا للطاقة. من جهة أخرى، يحتوي حزام الكويكبات Asteroid Belt على عدد كبير من المعادن مثل الحديد والنيكل والبلاتين والذهب والمعادن النادرة. وحتى الكويكبات القريبة من الأرض Near-Earth Asteroids تحتوي على المياه ومعادن ذات قيمة اقتصادية كبيرة.
ولا يمكن أن نتجاهل حقيقة مفادها أن لاستيطان الفضاء فوائد جيوسياسية للبلدان التي «ستصل إلى هناك أولاً». وما علينا إلا أن نتذكر سباق الفضاء بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي في الستينيات من القرن الماضي لنفهم سبب تركيز الكثير من الدول، مثل الصين والهند، على تحقيق التقدم التكنولوجي اللازم لاستكشاف الفضاء، وضخ المزيد من الأموال والموارد نحو هذا الهدف. ويلاحظ أيضاً أن الفوائد الاقتصادية حفزت الكثير من الشركات الخاصة مثل سبيس إكس SpaceX إلى محاولة الحصول على الوسائل التكنولوجية لاستيطان الفضاء، إضافة إلى ما يسمى التعدين الفضائي Space Mining للتنقيب عن الموارد السابق ذكرها. هناك أيضًا اهتمام أكاديمي كبير باستيطان الفضاء لأنه قد يتيح لنا المزيد من الفهم لكوكب الأرض، والبحث عن الحياة في مكان آخر في النظام الشمسي، وفهم كيفية تكوين نظامنا الشمسي بشكل أفضل.
إضافة إلى كل هذه الاعتبارات، فإن التطورات الأخيرة على كوكب الأرض تدفعنا إلى البحث بصورة واقعية عن وسائل للحفاظ على استمرارية الجنس البشري. وأصبح بديهياً أنه إضافة إلى الأخطار القادمة من خارج كوكب الأرض مثل الأجرام السماوية، التي تسببت على الأرجح في عمليات انقراض جماعية على مر التاريخ الجيولوجي للأرض، فإنّ هناك مخاوف اقتصادية متزايدة ناتجة من عدم القدرة على التحكم في النمو السكاني، والتغيرات المناخية المتفاقمة، واستهلاك الموارد الطبيعية، مما يجبرنا على البحث عن ملاذ جديد للإنسانية في أقرب وقت ممكن.
تحديات استيطان الفضاء
هناك العديد من العقبات التي يجب التغلب عليها قبل أن نتمكن من استيطان الفضاء بنجاح. على سبيل المثال، يجب أن تكون المستوطنات الفضائية قادرة على إعالة نفسها. سيحتاج من يقيم فيها إلى مصادر للطاقة، والموارد، والمياه من أجل البقاء على قيد الحياة بشكل مستقل عن الأرض. وإحدى المشكلات الكبيرة التي من شأنها أن تواجه المستكشفين هي الضرر الإشعاعي. نحن محميون على الأرض من الأشعة الضارة التي تأتي من الشمس بفضل حزام فان ألن الإشعاعي Van Allen Radiation Belt وطبقة الأوزون التي تحجز الكثير من الجزيئات والأمواج الضارة. ولكن في الفضاء الخارجي قد يتعرض البشر لجرعات مميتة من الإشعاع في وقت قصير نسبياً إذا لم تكن مستوطناتهم محمية بشكل جيد. ومن الجوانب الاجتماعية والفسيولوجية، لا نزال بحاجة إلى فهم أفضل لكيفية تكيف البشر لفترات طويلة من الزمن في عزلة نسبية وفي بيئة معادية، والكيفية التي سيكون بها البشر قادرين على التفاعل اجتماعيا بطريقة بناءة مع جيرانهم المستوطنين تحت الظروف القاسية والغريبة البعيدة عن الأرض.
ومن الجانب التكنولوجي، يجب أن تكون منصات إطلاق الصواريخ وقدرات الإطلاق كفيلة بإرسال جميع المواد اللازمة لمساعدة المقيمين في الفضاء أثناء الفترة الزمنية التي يحتاجون إليها، حتى تصل مستوطناتهم إلى حالة مرضية من الاكتفاء الذاتي.
من سيستوطن الفضاء أولاً؟
لدى وكالات الفضاء الوطنية، مثل وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا)، أهداف واضحة لإعادة البشر إلى القمر، وكذلك الذهاب إلى المريخ. وربما يكون اهتمام الولايات المتحدة المتجدد الواضح بالقمر ناتج من رغبتها السياسية في مواجهة التقدم الذي أحرزته في وقت قصير نسبيًا دول أخرى، ولا سيما الصين. ومع ذلك، فإن «السباق إلى الفضاء» الجديد لم يعد يقتصر على الوكالات الوطنية فحسب، بل إن لدى الشركات الخاصة التكنولوجيا اللازمة لتكون منافسا قويا في هذا السباق. على وجه الخصوص، حققت شركة سبيس إكس نجاحا كبيرا بكونها أول شركة خاصة تطلق مركبة فضائية إلى مدار الأرض (بما في ذلك تسليم حمولة إلى محطة الفضاء الدولية)، وبجهودها في تطوير نظام إطلاق قابل لإعادة الاستخدام. وتهدف الشركة إلى استيطان المريخ في المستقبل القريب. كمثال آخر، حاولت مركبة الفضاء الإسرائيلية «بيرشيت» التابعة لشركة خاصة الهبوط على سطح القمر في وقت سابق من هذا العام، لكنها تحطمت في نهاية المطاف. ومع ذلك، تشير هذه الجهود بوضوح إلى نية الشركات الخاصة استيطان الفضاء، ولاسيما لتحقيق عوائد مجزية إضافة إلى توفير رحلات سياحية للقادرين عليها.
جهود عربية
وفي ضوء الاهتمام الراهن باستيطان الفضاء، فإن العالم العربي لا يزال خارج هذا السباق. وقد اتخذت الإمارات العربية المتحدة أخيرًا خطوات كبيرة في استكشاف الفضاء من خلال عزمها إرسال مركبة فضائية للمريخ في عام 2020. لكن على وجه العموم، فإن العالم العربي بحاجة إلى القيام بجهود حقيقية لتطوير برامج الفضاء الوطنية واستقطاب الخبراء العرب في هذا المجال الذين يعملون في وكالات الفضاء الدولية. قد يكون أحد أهم وأفضل الأهداف الواقعية هو البدء بتطوير وكالة فضائية عربية موحدة، على نهج وكالة الفضاء الأوروبية المتحدة (ESA) لأن هناك العديد من الكوادر العربية التي يمكنها أن تساهم في نمو سريع لبرنامج عربي.
إن التقدم في تكنولوجيا الفضاء يتطلب أيضاً القدرة على إعداد وتدريب جيل جديد من العلماء والمهندسين، وهو ما يمكن تحقيقه من خلال تحسين التعليم التقني في الجامعات العربية، وتخصيص شهادات جامعية لعلوم الفضاء، وفي الوقت نفسه دعم الطلاب المحليين بمنح للدراسة في الخارج واكتساب الخبرات اللازمة لاسيما في المراحل الأولية.
أخيراً، يجدر بنا التذكير أن ما تم اقتراحه هنا لا يعني أننا يجب أن نتجاهل مشكلاتنا على الأرض وأن نبدأ في البحث عن غزو الفضاء. وأحد الانتقادات الرئيسية لاستيطان الفضاء هو أنه قد ينتهي بنا المطاف إلى أن ننقل مشكلاتنا إلى مكان مختلف. من الواضح أن التفكير في استيطان الفضاء يلزمه أيضاً التركيز على معالجة القضايا البيئية والاقتصادية التي تواجهنا على الأرض في المقام الأول. لكن من الضروري أن نعمل على كلا المحورين بالتوازي حتى نتمكن من إطالة أمد إقامتنا على الأرض بما يكفي لتطوير التقنيات اللازمة لاستيطان الفضاء، وحتى لا ينتهي بنا المطاف إلى تكرار الأخطاء نفسها على كوكب آخر!