ريادة الهندسة الجينية في الكويت
بقلم ريهام العوضي
وقفت صباح المؤمن أمام طاولة العمليات مرتدية بذلة شبيهة بتلك التي يرتديها الميكانيكيون والدموع تنهمر على وجنتيها. عندها طلب إليها المشرف أن تغادر الغرفة ولا تعود إلا بعد أن تكف عن البكاء.
واجهت صباح المؤمن على وجه خاص صعوبة في إجراء عملية جراحية على خروف للمرة الأولى في حياتها. وأمام رائحة الحيوانات النافذة وكمية الدماء التي سالت منها، كان عليها أن تتحلى بقدر من الجأش وأن تقوي عزيمتها. بعد تلك العملية قررت أن تصير نباتية.
في النهاية، توصلت مع مشرفها إلى حل وسط. ولأنه لم يكن بإمكانها النظر في عيون الحيوانات، قررا قص فتحة صغيرة في القماش تُجري من خلالها العملية الجراحية، في حين يظل ما تبقى من الحيوان مغطى أثناء الجراحة.
في ذلك اليوم قبل نحو 20 عامًا، كانت صباح المؤمن تتعلم كيفية إجراء عملية جراحية على الأغنام في أستراليا كجزء من برنامج تدريبي مدته ثلاثة أشهر، كان ضروريًا أن تجتازه بعد أن قررت التخصص في مجال نقل الأجنة واستنساخ الأغنام. قال لها المشرف عليها: “لقد تعلمتِ يا صباح الآن علم الجينات، فما الذي ستفعلينه بهذا العلم؟ لا نريد أن نقوم بما هو تقليدي بعد اليوم. عليكِ أن تغوصي أعمق من ذلك”.
وهي تعمل حاليا باحث أول في الهندسة الجينية والبيولوجيا الجزيئية بمعهد الكويت للأبحاث العلمية، وكانت الأولى بين عدد قليل من علماء الكويت الذين حصلوا على درجة الدكتوراه في الهندسة الجينية في أوائل تسعينات القرن العشرين عندما كان ما زال مجالًا جديدًا نسبيًا في المنطقة.
نالت شهادتها الجامعية من جامعة الكويت في علم الأحياء الدقيقة وعلم النبات، وبعد التخرج عملت في مكتبة المركز الوطني للمعلومات العلمية والتكنولوجية بمعهد الكويت للأبحاث العلمية قبل أن تحصل على منحة دراسية في عام 1981 لمتابعة درجة الماجستير في علوم المعلومات والمكتبات. لكن، بعد التخرج والعمل في المركز لمدة عامين، شعرت بتوق شديد لمواصلة تعليمها.
أبلغت إدارة المركز برغبتها في الحصول على درجة الدكتوراه، حتى وإن كان ذلك في مجال علم المعلومات، لكنهم أخبروها أن المركز ليس بحاجة إلى ذلك. عندها قررت تقديم استقالتها ومتابعة تعليمها للحصول على الدكتوراه على نفقتها الخاصة. أثار قرارها تساؤلات لدى البعض حول قرارها ومدى قدرتها على تحمل تكاليف تعليمها.
أخبرتهم أنها ستحصل على وظيفة. وقالت: “سأعمل، مثل أي شخص آخر. سأتكفل بنفسي”. ثم حدث أن أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية United Nations Industrial Development Organization عن رغبتها في إنشاء مركز دولي للهندسة الجينية والتكنولوجيا الحيوية International Center for Genetic Engineering and Biotechnology وإتاحة فرصة الاستفادة منه أمام البلدان النامية. تواصلت المنظمة مع الكويت لترشيح شخصين لتدريبهما على الهندسة الجينية.
اختير شخصان للمهمة، لكن أحدهما لم يكمل تدريبه وعاد. بدا ذلك فرصة سانحة أمام صباح المؤمن التي بدأت مسيرتها بإكمال هذا التدريب لمدة عام، ثم تدربت في مختبر الأستاذة أناندا موهان تشاكرابارتي Ananda Mohan Chakrabarty، وهي أول من حصل على براءة اختراع عن كائن حي معدل جينيًا. بعد هذا التدريب، حصلت أخيرًا على منحة دراسية للحصول على درجة الدكتوراه في الهندسة الجينية من جامعة سوري University of Surrey، في المملكة المتحدة.
منذ حصولها على درجة الدكتوراه، عملت بحماسة منقطعة النظير في مجال الهندسة الجينية وشاركت في العديد من المشاريع وشغلت منصب نائب رئيس الأكاديمية العالمية للعلوم للمنطقة العربية. وكان معظم عملها على مشاريع تطلبها الجهات المختلفة من الدولة، إضافة إلى تحديد المشكلات المحلية وتحسين الحلول لتعزيز اقتصاد الكويت.
كان أول مشروع لها هو العمل على بكتيريا البروسيلا Brucellosis Bacteria التي تُسبب الحمى المتماوجة (الحمى المالطية) في البشر والحيوانات. في ذلك الوقت، نفق عدد كبير من حيوانات الماشية بفعل هذه الحمى ومن ثم برزت الحاجة إلى تصميم مسبار تشخيصيDiagnostic probe باستخدام حمض البكتيريا النووي DNA.
بعد ذلك، صارت أول باحثة في العالم تستخدم تقنية نقل الأجنة واستنساخ الأجنة عن طريق الانقسام Embryo cloning by splitting، على خروف من سلالة النعيمي. وهذا ما جعلها أيضًا أول باحث في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يستنسخ جنين حيوان. أطلق على أول شاة مستنسخة من سلالة النعيمي اسم دانة، وأجري البحث بناء على طلب شركة نقل وتجارة المواشي-الكويت.
كان هدف الشركة هو زيادة إنتاج هذه السلالة المحلية عن طريق جعلها تحمل بتوائم ثنائية أو ثلاثية لأنها لا تتكاثر بالأعداد المرغوبة. كما لجأوا إلى تقنية الأم البديلة عبر وضع أجنة خرفان من سلالة النعيمي في رحم نعجة أسترالية ولدت حملاناً من سلالة النعيمي.
كما بحثت صباح المؤمن في جينات المجموعات الحية Population genetics في الأنواع البحرية؛ بدءًا بالربيان قبل الانتقال إلى سمك الزبيدي. فنظرًا لتناقص أعداد هذا النوع من السمك، أطلقت المؤمن مشروعًا بحثيًا لاكتشاف سبب نضوب المجاميع السمكية بهدف الحفاظ عليها وحمايتها، وقاد هذا فريقها، وبنجاح، إلى إجراء أول سلسلة جينومية لسمك الزبيدي.
تقول: “لقد خطرت لي فكرة سلسلة كامل الجينوم للحفاظ عليه من أجل المستقبل. … فلنكن روادًا في المجال ما دمنا نعمل على ذلك. والمنافسة التي واجهناها على مستوى العالم جاءت من الصين”.
أسماك الزبيدي كانت الكائنات الحية التي طرحت أكبر تحدٍ أمام صباح المؤمن على الإطلاق. وقالت إن العمل في البلدان النامية له صعوباته باستمرار، نظرًا لندرة المعلومات. ولذا، تضمنت أبحاثها إثبات ما إذا كان لدى الكويت مخزونها الخاص من سمك الزبيدي، أو ما إذا كانت الأسماك تهاجر إلى بلدان أخرى حيث تُصاد. ففي حال هجرة الأسماك، يتعين اقتراح توقيع اتفاقية مع البلد الذي تهاجر إليه، وإذا لم يكن الأمر كذلك، فيتعين اعتماد سياسة داخلية لضبط الصيد الجائر.
وقالت: “لقد قدمت الدليل العلمي والأمر متروك لصناع السياسة لاستخدامه. … سمك الزبيدي ما زال في خطر بسبب الصيد الجائر. لهذا السبب لدينا في الكويت موسم حظر يُمنع فيه الصيد لفترات معينة، لإثراء المصايد”.
بعد ذلك، تحولت المؤمن لإجراء أبحاث على النباتات، فعملت في مشروع انتهت منه مؤخرًا على التعديل الجيني لنبتة البرسيم لاستخراج ملوثات النفط الخام والمعادن الثقيلة، بهدف معالجة التربة الملوثة من تسربات النفط الخام في عام 1990 خلال حرب الخليج.
ويتضمن عملها الحالي محاولة فحص أنواع الطحالب في الكويت لمعرفة إمكانية إنتاج أي منتجات ذات قيمة منها.
لم يكن من السهل استصدار الموافقات الضرورية لهذه المشاريع؛ لأن الهندسة الجينية كانت ما زالت حديثة جدًا في ذلك الوقت، فيما وُصف عدد كبير من مشاريعها -كما قالت- على أنه غير واقعي وطموح على نحو مبالغ به، و”لأن [هذه الأفكار] يمكن أن تثير جدلًا، فلا بد أن بين ما تقترحينه شيئًا لم يسبق أن فعله أحد من قبل”.
كانت تُسأل عن سبب رغبتها حتى في الخوض في مثل هذه المشاريع أو يُقال لها إن مثل هذه المجالات أكبر من قدرة الكويت. لكنها كانت تجيب عن ذلك بقولها: “لديكم كل ما يلزم لتحقيق مثل هذا. … لديكم المرافق والمال والمعدات والأدمغة؛ لديكم كل شيء. لماذا نرفض الخوض في مجال غير مطروق؟”. وباستمرار كان عليها أن تلجأ إلى شتى أساليب الإقناع دفاعًا عن مقترحاتها وأن تلجأ إلى طرق تفكير مبتكرة لإقناع محاوريها بالموافقة على أحد مشاريعها.
ولما كانت أبحاثها تتطلب تعديلا على الكائنات الحية، فإنها واجهت تحديات خاصة. فعندما عملت على البكتيريا، لم يكن في الأمر صعوبة، لكن مع الانتقال إلى الأغنام طرحت العديد من المشكلات كونها رتبة أعلى.
وفي معرض حديثها عن الاستعداد للمشاركة في ندوة “الممارسات الواعدة لتحسين مشاركة النساء في العلوم والهندسة والطب: دروس من الكويت والولايات المتحدة الأمريكية” التي تنظمها مؤسسة الكويت للتقدم العلمي بالتعاون مع الأكاديميات الوطنية للعلوم-الولايات المتحدة الأمريكية، قالت: “عليكِ أن تستثمري قدرات وسائل الإعلام لتوعية الجمهور والحديث مع الناس. وستتعرضين للكثير من الأسئلة وتواجهين بالكثير من علامات التعجب. لكن عليكِ أن تواجهي المعتقدات الثقافية ويجب أن تشرحي موقفكِ إزاءها. أنتِ تحاولين شق طريق. طريق جديد لم يسلكه أحد قبلكِ. لذا عليكِ أن تشقي طريقك باصرار وأن تعملي بجهد إلى أن تصبح فكرتك مقبولة”.
على الرغم من أن الزمن قد تغير، إلا أننا لم نحرز الكثير من التقدم في مجال ترسيخ العلوم في الثقافة العامة. فالناس أكثر وعياً ولكن ما زال هناك الكثير من المعلومات الخاطئة المنتشرة في جميع أنحاء العالم وليس فقط في الكويت.
وقالت “إنها قضية مثيرة للجدل. أنت تمسين الحياة، وتغيرين الأشياء. … لست في مواجهة جمهور الناس وحدهم – فحتى العلماء –
تجدين بينهم من يرفض ومن يؤيد. إذا قمتِ بتطوير أي شيء، فسيتعين عليكِ أن تمري عبر حقل ممتلئ بالحواجز لغياب اللوائح والسياسات ذات الصلة”.
وما تريد صباح المؤمن فعله حاليًا هو المساعدة على وضع سياسات حتى يتمكن المشرعون من أخذ نتائج البحث العلمي الملتزمة اللوائح الدولية لإطلاق كائنات مُعدلة، وتطبيق هذه النتائج بما يعود بالمنفعة، من دون الحاجة إلى سلوك طرق معقدة واجتياز الكثير من العراقيل الإضافية.
وترى المؤمن أن الأمر متروك للجيل الحالي لتسهيل الأمر على الأجيال المقبلة؛ لأن مجالات العلوم ازدادت صعوبة حاليًا.
“فقد تطور العلم كثيرًا”، في رأيها “لدرجة أنكِ تحتاجين إلى تعلم الكثير أكثر مما
قبل. العلم يتقدم كل دقيقة. بدأنا بعلم الجينات، ثم صار علم الهندسة الجينية، ثم البيولوجيا الجزيئية. ثم تفرع إلى علم الجينوم
والبروتيوميات والمعلوماتية الحيوية. عندما دخلنا هذا المجال كان نطاقه محدودا، أما حاليًاً فقد تقدم كثيرًا لدرجة أنه إذا أراد شخص ما الدخول إليه فعليه اختيار فرع معين
وإلا فسيرتبك”.
وعلى الرغم من التحديات المطروحة أمام الأجيال المقبلة من العلماء، فقد قالت المؤمن إنهم برأيها مستعدون للتعامل معها.
وقالت: “الجيل الجديد أكثر مهارة، ومنفتح على الأفكار الجديدة وعلى وسائل الإعلام. … يحصلون على المعلومات بسهولة من خلال المعارف العامة المتاحة، لذا فهم يعرفون ما يريدون فعله ومدركون لمستوى التحدي
الذي يجابههم”.
وأشارت إلى أن تمويل العلوم يمثل تحديًا عالميًا، لكن نظرًا لاعتماد الكويت على مصدر اقتصادي واحد هو النفط، فمن المهم جدًا الاستثمار في العلوم لإيجاد بدائل لاقتصادنا؛ وأكدت أنه لا بد من المضي قدمًا بالعلوم، خصوصًا في البلدان النامية.
واختتمت اللقاء قائلة: “عليكِ أن تفسحي المجال أمام عقول جديدة وأفكار جديدة. الأمر لا يتعلق فقط بالحديث عن الابتكار، بل عليكِ أن توفري البيئة الممكنة حتى يتمكن الناس من الابتكار فيها. علينا أن نستثمر في العلم، وفي العلماء، وفي البشر”.