نشأت نصار مهندس كيميائي يعيد تعريف حلول الطاقة والبيئة
رحلة مهندس كيميائي يتحدى الأفكار التقليدية لخلق حلول مستدامة
“أتخيل مستقبلاً حيث يمكن لمصادر الطاقة الخضراء أن تُزود منازلنا وسياراتنا وأعمالَنا التجارية بالطاقة بنحو أكثر إنتاجية” نشأت نصار.
إن من بين المفاهيم الشائعة أن المهندسين الكيميائيين هم من التقنيين الذين يرتدون الخوذ الواقية ومعاطف المختبر، ويركزون على تحسين تصميم وإنتاج البتروكيماويات والبلاستيك والمستحضرات الصيدلانية في مصانع صناعية معقمة وكبيرة الحجم. صحيح أن هذا جانب واحد من جوانب مهنتهم. ومع ذلك، فإن وجهة النظر الضيقة هذه تتجاهل الآثار الأوسع والإمكانات الإبداعية لهذا الفرع من الهندسة. وعلى النقيض من ذلك يرى نشأت نصار، أستاذ دكتور ورئيس قسم شُوْليش للصناعة في مجال تكنولوجيا النانو لتطبيقات الطاقة والبيئة في قسم الهندسة الكيميائية والبترولية في جامعة كالغاري، أن تخصصه يشكل أداة قوية لمعالجة بعض التحديات البيئية والطاقة الأكثر إلحاحاً في العالم. وباعتباره قائداً ذا سمعة دولية في تطبيقات تكنولوجيا النانو لتحديات الطاقة والبيئة، يعمل نصار على تطوير مواد نانوية لتحسين استخلاص النفط والحد من التأثيرات البيئية.
ولنتخيلْ جزيئات صغيرة عالية التقنية تعمل كنوع من الأبطال الخارقين على المستوى المجهري. ويتلخص هدفها في تزويد البشر بطاقة أنظف. وللاضطلاع بذلك يعمل أبطالنا النانويون على تفكيك النفط الثقيل، وهو نوع من النفط الخام الكثيف واللزج الذي يصعب استخراجه ومعالجته، إلى قطع أكثر قابلية للإدارة، مما يجعل عملية الاستخراج في الوقت نفسه أكثر كفاءة وصديقة للبيئة. والنفط الثقيل عبارة عن هيدروكربون غير تقليدي، مثل الغاز الصخري ورمال النفط القطرانية، وهذا يعني أن استخراجه ومعالجته يشكلان الصعوبة نفسها مقارنة بالنفط والغاز التقليديين. وعادةً ما تُشارك في استخراج النفط الثقيل عملياتٌ كثيفة الطاقة (مثل الاسترداد الحراري، والتكسير الهيدروليكي، والتعدين السطحي). ولكن ما القاسم المشترك بين كل هذه العمليات؟ إنها تدمر البيئة، وتستهلك الطاقة، وينبعث منها غاز ثاني أكسيد الكربون بنحو جنوني. ولكن عمل نصّار أثبت قدرات كبيرة، بما في ذلك الحد من استخدام الطاقة، وخفض انبعاثات غازات الدفيئة، والحد من توليد النفايات الصلبة، وحاز عشر براءات اختراع لهذه التطورات.
إن مجموعة أبحاث تكنولوجيا النانو التي يرأسها الأستاذ الدكتور نصّار هي مختبر داخل جامعة كالغاري، حيث يعمل زملاء ما بعد الدكتوراه وطلبة الدراسات العليا والطلبة الزائرون والأساتذة الزائرون والمهنيون في الصناعة وفنيو الأبحاث في جميع أنحاء العالم، الذين يجمعون الموارد لتطوير مجموعة متنوعة من التقنيات الفعالة. ومن بين مجالات تركيز المختبر المعالجة في الموقع، وهي عملية تحدث من خلالها تنقية النفط الثقيل مباشرةً داخل الخزان لتبسيط النقل وخفض استخدام الطاقة. ويشارك المختبرُ نفسه في كالغاري أيضاً مشاركة عميقة في حصاد الطاقة، وتطوير المواد النانوية لكل من الوقود الأحفوري ومصادر الطاقة المتجددة. وفيما يخص الطاقة المتجددة تحديداً، فقد ابتكروا طرقاً لاستخراج الليثيوم، وهو أمر بالغ الأهمية للبطاريات، وتحسين موصِّلية المياه للطاقة الحرارية الأرضية، وتوليد الهيدروجين من الغاز الطبيعي. وإضافةً إلى ذلك يركزون على تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى منتجات ذات قيمة مضافة مثل الميثانول والمنتجات الثانوية الصيدلانية، وتطوير مواد نانوية متقدمة لمعالجة مياه الصرف الصحي الناتجة عن استخراج النفط والغاز، وجعلها قابلة لإعادة الاستخدام والحد من الطلب على المياه العذبة، أو تحويل النفايات الناتجة عن النفط والغاز والزراعة إلى أسمدة خضراء وأنابيب نانوية كربونية وألياف كربونية. ومن خلال تطوير تقنيات صديقة للبيئة تُقلل من الاعتماد على المواد الاصطناعية واستخدام الطاقة، يهدف نصّار وفريقه إلى بناء مستقبل أنظف.
ويقول: “أتخيل مستقبلاً يمكن فيه لمصادر الطاقة الخضراء أن تزود منازلنا وسياراتنا وشركاتنا بالطاقة بنحو أكثر إنتاجية”.
وُلِد نصّار في قرية مادما، على بعد 10 كيلومترات جنوب مدينة نابلس في فلسطين. وخلال فترة الانتفاضة المضطربة في فلسطين، واجه نصّار عقبات كبيرة في طريقه إلى تحقيق تعليمه. فقد تلقى تعليمه في قريته الأصلية، التي كانت تقدم دروساً حتى الصف الثامن. وبعد ذلك، اضطر إلى الانتقال إلى قرية أخرى، عصيرة القبلية، التي كانت تقدم التعليم حتى الصف التاسع، ثم إلى بورين لإكمال الصف العاشر. وفي الصفين الحادي عشر والثاني عشر، اضطر نصّار إلى الانتقال مرة أخرى إلى قرية أخرى، حوارة، لإكمال تعليمه الثانوي. ولم تكن هذه الرحلة تتعلق فقط بالمسافة المادية والقفز بين أماكن مختلفة؛ بل كانت تتعلق في الغالب بالتحديات، حيث كان عليه أن يجتاز ثلاث قرى سيراً على الأقدام في ظل ظروف غير آمنة بسبب عدم الاستقرار السياسي ووجود المستوطنين والجنود.
“لقد بذلنا قصارى جهدنا للالتحاق بالمدرسة على الرغم من الصعوبات”، يتذكر نصّار. ويشير إلى أنه خلال هذه الفترة المضطربة، كانت أنشطة المقاومة جزءاً من الحياة اليومية، مما يعكس الصراع الأوسع في المنطقة. ويعتبرها معجزة كيف تمكنت والدته، التي يتحدث عنها طَوال الوقت، من إبقائه على المسار الصحيح على الرغم من الفوضى المحيطة بهم. يقول نصّار: “لم تكن والدتي تريدني أن أترك القرية لأنها لم تكن آمنة، لكنها رأت نفسها فيّ وفهمت أهمية التعليم”. كانت والدة نصّار أيضاً من بين أفضل طلبة صفها، لكنها لم تتمكن من تحقيق أحلامها التعليمية بسبب نقص المدارس المحلية والمخاطر المرتبطة بالسفر إلى قرية أخرى، خاصة كفتاة صغيرة. لذلك، فعلت كل شيء للتأكد من أن ذريتها – كلهم 11 – يحققون نجاحاً تعليمياً كبيراً. يذكر نصّار أنها توفيت مطمئنة إلى أن جميع أطفالها متعلمون، وأن عديداً منهم حاصلون على درجات البكالوريوس والماجستير.
في البَدء كان الأستاذ متجهاً نحو الطب، وتلقى خطابات قبول للدراسات الطبية من جامعات في الخارج. كانت جامعتان من هذه الجامعات في الجزائر والعراق، وعرضتا عليه منحاً دراسية. أرادت والدته أن يصبح طبيباً، لكنه يعتقد أن تدخل والده هنا وضعه على المسار الصحيح. قال له والده، الذي كان يعمل في مجال البناء ولديه خبرة في العيش في الأردن: “أنت لست ناضجاً بما يكفي للتعامل مع العيش في الخارج بمفردك. يمكن أن تكون الحياة صعبة حقاً بعيداً عن الأسرة”. بالنظر إلى الوراء، يعترف نصّار بأن قرار والده كان حكيماً. وعلى الرغم من أنه لم يحصل على ما أراده في ذلك الوقت، فقد وضعه على مسار قاده إلى الهندسة الكيميائية، وهو المجال الذي قاده في النهاية إلى مهنة دولية. هذا وإن كان والده يفضل أن يتجه إلى الهندسة المدنية، ولكن بمجرد أن اتخذ نصّار قراره، لم يعد هناك مجال للتراجع.
يقول نصّار بنبرة حاسمة: “لماذا اخترتُ هذا المجال؟ ببساطة، لأنني أحب السباحة ضد التيار. يعود هذا إلى طفولتي. لم يكن قراري لسبب محدد أو بفعل مواد نانوية في ذلك الوقت؛ بل كان يتعلق أكثر بتمردي الشخصي”. لكن ما كان بمنزلة عمل من أعمال التحدي في البَدء اتضح أنه وجد مسعاه في خضم ذلك. خلال سنوات دراسته في جامعة النجاح الوطنية، اكتشف أن هذا التخصص يسمح له بالإبداع. كان الأمر يتعلق بإيجاد حلول للتحديات في مجال الطاقة والمياه والتلوث. يتذكر: “شعرت بأنني أستطيع إحداث تأثير كبير. بينما وجد أصدقائي وظائف بعد التخرج، كنت الوحيد من دفعتي الذي قرر مواصلة الدراسة”. مدفوعاً بالطموح، انتقل إلى كندا وجامعة ماكغيل للحصول على درجة الماجستير في الهندسة الكيميائية، ثم إلى جامعة كالغاري للحصول على درجة الدكتوراه في تصنيع المواد النانوية وتطبيقها في معالجة مياه الصرف الصحي.
كان انتقال نصّار إلى كالغاري بمنزلة بَدء لمهنة غزيرة الإنتاج، وخاصة في أي شيء يتعلق بالمواد النانوية. في البَدء بقي كمدير أبحاث في مركز ألبرتا إنجينويتي لإنتاج الطاقة في الموقع. وفي وقت لاحق أصبح عضواً في هيئة التدريس في قسم الهندسة الكيميائية والبترولية. وحتى يومنا هذا اجتذب أكثر من 20 مليون دولار من التمويل ونشر أكثر من 140 ورقة بحثية روجعت من قِبل الأقران. ومع ذلك فهو ليس مجرد باحث. لقد أنشأ أربع شركات: SAGOPEC Energies International Inc. وNano Water Tech Inc. وCarbon OxyTech Inc. وشركة ناشئة أخرى تركز على احتجاز ثاني أكسيد الكربون. يرى نفسه كواجهة تجمع بين الأوساط الأكاديمية وعالَم الأعمال، ويهدف إلى أن يكون في موقع التحكم الإبداعي يُمكِّنه من إحداث تأثير أوسع. يقول: “إن نشر 1,000 ورقة بحثية أمر لا طائل منه إذا لم يكن لها تطبيق في العالم الحقيقي. أؤمن بإيجاد حلول لتحديات اليوم لجعل مستقبلنا أفضل. ينبع هذا من صراعات طفولتي. وهنا يأتي دور روح المبادرة لديّ”. ويدير عديداً من الشركات الناشئة طلبتُه الذين يأتي بعضُهم من خلفيات محرومة. ويبدو أن هؤلاء الطلبة أنفسهم قد استمدوا منه إلهاماً هائلاً.
عمل عبدالله مناصرة، الرئيس التنفيذي والمؤسس المشارك لشركة Carbon OxyTech Inc.، وهي شركة ناشئة تهدف إلى تحويل النفايات الهيدروكربونية الصلبة إلى منتجات قيِّمة مثل الأحماض الدبالية والفولفيكية والأسمدة الخضراء وأنابيب الكربون النانوية، من أصل فلسطيني، مع نصّار كباحث ما بعد الدكتوراه قبل الانغماس في قطاع ريادة الأعمال. يقول مناصرة: “كانت رؤيته وقيادته محورية في تحويل أفكارنا إلى مشروع ناجح”. أما كما يردد جيسوس بوتيت، الباحث في كالغاري من كولومبيا فيقول: “لا يعمل الأستاذ نصّار على توليد بيئة بحثية في مجموعتنا فحسب، بل إنه يهتم أيضاً برفاهنا كبشر، وهو أمر موضع تقدير كبير لأشخاص مثلي بعيدين عن عائلاتنا”. وتقول فرشته مشكاني، زميلة بحثية من إيران، إن نصّار يخلق بيئة داعمة “لا تترك أحداً خلف الركب”، بينما ترى دانييلا كونتريراس ماتيوس، باحثة ما بعد الدكتوراه من كولومبيا، أن نصّار “صاحب رؤية مطلقة”. “لقد علمنا كيف نبني الكَوْن بكامله بفكرة واحدة فقط”، كما تقول.
يقول نصّار: “أظل أُذكِّر طلبتي بأنهم مهندسون، وليسوا مجرد علماء. إنهم في حاجة إلى التركيز على توليد عمليات وحلول وابتكارات وتصاميم. لا يمكنك فقط أن تقول إنك تريد اختراع مواد نانوية من أكسيد الحديد. بدلاً من ذلك يمكنك الابتكار باستخدام مواد نانوية من أكسيد الحديد لإزالة الأسفلتينات [الجزيئات الثقيلة المعقدة الموجودة في النفط الخام والتي يمكن أن تجعل النفط سميكاً ويصعب نقله] من النفط لأنه مغناطيسي ويمكن استعادته باستخدام مجال مغناطيسي”.
أضاف نصّار الجائزة التي حصل عليها مناصفة من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي للعام 2023 إلى مجموعته الغنية من الجوائز – جائزة القائد الناشئ في الهندسة الكيميائية الوطنية (2018) والمركز الأول في جائزة مبادرة البحث العالمية للتسويق (2019) وغيرها. “أنا فخور للغاية بجائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، وخاصة لأنها تعترف بمساهمات العلماء من العالم العربي”. إنه لأمر مُجزٍ أن يُحتفَى به، خاصة في ظل الوضع الحالي في وطنه. يقول: “هذا التقدير يعني لي أكثر من ذلك. والدتي لم تَعُد على قيد الحياة، لكنني أشعر بأنها ستكون فخورة بإنجازاتي”.
“لم يكن هذا الإنجاز ممكناً لولا دعم فريقي البحثي والشركاء والرعاة من الصناعة، والأهم من ذلك عائلتي في الوطن فلسطين، وزوجتي الجميلة الدكتورة مها نصار وأولادي آية وراية وزين نصار وليان”.