مصطفى يعقوب عبد النبي
من أغرب ما يصادفه القارئ في المراجع العلمية الأجنبية تلك المقدمة التاريخية التي تبدأ بعلماء وفلاسفة الإغريق ثم علماء أوروبا في عصر النهضة وأخيرا العصر الحديث، دون المرور بأي عالم من علماء الحضارة العربية التي امتدت نحو ثمانية قرون، وكأن هذه القرون خلت من العلم والعلماء، وهو أمر رسخ في ذهن عدد كبير من مؤرخي العلوم.
تلك هي النظرة الجائرة حيال العلم العربي، على الرغم أن عصر النهضة الأوروبية اتكأ على ما خلفه العرب من نتاج علمي. ويكفي للدلالة على ذلك ما خلفه العرب من مؤلفات في الأندلس التي تعدّ المعبر الرئيسي للثقافة العربية إلى أوروبا.
ومن شواهد تجاهل العلم العربي والسبق العربي في تاريخ
العلم ما يعرف في أدبيات علم الجيولوجيا بـ «مبدأ الوتيرة» وأحيانا يطلق عليه «مبدأ النسقية» أو «مبدأ الانتظام» ومصطلحات أخرى لكلمة
Uniformitarianism.
مبدأ الوتيرة (النسقية )
يعدّ مبدأ الوتيرة من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها علم الجيولوجيا، ولاسيما الجيولوجيا الفيزيائية والجيولوجيا التاريخية والجيولوجيا البنائية (التركيبية). ويعرّف هذا المبدأ بأنه: «مفهوم أساسي في علم الأرض، مضمونه أن العمليات التي تعمل في سطح الأرض في الوقت الحاضر، حدثت أيضا في الماضي، وأعطت النتائج نفسها حتى لو اختلفت معدلاتها».
وبعيدا عن التفصيلات الجيولوجية فإن هذا المبدأ المهم هو ما نجده في أي مرجع من مراجع الجيولوجيا الحديثة، الأجنبية أو العربية، تحت عنوان رئيسي هو (العوامل المؤثرة على سطح القشرة الأرضية) سواء أكانت هذه العوامل خارجية مثل الرياح والسيول ودرجات الحرارة فيما يعرف بـالتعرية Denudation (التي تشمل عمليات التجوية Weathering والنقل Transportation والترسيب Deposition)، عوامل داخلية مثل الزلازل والبراكين.
مبدأ الوتيرة في تاريخ العلم
يجمع مؤرخو العلم، وبصفة خاصة مؤرخو الجيولوجيا الغربيون، على أن ميلاد الجيولوجيا الحديثة تم على يد العالم الإنجليزي جيمس هاتون James Hutton (1726 – 1797م) الذي يعتبره بعض الباحثين «أبا الجيولوجيا»، وذلك لاكتشافه مبدأ الوتيرة الذي نشره في كتابه (نظرية الأرض)، والذي أطلق عليه (نظريــة هاتون حول الأرض).
ويتلخص جوهر هذه النظرية بأن التضاريس الأرضية لم تنشـأ بسبب كوارث، بل نتيجـة لسلسلة تغيرات مستمرة حصلت في الماضــي، كما هي في الوقت الحاضر. وعرف هذا المبدأ بمبدأ وحدة التناسق Doctrine of uniformitarianism أو مبدأ الوتيرة.
العلماء العرب ومبدأ الوتيرة
إن الحقيقة الغائبة في تاريخ العلم هي أن ما نادى به هاتون في شأن «مبدأ الوتيرة» كان في متناول أيدي العلماء العرب، لسبب بسيط مفاده أن أساس هذا المبدأ يقوم على فعل الرياح والسيول والحرارة على صخور القشرة الأرضية، أي إنه يقوم على المشاهدة والملاحظة، ومن ثم سلامة الاستنتاج؛ لأن الصحراء هي أنسب الأمكنة التي تتضح فيها أسس هذا المبدأ، فلا غطاء نباتيا يحجب فعل الرياح والسيول والحرارة على الصخور.
وقد تحدث عدد من العلماء العرب عن فحوى مبدأ الوتيرة منهم البيروني (توفي سنة 1048 م) الذي يقول في كتابه (تحديد نهايات الأماكن وتصحيح مسافات المساكـن): «ينتقل البحر إلى البر، والبر إلى البحر في أزمنـة إن كانت قبل كون الناس في العالم فغير معلومـة، وإن كانت بعــده فغير محفوظـة لأن الأخبار تنقطع إذا طال عليها الأمد، وخاصـة في الأشياء الكائنـة جزءا بعد جزء، بحيث لا تفطن لها إلا الخواص. فهذه بادية العرب، وقد كانت بحراً فانكبس، حتى إن آثار ذلك ظاهرة عن حفر الآبار والحياض بهــا، فإنهــا تبدى أطباقا – أي طبقات – من تراب ورمل ورضراض – أي حصى -…إلخ».
ومن الملاحظ أن هذه الفقرة على إيجازها لمست عددا من الحقائق العلمية التي تصب في أسس مبدأ “الوتيرة” منها أن البيروني أدرك بحسه العلمي الثاقب أن هناك تغيرا يحدث في القشرة الأرضية، وأن هذا التغير يحدث ببطء شديد لا يلحظه الإنسان، وأن هناك تبادلا في المواقع ما بين البحار واليابسة؛ فمرة تغمر البحار اليابسة فتصير بحرا ومرة تنحسر البحار عن اليابسة فتصير أرضا، وأن هذا التغير الحادث ما بين البحار واليابسة تم عبر أزمنـة سحيقة قبل ظهور الإنسان، وهو ما يسميه الجيولوجيون الآن العصور أو الأزمنـة الجيولوجيــة.
ويدلل البيروني على صدق كلامـه بالحديث عن بلاد العرب، وأنهـا كانت بحرا ثم صارت يابسة على هيئـة طبقات تحتوي على صخور طينيـة وأخرى رملية وثالثـة حصوية.
شهادة من أهلها
إن معظم التراث العربي وجد طريقه إلى أوروبا عن طريق الترجمة إلى اللاتينية ومنها إلى سائر لغات الغرب. ولعل مؤلفات ابن سينا حصلت على شهرة كبيرة لاسيما كتاباه (القانون) و(الشفاء).
ومن المعروف لعلماء الجيولوجيا أنه بعد هاتون جاء عالــم إنجليزي اسمه تشارلز لايل Charles Lyell (1797 ـ 1875)، ونشر كتابــه (مبادئ الجيولوجيـا) سنة 1830 وأكد فيه صحــة نظريــة هاتون حول الأرض. وفي هذا الكتاب أمران غريبان، أولهما أن لايل أشاد بابن سينا ورأى أن الفصل الخاص بتكون الجبال جدير بالاعتبار، والآخر أن لايل أعجبته قطعة أوردها القزويني في كتابــه (عجائب المخلوقــات) الذي قرأه في مخطوطة محفوظة في المكتبة الملكية بباريس. وهو نص أدبـي المظهــر علمــي المحتوى كتبــه القزوينـي على لسان (الخضــر) الذي مــر بمكان معين خمس مرات بين كــل منهــا 500 عــام فوجده مرة مدينــة عامــرة، ومرة وجده خرابــا لا يعرف عابره إلا أنه كان هكذا طــول الزمــان، ثــم مــر به ثالثـــة فوجده بحرا ثــم مرة رابعــة فوجده يبســا…. إلخ». نقول إن لايــل أعجبتــه هذه القطعــة فترجمهــا في مقدمــة كتابــه (مبادئ الجيولوجيـــا). ولهذين الأمرين أكثر من دلالة:
الأولى: أن لايل كان مطلعا على آراء ابن سينا عن تكون الجبال، ورآها «جديرة بالاعتبار» على حد قوله. ومعنى هذا أن آراء ابن سينا كانت موافقة إلى حد كبير لآراء هاتون، وهو دليل على أن كتاب (الشفاء) الذي ترجم مابين سنتي 1274 و 1280 كان متاحا منذ ذلك التاريخ، لذا يرجح أن يكون هاتون قد اطلع على الكتاب، وضمنه كتابه (نظرية الأرض) الذي نشره في سنة 1795.
الثانية: أن لايل اطلع على كتاب القزويني في مخطوطة محفوظة في المكتبة الملكية بباريس، وليس في كتاب مترجم إلى لغة من اللغات الأوروبية. ومعنى ذلك أنه كان عالما بالعربية، وإلا كيف نفسر اختياره لكتاب القزويني ولتلك القطعة المختارة من الكتاب ذات المحتوى الجيولوجي الذي لا تخطئه عين.
وثالــث هــذه الدلالات أننــا نرجــح أن الأمــر لم يقتصــر على قطعـةٍ أدبيــة راقت لعِـالم فترجمهـا في مقدمــة كتابــه، بل إن الأمــر تعــدى إلــى كتاب القزوينــي كلــه. وأغلب الظن أن لايــل لــم يكــن الوحــيد الذي نظــر إلــى كتاب القزوينـــي، بل إن هاتــون أيضــا نظــر إلــى الكتاب؛ لأن جوهــر نظريتــه كان أكْــبَـر من توارد الخواطــر.
وخلاصــة القول إننــا أمــام حالــة اقتباس ربما تصل إلــى حـد السطــو علـى إبداع العلمــــاء العــرب. ولعلنا – نحن العرب – أحوج ما نكون إلى ما يمكن أن نسميه «تاريخ العلم المقارن» حتى يتبيّن للجميع مدى الدين الهائل للعرب على الحضارة الإنسانية من حيث التقدم العلمي.