د. طارق قابيل
كاتب علمي، وعضو هيئة التدريس في كلية العلوم بجامعة القاهرة
تعد غابات القرم (المنغروف) من النظم البيئيّة الفريدة والمتميّزة، حيث تنمو في المناطق التي تتلاقى فيها اليابسة مع مياه البحر في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية، وتتحمل درجات عالية من الملوحة وظروف بيئية متغيرة وقاسية خلافا لمعظم الأنواع الأخرى من النباتات. وعلى الرغم من وجود هذه الغابات في نحو 123 منطقة على مستوى العالم، فإنها بلغة الأرقام والإحصائيات تعد من الموائل النادرة لأنها تشكل نحو 1 % فقط من الغابات الاستوائية، وزهاء 0.4 % من مجمل الغابات على مستوى العالم.
وهناك أكثر من 80 نوعاً من القرم، منها نحو 60 نوعا توجد وتنتشر على سواحل البحار والمحيطات في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية لاسيما في جنوب شرق آسيا. ويحظى الوطن العربي بثلاثة أنواع (أجنـاس) فقــط مـن أيكـات القرم السـاحلية هي القرم الرمادي أو الأسود المعروف علميا باسم Avicennia Marina والقرم الأحمر المعروف باسم Rhizophora Mucronata والقرم البرتقالي المعروف باسم Bruguiera Gymnorhiza. وهناك نوع إضافي رابع أقل شيوعا يعرف باسم القرم الهندي أو Ceriops Tagal سجل في جزيرة موسيري بإريتريا.
ويعتبر النوع الأول Avicennia Marina المعروف باسم القرم في الجزيرة العربية أو الشورى (كما يسمى في مصر والسودان) هو النوع الأكثر شيوعاً في المنطقة، حيث ينتشر حول ساحل البحر الأحمر الغربي (سواحل مصر والسودان) والساحل الشرقي (سواحل المملكة العربية السعودية واليمن)، وكذلك في خليج العقبة والخليج العربي. وهذا النوع يعد من أكثر أنواع القرم انتشاراً على مستوى العالم، حيث يمتد من شرق أفريقيا والبحر الأحمر إلى الشواطئ الاستوائية وتحت الاستوائية للمحيط الهندي حتى جنوب الصين، ومعظم أستراليا حتى بولينيزيا وفيجي وجزيرة نيوزيلاندا. واسم هذا النوع مستمد من اسم مكتشفه العالم العربي ابن سينا Avicenna صاحب كتاب (القانون في الطب)، ومن بيئته البحرية المميزة حيث تشير كلمة Marine أو Marina إلى المناطق البحرية.
وتستطيع نباتات القرم التواؤم مع الظروف والعيش وسط البيئة المالحة، حيث تتخلص من الملوحة الزائدة بأكثر من آلية، تختلف من نوع إلى آخر، مثل طرد الملح والتخلص من الأوراق الذابلة والأعضاء المشبعة بالأملاح. كما تتميز بوجود جذور قائمة وبازغة فوق الماء تسمى الجذور الهوائية التنفسية تساعد النبات على التنفس وتعينه على البقاء حيا في تلك البيئة الصعبة والقاسية، كما تعمل هذه الجذور في الوقت نفسه على تهدئة تيارات المد والجزر، مما يساعد على توفير بيئة مائية هادئة، وهي من أهم متطلبات معيشة النبات. وتنبت بذور هذا النبات وهي لا تزال على الأشجار الأم، وبمجرد بلوغها مرحلة النضج تسقط البادرات وتطفو في الماء إلى أن تثبت نفسها في الماء الضحل حيث تظهر الجذور النامية.
وأشجار القرم عادة ما تكون شبه مغمورة أثناء المد العالي حيث تختفي جذوع الأشجار تحت الماء تقريباً، وأوراق النبات متقابلة رمحية إلى بيضاوية، غالباً حادة القمة ولها عنق صغير، ويتراوح طولها ما بين 3-7 سنتيمترات، وعرضها ما بين 1-3 سنتيمترات.
بيئة داعمة للتنوع الأحيائي
تعد المواقع التي تنتشر بها غابات القرم من الأراضي الرطبة التي تشمل مجموعة متنوعة من النظم الإيكولوجية، وتتضمن مزيجا فريدا ومتنوعا من النباتات والحيوانات، لذا فهي عادة ما تحظى بدرجة عالية من التنوع البيولوجي، نظرا لارتفاع محتواها العضوي وكثرة عدد الكائنات البحرية المجتمعة في تلك البيئة. وتقدم غابات القرم عددا كبيرا من المنافع وخدمات النظم الإيكولوجيّة. فهي أولا توفر بيئة معيشية ملائمة للأسماك والقشريات، كما تعد مصدرا غذائيا مهما لعدد كبير من الحيوانات مثل الإبل والقردة والطيور. كما تعمل على دعم الأمن الغذائي في المناطق الساحلية والاقتصاد المحلي ولاسيما للصيادين المحليين؛ نظرا لأنها تعتبر مربى جيدا وحاضنة طبيعية لأنواع كثيرة من الأسماك والقشريات. وتقتات الجمال والأغنام والماعز وبعض الحيوانات البرية على أوراق وسيقان النبات. وفي بعض الدول تستغل غابات القرم أيضا في تربية النحل، حيث يجمع رحيق أزهاره وينتج عسلا ذا نكهة مميزة.
و تدعم غابات القرم السياحة البيئية بشكل فعال نظرا لجمالها الفطري وعزلتها الساحرة، وهي تؤدي دورا مهما في حماية الشواطئ والمناطق الساحلية من التآكل والانجراف، فضلا عن دورها في التخفيف من آثار التغيرات المناخيّة وهبات العواصف البحرية وبقية الظواهر القاسية. إضافة إلى ذلك، فهي تعتبر من موائل الكربون الأزرق، وتعد من أكثر هذه الموائل كفاءة في امتصاص الكربون وتخزينه في التربة التحتية، وتتفوق على مثيلاتها من الغابات البرية الاستوائية في هذا الأمر بمقدار 3 – 4 مرات، ما يعكس أهميتها ودورها الحيوي في التقليل من آثار ظاهرة الاحتباس الحراري المسببة لتغير المناخ.
وتحول البكتريا الموجودة في التربة أوراق النبات التي تتساقط في الماء إلى مركبات عضوية أولية، وهذا بشكل مستمر لتستفيد منها بقية الكائنات البحرية وتدعم بها نظامها الغذائي، كما يستخدم عدد كبير من الطيور أغصان النبات كأعشاش لوضع البيض والتكاثر. وبذلك تعتبر بيئة نبات القرم من المواطن الجاذبة والداعمة لعدد كبير من الكائنات البحرية لاسيما الأسماك والروبيان والقشريات والطحالب والفطريات والديدان والحشرات.
تحديات وضغوط بشرية
على الرغم من دورها البيئي المشهود وفوائدها التي يصعب عدها أو حصرها، فإن غابات القرم تتعرض منذ فترة كبيرة لضغوط كبيرة وتحديات كثيرة وخطيرة، يرجع معظمها إلى الممارسات البشرية السلبية والأنشطة التنموية التي لا تراعي البعد البيئي. لذا فإن هذه الغابات باتت تشهد تدهوراً سريعاً، حتى إن أجزاء كبيرة منها في أكثر من موقع عبر العالم صنفت على أنها نظم بيئية مهدده بالفناء.
وتتأثر النظم البيئية لهذه النباتات، مثلها مثل غيرها من النظم البيئية الأخرى، بنتائج المشكلات البيئية الناتجة عن الأنشطة البشرية وعدم اكتراث الإنسان بالحمل الوظيفي للموائل وقدرتها على تحمل الضغوط والمؤثرات السلبية. وتعتبر مشروعات التنمية الساحلية التي تؤدي إلى تجفيف الأراضي الرطبة واستقطاع غابات القرم من أخطر الأنشطة البشرية على موائل القرم ومن أكثرها تدميرا لهذه الغابات، حيث تؤدي مثل هذه الأنشطة إلى تدمير التربة وإزالة القيعان المغطاة بالعشب، وتدمير الشقوق الصخرية والفتحات الزاخرة بالحياة الفطرية. ويعتبر التلوث النفطي وتسرب النفط والمواد الخطرة أثناء أعمال التشغيل في المنصات البحرية وحوادث ناقلات النفط إلى الشواطئ ومواقع أشجار القرم واختلاطه من ثم ببراعم النبات وجذوره الهوائية وبجذوع الأشجار من المخاطر المتكررة المدمرة لتلك البيئة المعيشية الثرية بالحياة الفطرية. وقدرت بعض الدراسات معدل التدهور السنوي الذي يطال غابات القرم على مستوى العالم بنحو 1 % سنويا، وهي نسبة مؤثرة جدا؛ نظرا لندرة غابات القرم واقتصار وجودها على المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية.
ونظرا لزيادة هذه المخاطر وهشاشة موائل القرم في الوقت نفسه، فقد وُضعت أسس وقواعد إرشادية لحماية هذه الموائل من الأنشطة البشرية التنموية التي تقام عادة بالقرب من مواقع القرم. ومن أهم هذه الأسس عدم التدخل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في توقيت وكمية انسياب الماء العذب من الأنهار والوديان إلى مواطن القرم؛ وعدم التدخل في استمرار عملية الغمر بماء المد أو ماء الجريان السطحي؛ وعدم الإخلال بالتركيب الطبيعي والكيميائي والأحيائي للمنظومة البيئية لهذه النباتات أو لمستوى ارتفاع الوسط الترسيبي بالنسبة لمستوى سطح البحر بالمنظومة.
وإدراكا لخطورة التهديدات التي تتعرض لها غابات القرم، فقد أقر المجلس التنفيذي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في عام 2015 إعلان يوم 26 يوليو يوما دوليا لصون غابات القرم. ونظرا أيضا لأهمية هذا النبات ودور الغابات وارفة الأشجار في دعم الحياة الفطرية والاقتصاد المحلي وغير ذلك، فإن الخبراء المعنيين ما انفكوا ينادون بالإكثار والتوسع في مساحات تلك الغابات، أملا في تعظيم دور هذا الموئل الغناء في مواجهة مخاطر تغير المناخ وحماية الأمن الغذائي العالمي وتحقيق التنمية المستدامة.