العلوم البيئيةالعلوم الطبيعية

مبادرات هندسية للحد من أخطار ارتفاع مستوى البحار

م. أحمد العيسى

مع تزايد المخاوف من الأرقام والتوقعات التي تنشرها التقارير من الجهات الدولية والأممية المعنية بظاهرة تغير المناخ، والتي تشير إلى ارتفاع مستويات الأنهار والبحار والمحيطات بنسب مختلفة بسبب تلك الظاهرة وتأثيرها في المنشآت والمباني القريبة منها، يزداد الاهتمام من المهندسين والخبراء المعنيين بالجيولوجيا والتربة بإيجاد حلول هندسية تحد من ذلك التأثير وتسهم في إنقاذ أرواح الآلاف من البشر والكائنات الحية الأخرى التي تعيش في تلك المناطق.

وعلى الرغم من بذل الخبراء في مجال الهندسة والتربة في مؤسسات بحثية وعلمية متنوعة جهودا جبارة لإيجاد تلك الحلول المناسبة، فإنهم يعتبرونها حلولا مؤقتة ومرحلية لبعض المناطق، وحلولا تتسم بالاستدامة والقابلية للتطبيق مدة طويلة في مناطق أخرى.

و يمكن الإشارة بهذا الصدد إلى أهم النتائج التي خرج بها التقرير الخامس الذي أعده الفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ (بتكليف من المنظمة العالمية للأرصاد الجوية وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة) عام 2013 . وأهم هذه النتائج أن متوسط مستوى سطح البحر في العالم ارتفع بمقدار 19 سنتيمترا، وأن المحيطات توسعت بسبب ارتفاع درجات الحرارة وذوبان الجليد ما بين عامي 2010-1901، كما تقلص حجم الجليد البحري في القطب الشمالي في كل عقد على التوالي منذ عام 1979 مع فقدان مساحات كبيرة من الجليد في كل عقد.

ونظرا للتركزات الحالية والانبعاثات المستمرة من غازات الدفيئة، فمن المرجح أن تستمر محيطات العالم بالدفء ويستمر ذوبان الجليد. ومن المتوقع أن يرتفع متوسط مستوى سطح البحر ليراوح بين 30-24 سم في عام 2065 و63-40 سم بحلول عام 2100 مقارنة بالفترة ما بين 2005-1986، وفق ما ذكر التقرير.

الدول العربية

وليست الدول العربية ببعيدة عن هذه الآثار، إذ تقدر بعض الدراسات أن ارتفاع مستوى المياه مترا واحدا سيؤثر على نحو 41500 كيلومتر مربع من الأراضي الساحلية العربية مما سيضر بنحو %3.2 من عدد السكان، وهذا يعني أن المياه ستغمر ما بين %12 و%15 من دلتا النيل، في حين ستخسر البحرين نحو %20 من أراضيها، و ستتأثر كل من تونس والمغرب والجزائر وموريتانيا وقطر والكويت والإمارات.

وذكر تقرير للبنك الدولي صدر في ديسمبر عام 2012 أن الكوارث الناجمة عن تغير المناخ كبدت المنطقة العربية خسائر مباشرة قدرها 12 بليون دولار، وأثرت في حياة نحو 50 مليون شخص فيها خلال الثلاثين عاماً الماضية، فيما تزيد الخسائر غير المباشرة للكوارث على المبلغ المذكور بأضعاف مضاعفة.

وهذه الأرقام من أكبر جهة أممية تتابع ظاهرة تغير المناخ تستدعي دق ناقوس الخطر لدى الجهات المعنية بتداعيات هذه الظاهرة على المنشآت الواقعة قرب الشواطىء وعلى ضفاف الأنهار الكبيرة، ووضع الحلول المناسبة للحد من آثارها، وتجنب أخطارها.

فيضانات الأنهار

عانت مناطق عدة في العالم بسبب فيضانات الأنهار الناتجة عن ظاهرة تغير المناخ، واستدعى ذلك من المسؤولين عنها اتخاذ إجراءات للحد من تأثيرها مستقبلا. فعلى سبيل المثال، فإن هناك عاصفة شديدة ضربت مدينة كين الأمريكية في أكتوبر عام 2005 وأدت إلى عدد من الوفيات، وتدمير الطرقات والمنازل والجسور وإغلاق محطة معالجة المياه. وهذا أدى إلى وضع المسؤولين خططا احترازية وإجراءات هندسية، منها الاستعاضة عن الأرصفة بالخرسانة المثقبة، و إكساء الطرق الجانبية بحافات معشبة بدلا من حواجز حجرية أو أسمنتية، وذلك بهدف توزيع مياه الأمطار وتسريبها ببطء إلى التربة المجاورة بدلا من تركها تجري على الطرقات مسببة الفيضانات.

 وشهدت مدينة تشارلز بولاية آيوا الأمريكية فيضانا كبيرا عام 2008 أدى إلى ارتفاع المياه في نهر سيدار إلى ثلاث أقدام تقريبا، وإلى خسائر مادية كبيرة، وهو ما دعا المسوؤلين إلى وضع حلول مناسبة لعدم تكرار تلك الخسائر، وأهمها بناء أرصفة نفوذة للمياه فوق طبقة سميكة من الصخور والحصى، والاستعانة بمتعضيات (كائنات حية) ميكروية تتغذى بالنفط وغيره من الملوثات قبل أن تغور المياه وتصل في نهاية المطاف إلى النهر، ووضع مصبات كبيرة لتصريف مياه الصرف الصحي إلى المحيط.

 حلول حديثة

هنالك عدد من الحلول الهندسية التي اتبعتها مناطق عديدة لحماية مجتمعها ومنشآتها وكائناتها من أخطار ارتفاع مستوى مياه البحار والمحيطات لا سيما المنشآت الواقعة قرب الشواطئ وضفاف الأنهار، وبعض هذه الحلول مناسبة لمدة مؤقتة وتتضمن آثارا جانبية تحمل معها بعض المثالب، وبعضها قد يستمر مدة طويلة نظرا لأخذ جميع العوامل البيئية والمناخية والجيولوجية بعين الاعتبار. ومن أهم الحلول الهندسية التي شهدتها بعض الدول:

-1 الأسوار البحرية

تلجأ بعض المدن إلى بناء أسوار بحرية عالية لحمايتها من المياه التي يمكن أن تنتج عن ارتفاع مستوى مياه البحار أو المحيطات التي تطل عليها. ولعل من أمثلة هذه الأسوار سور غالفستون البحري الذي أقامته تلك المدينة الأمريكية بعد أن ضربها إعصار هائل عام 1900 وأدى إلى مقتل نحو سبعة آلاف شخص. وكان ذلك السور يمتد نحو 16 كيلومترا بارتفاع نحو 515 سنتيمترا. وهذه الطريقة القديمة تلجأ للتقييم من المهندسين لمعرفة مدى ملاءمتها لأي مدينة تسعى إلى اتخاذ مثل هذا الحل.

ومن أمثلة ذلك أيضا (برنامج تَكيّف كيريباتي – وهي مجموعة جزر صغيرة مهددة بالغرق في المحيط الهادىء) الذي يموله البنك الدولي وآخرون. وتضمن ذلك البرنامج الذي نفذ عام 2011 إقامة أسوار بحرية في أمكنة متعددة شملت طرف مدرج المطار وطرف أحد الأحياء الغنية وأجزاء من اثنين من الطرق المرتفعة المقامة فوق الأراضي المنخفضة.

-2 المتاريس

ولجأت مدن أخرى إلى المتاريس لحماية مجتمعها من المياه. ومع أن المتاريس معروفة منذ زمن طويل فإن التطورات الهندسية الأخيرة جعلت من موادها وكيفية بنائها والمناطق التي تبنى منها حلا مناسب للحد من آثار المياه المتدفقة إليها من الأنهار أو البحار أوالمحيطات.

-3 التقهقر

ومن الحلول أيضا ما يسمى (التقهقر) الذي يتمثل بهجر المنشآت الواقعة قريبا من الساحل والبناء في مناطق داخلية بعيدة عن السواحل وعن التعرض أيضا لتدفق المياه إليها. وهذا الخيار مؤلم جدا ويجب اتخاذه وفق الدراسات التي تظهر المدة التي يمكن لتلك المنشآت أن تكون خطرة على المقيمين فيها.

ومن أمثلة ذلك التقهقر المبادرة التي أطلقتها جزر كيريباتي، وتعتبر مثالا يُحتذى به من قبل دول الجزر الأخرى القلقة بالنسبة إلى مستقبلها. وهذه المبادرة التي تدعى (النزوح بكرامة)، تتطلع إلى بلدان مثل أستراليا تعاني شيخوخة سكانية تجعلها تمنح شبان كيريباتي مكانا فيها بسبب حاجتها إلى قوى عاملة. وبهذه الطريقة، فإذا جاء يوم النزوح من كيريباتي، فإن النازحين سينضمون إلى مجتمع مغترب موجود بالفعل بدلا من معاملتهم كلاجئين.

مشروعات الدلتا الهولندية

من المشروعات الهندسية الرائدة في العالم في مجال الحد من أخطار ارتفاع مستويات سطح البحار مشروعات الدلتا الهولندية التي عدتها بعض الجمعيات الهندسية واحدة من عجائب الدنيا السبع في العالم الحديث. وهذه المشروعات كما يصفها جون إنغلاندر في كتابه (المد العالي على الشارع الرئيس) تتمثل في مصفوفة ضخمة من السدود والأقفال والخنادق وحواجز العواصف لحماية البلاد من العواصف وارتفاع مستوى سطح البحر، لاسيما أن ثلث البلاد يقع تحت مستوى سطح البحر. وعندما صممت تلك المشروعات قبل نحو نصف قرن كان الهدف منها هو الحد من خطر الفيضانات التي ربما تحدث مرة واحدة كل أربعة آلاف عام.

وهنالك مبادرات هندسية أخرى في هذا الشأن منها ما هو متخذ في خليج سان فرانسيسكو لاستيعاب أي ارتفاع في مستوى سطح البحر إلى نحو 1.4 متر، والفتحات التي أقيمت على بعض الخلجان للتحكم في مرور المياه فيها. وستستمر هذه الحلول الهندسية بالاستمرار ما دامت أخطار ظاهرة تغير المناخ قائمة ومستمرة. وربما نجد تطبيقات حديثة لها في عدد من الدول العربية المهددة مدنها الساحلية بالغمر مستقبلا. >

belowarticlecontent
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

I agree to these terms.

زر الذهاب إلى الأعلى