علم الصوتيات المعمارية.. إبداعات الحضارة الإسلامية
أبدعت الحضارة الإسلامية في علم الصوتيات المعمارية، وطبّقه المعماريون المسلمون بدقةٍ وإبداع في المباني الدينية، وتأثّر بهم الغرب وطوره بصورة متميزة.
د. محمد أحمد عنب
أستاذ الآثار والعمارة الإسلامية في جامعة الفيوم (مصر)
يدين علم الصوتيات الحديث بنشأته وإرساء أصوله المنهجية السليمة للحضارة الإسلامية، فقد استفاد من تطبيقاته في مجالات حيوية مختلفة من بينها تطوير تِقنية الهندسة الصوتية واستخدامها فيما يُعرف باسم (علم الصوتيات المعمارية) الذي وضع أسسه في العصر الحديث العالم والفيزيائي الأمريكي والاس سابين.
ويُعرف الصوت بأنّه مجموعة من الذبذبات المُركّبة في وسط مرن بتردُّدات متفاوتة تسمعها الأذن البشرية، وينتقل خلال المساحات المبنية بعدة طرائق أكثرها شيوعًا الانتقال من خلال الهواء. وتعني تقنية الصوتيات المعمارية إدارة كيفية انتقال الصوت المحمول عبر الهواء من خلال الاصطدام بالمواد على حد سواء والتحكُّم في الصوت داخل مبنى ما. وينعكس الصوت عندما ترتد الموجات الصوتية من على الأسطح، فتميل الأسطح المُقعّرة إلى تكثيف الصوت المُنعكس أو تركيزه في بؤرة واحدة، في حين تقوم الأسطح المُحدّبة بالعكس فتُبعثر الصوت في اتجاهات مُتعدّدة.
وصدى الصوت هو استمرار انعكاس الصوت بعدما يتوقف مصدر الصوت عن إصداره. ولتحقيق ذلك يجب مراعاة عدة عوامل، مثل شكل المكان وأبعاده والمواد الموصلة للصوت والجدران العازلة وتصميم الأسقف والأرضيات.
الصوتيات المعمارية بالعمارة الإسلامية
برعت الحضارة الإسلامية في تطوير تقنية الهندسة الصوتية، وأبدع علماؤها في تفسير جيّد لحدوث صدى الصوت؛ فقد أوضح العالم المسلم بَهْمَنيارُ بن المرَزَبانِ في كتابه (تحصيل بَهْمَنيار) أنَّ الصَّوْتَ المُنعكس يكون شكله شكل الأول وعلى هيئته، ويجوز أنْ يكون لكل صوت صدى ولكن لا يُسمع، كما أن لكل ضوءٍ عكسًا. وذكر العالم المسلم عز الدين الجَلْدَكِيُّ في كتابِهِ (أسرار المِيزانِ) أنَّ التموّج الذي يُحدث الصوت ليس المراد منه حركة انتقالية من ماء أو هواء واحد بعينه، بل هو أمر يحدث بصدم بعد صدم وسكون بعد سكون، فالصَّدى يحدث عن انعكاس الهواء المُتموّج بنفس شكله وهيئته منْ مُصادمة جسمٍ عالٍ كجبلٍ أو حائطٍ، ويجوزُ ألاَّ يقع الشُّعورُ بالإنعكاس(أي الصَّدى) لقرب المسافة فلا يُحَسُّ بتفاوُت زماني الصَّوْت وعكسه.
وتتجلّى عبقرية المِعمار المُسلم في توظيفه للعناصر المعمارية وحسن استغلاله لعناصر الإنشاء المختلفة في إيجاد حلولٍ هندسية ومعالجاتٍ مِعمارية مُبتكرة للكثير من المشكلات التي كانت تواجهه، ومن أمثلتها مشكلة المساحات الشاسعة في العمائر الدينية وحاجته لتوصيل الصوت إلى أكبر عددٍ من المصلين وذلك قبل اختراع مُكبّرات الصوت المختلفة، الأمر الذي دفعه إلى ابتكار وتوظيف العديد من العناصر المعمارية لتحقيق صدى الصوت.
وأدرك المعماري المسلم أن الصوت ينعكس على السطوح المُقعّرة ويتجمع في بُؤرٍ مُحدّدة، مِما كان له أثر في اختياره لأساليب التغطيات المُقعّرة التي تتمثّل بشكلٍ أساسي في القباب وأنصافها وأشكالها المُختلفة، واستخدام المحاريب المُجوّفة التي تُساعد على تجميع صوت الإمام وتكبيره، وإيصاله إلى المصلين الذين يوليهم ظهره أثناء الصلاة، إضافة إلى الدخلات والحنايا العميقة المُقعّرة في الجدران. وهذا يتفق مع القاعدة الذهبية في العمارة وهي أن الشكل يخدم المضمون، ويتفق مع النظرية الوظيفية في العمارة التي تقوم على مبادئ أساسية هي المنفعة والمتانة والجمال.
هندسة القباب
تُعتبر القباب من السمات الفريدة في العمارة الإسلامية، فهي أحد الأشكال الخاصة التي استخدمت في تغطية أسقف المباني على مر العصور، وجاء الإقبال عليها باعتبارها حلاً مِعماريًا رائعًا لكثيرٍ من المشكلات البِيئية والهندسية. وتُعرّف القبة بأنها بناء محدب أشبه بكرة مشطورة من وسطها أو بناء دائري مُقعّر من الداخل ومُقبّب من الخارج، وتبدو من الخارج على هيئة قصع ضحلة. وتتألف من دوران قوس على محورٍ عمودي ليُصبح نصف كرة تقريبًا يأخد مقطعها شكل القوس.
وتجلت عبقرية المعماري المسلم في بناء القبة حيث يتطلّب بناؤها على مساحة مربعة تحويل هذا المربع إلى شكل دائري عن طريق مناطق انتقال مختلفة تتمثّل في أشكال الحنايا الركنية أو المثلثات الكروية أو المقرنصات؛ لتسهيل الانتقال من المربع إلى المثمن ثم إلى الدائرة. وتتميّز القباب بأنّ لها رقبة تحوي عددا من النوافذ المُتنوّعة.
ويُرجّح أن القباب الأولى نشأت في بلاد ما بين النهرين والشرق الأدنى، كما أنّ العمارة الرومانية والبيزنطية عَرفت القباب واستعملتها بكثرة وأصبحت من أهم مُميزاتها. وبَلغت القباب في العمارة الاسلامية درجة عالية من الرقي من الناحيتين المعمارية والإنشائية وأصبحت عنصرًا إنشائيًا مهمًا في تغطيات الأسقف في العمائر الإسلامية بأنواعها المختلفة، فلم يقتصر إنشاؤها على المساجد فقط بل في كل الأبنية الإسلامية من قصور ومدارس وأضرحة وخانات وحمامات وأسواق وغيرها.
وتنوّعت القباب في أشكالها فأخذت أشكالًا مُتعدّدة تراوحت بين الشكل نصف الكروي والبصلي والهرمي والمخروطي وغيرها من الأشكال الأخرى، كما تنوّعت في أحجامها ومواد بنائها وأسلوب زخرفتها بتنوّع البيئة الجغرافية والعصر الذي شُيّدت فيه. وقد استُخدِمت القباب لأسبابٍ وظيفية وإنشائية ومناخية ورمزية وجمالية، كما وظّفها المعماري المسلم للاستفادة منها في علم الصوت وذلك باستخدامها لتضخيم صوت الخطيب في المسجد حين اتسعت مساحات المساجد.
التأثير الصوتي للقباب
تعتمد فكرة القباب على إحداث صدى الصوت حيث ينعكس الصوت عندما ترتد الموجات الصوتية من على السطوح. وتمتلك السطوح المُقعّرة للقباب خصوصيةً كبيرة؛ حيث تعمل على تمركُّز معظم الموجات الصوتية المُنعكسة عنها في منطقةٍ مُحدّدة من الفضاء مولدة ما يُعرف بالبُقع الحارة Hotspots، فيرتفع منسوب الضغط الصوتي في منطقة دون أخرى مما يؤدي إلى حدوث انعكاس الصوت، وذلك بارتداد الموجات الصوتية نتيجة لاصطدامها بسطحٍ عاكس تحت زاويةٍ مُعينة تكون فيها زاوية السقوط عمودية على السطح العاكس، طبقًا لقانون الانعكاس الصوتي المعروف والمُشابه لظاهرة الانعكاس الصوتي.
ومن الظواهر الأخرى التي تُسهم الأَشكال المُقعّرة في توليدها ظاهرة الصوت الزاحف Creep Echo، حيث تنعكس الموجات الصوتية بالتتابع في مستوى قريب من محيط القبة مما يُمكّن المُستمع القريب منه من أن يسمع بشكلٍ واضح. وإذا أُجري حساب دقيق لهندسة السطوح المُقعّرة فإنّه يُصبح بالإمكان تسليط الأمواج الصوتية المُنعكسة وتركيزها في اتجاهات معينة، بحيث تزيد من وضوح الصوت وشدته.
ومن أهم مُؤشرات التشكيل الهندسي للقباب المُؤثّرة في الأداء الصوتي التي حرص عليها المِعمار المسلم، شكل القبة وحجمها وأبعادها وموقعها، فيزداد تأثير القبة على الظاهرة الصوتية بزيادة حجمها بسبب ازدياد كمية الطاقة الصوتية الداخلة إلى القبة، ومن ثم زيادة كمية الانعكاسات الصادرة عنها باتجاه مُحدّد، مما يُحدث تكثيفا في الطاقة الصوتية.
القبة في العمائر الإسلامية
استغل المعماريون المسلمون فوائد القبة المُتعدِّدة ولاسيما خاصية تركيز الصوت، ووظفوها معماريًا وبخاصة في المساجد الجامعة الكبيرة فوق بيت الصلاة وفي القباب الضريحية بِطريقةٍ دقيقة تضمن توزيع الصوت بانتظام على جميع الأرجاء، وذلك كوسيلة تكبير لما تُحدثه من صدى الصوت وتعمل على نقل وتقوية صوت الإمام حتى يسمعه عموم المصلين. وأقبلوا على استخدامها بكثرة في جميع أجزاء البناء حتى أصبحت ملمحًا مُميزًا في العمارة الإسلامية عبر الفترات التاريخية المختلفة. وتميّز مربع المحراب بأنّه يَعلوه قبة كبيرة.
واستخدمت القباب بشكلٍ كبير في العمارة في دول شرق العالم الإسلامي كما في العمارة السلجوقية في إيران والأناضول والعمارة الإيلخانية، والعمارة العثمانية التي تميّزت بشكلٍ خاص باستخدام القباب كما في معظم المنشآت العثمانية في تركيا. ويُعتبر المِعماري خوجة سنان(895هـ-996هـ/1489-1588م) من أشهر المهندسين المِعماريين في العالم الإسلامي وترك إرثًا مِعماريًا مُميّزًا، وتميّز بتوظيفه للقباب وأنصافها بأشكالها المُتنوّعة بشكلٍ يُحقّق فكرة الصوتيات المِعمارية.
وهكذا أصبحت القبة العنصر الرئيسي في تخطيط المنشآت الإسلامية، وتطوّر الأمر حتى ظهر طراز من المساجد يُعرف بِالمسجد القبة. وهو يعتمد على قبة مركزية تعلو بيت الصلاة، ومن أبرز الأمثلة في مصر جامع محمد علي باشا بالقاهرة الذي تميّز بالقبة المركزية التي تغطي منتصف بيت الصلاة، ويُحيط بها أنصاف قباب، وفي الأركان أربع قباب صغيرة بما يُحقّق صدى الصوت، وأُضيف إلى ذلك عدد كبير من (الزلع) أو (الأواني الفخارية المُقعّرة) الموضوعة على فوهاتها بما يُحقّق تضخيم الصوت.
علم الصوتيات المعمارية الحديث
يُعتبر الفيزيائي الأمريكي والاس سابين(1868-1919م) Wallace Sabine أول من أسّس علم الصوتيات المِعمارية في العصر الحديث. وظهرت اهتمامات سابين في علم الفيزياء من خلال أبحاثه التي كانت تهتم بالصوتيات، واهتم بكل ما يتعلق به من نظرياتٍ وفرضيات، كما تمكّن من تقديم شروح تفصيلية لكل الأمور التي تتعلّق بعلم الصوت والصوتيات المِعمارية. وكان لسابين اكتشافات كثيرة توصّل إليها بعد تجاربٍ عديدة، وساعدته إحداها على اكتشاف العلاقة بين امتصاص الصوت في أي غرفة ونقل الصوت من خلال المواد الصلبة.