د. وحيد محمد مفضل
بين الفينة والأخرى يتحفنا العلم بإنجازات باهرة تحقق نقلة مهمة في كثير من الاستخدامات النمطية والتقليدية، وهو ما يصب في النهاية في مصلحة البشرية و رفاهية الإنسان، وهذا بالطبع ما لم تكن تلك الإنجازات مسخرة لأغراض عسكرية أو مهام قتالية أو غير مشروعة، وإن كان الأصل في عدد كبير من الاختراعات والتطبيقات المدنية المتاحة بين أيدينا حاليا عسكريا صرفا.
ومن أوضح الأمثلة على هذا تقنية تحديد المواقع الجغرافية بواسطة الأقمار الصنعية والمعروفة اختصارا باسم ال(GPS)، فقد كانت في الأصل قاصرة على الاستخدام العسكري للجيش الأمريكي، واستحدثت بغرض زيادة دقة وقدرات طائرات الاستطلاع والقاذفات الكبيرة على تحديد الأهداف والحيلولة دون فقد اتجاهها ومسارها نحو الأهداف المعادية.
ومن الأمثلة الواضحة على ذلك أيضا، الطائرات من دون طيار التي تعرف أيضا باسم «الطائرات المحلقة الصغيرة» أو “الطائرات المسيرة” أو «الدرونز» Drones، والتي باتت تشكل تقنية مستقلة وصناعة بازغة، تشبه في تطورها صناعة
الهواتف الذكية. فعلى على الرغم من أن ظهور هذه الطائرات كان في البدء مخصصا للمهام القتالية والاستطلاعية لبعض الجيوش الغربية وبخاصة الجيش الأمريكي، فإن استخدامها في المجالات المدنية وأغراض البحث العلمي
والإغاثة بدء ينتشر بصورة تدريجية، وهذا إلى الحد الذي بدأ يحقق تقدما كبيرا وطفرة حقيقية في كثير من التطبيقات. كما بدأ استخدامها يشيع على مستوى العامة، بحيث أصبح بالإمكان لكل فرد شراؤها بسهولة من مواقع الشراء الإلكترونية أو المحال المتخصصة ببيع الإلكترونيات.
ما هي “الدرونز”؟
الدرونز هي طائرة عادية تتبع في صناعتها وأسلوب عملها نمط جميع الطائرات الأخرى المعروفة، من حيث وجود محرك أو أكثر لمساعدتها على الطيران والتحليق في الجو لفترات طويلة، وضرورة تزودها بالوقود أو الطاقة لتسييرها، لكن الاختلاف يتمثل في ثلاثة عناصر رئيسية: الأول، عدم وجود طيار والتحكم فيها عن بعد، سواء بوسطة برمجتها مسبقا أو بواسطة الاتصال والتواصل معها عن طريق الأقمار الصنعية. والعنصر الثاني يتمثل في حجمها الصغير الذي لا يقارن بحجم الطائرات الحربية الكبيرة أو الطائرات المستخدمة في السفر والتنقل. فقد أدى عدم الحاجة إلى وجود مقصورة والمتطلبات الفيزيائية والبيئية مثل ملاءمة الضغط والأكسجين، إلى صغر هذه النوعية من الطائرات وإلى خفض وزنها وكلفة تصنيعها. أما المزية الثالثة والأهم في مثل هذه الطائرات فهي عدم وجود أي خطر حقيقي على مستخدميها أو المتحكمين فيها، وهذا بالطبع على العكس من بقية أنواع الطائرات المعروفة. ولعل هذه المزية تحديدا هي التي أدت إلى شيوع استخدامها في الأغراض العسكرية والتطبيقات المدنية، لاسيما مع تزايد احتمالات سقوط الطائرات ووقوع طياريها في الأسر، أو في ضوء الطبيعة الخطرة لبعض المهام السلمية مثل إطفاء الحرائق وأعمال الإغاثة، والتي قد تودي بحياة الطيار المتحكم فيها، وهو العنصر الأكثر قيمة وتكلفة في هذه المنظومة.
وعلى الرغم من صغر حجم “الدرونز” وخفة وزنها، فإن باستطاعتها نقل حمولة كبيرة مقارنة بحجمها، مثل كاميرا أو شحنات صغيرة، وهو ما أتاح لها اقتحام كثير من التطبيقات المدنية وتحقيق نجاحات مشهودة في أكثر من مجال.
مجالات الاستخدام
بعيدا عن الاستخدامات العسكرية، فقد بدأت الدرونز تقتحم مجال التطبيقات المدنية نظرا إلى المواصفات والمزايا التي تتحلى بها؛ وأهمها صغر حجمها وقلة تكلفة تشغيلها وإمكانية تحليقها عاليا لساعات طويلة، فضلا عن عدم وجود أخطار على الصحة أو السلامة الشخصية عند استخدامها. لذا فقد بدأ استخدام هذا النوع من الطائرات في التعامل مع الحوادث الطارئة ومعرفة أمكنة الناجين من الكوارث الطبيعية كالزلازل والبراكين والانهيارات الجليدية، وفي استكشاف المناطق المحتمل وجود خطر منها مثل المنشآت النووية والغابات المشتعلة أو المباني المعرضة للانهيار. كما بدأ تطبيقها في مجال مراقبة الحدود البرية والبحرية ومراقبة خطوط الغاز والنفط، ومراقبة أعمال الصيد غير المشروع، ومتابعة حركة المرور وحالة المناطق البرية والمحميات الطبيعية، وتقييم التصدعات في مدرجات المطارات والجسور والمنازل، وحالة الحقول الزراعية والمحاصيل الغذائية.
مجالات جديدة
أما أحدث التطبيقات التي تمكنت الدرونز من اقتحامها فهو استخدامها في خدمة توصيل البضائع والطلبات الصغيرة إلى المنازل، وفي الدعاية السياحية وتصوير الأعمال السينمائية والاجتماعات الدولية وخدمة البث المباشر للأحداث، حيث جرى استخدامها عام 2016 على سبيل المثال في مواكبة حركة الحجاج وتأمين سلامتهم بالمشاعر المقدسة.
كما بدأت الدرونز تشبع نهم هواة التصوير من خلال استخدامها في تصوير المرتفعات وشلالات المياه والمناظر الطبيعية الخلابة والحيوانات البرية. ونتيجة لهذا فقد بدأ هذا المجال يستقطب اهتمام وممارسة عدد كبير من الهواة والمستخدمين، مما حدا ببعض الهواة إلى إطلاق موقع إلكتروني متخصص ((Travel by Drone: http://travelbydrone.com على الوب لعرض الصور وبث الفيديوهات المميزة الملتقطة بواسطة الدرونز على مستوى العالم، وإتاحتها للزوار. كذلك بدأ استخدام هذه الطائرات في بعض التطبيقات العلمية مثل متابعة حالة البراكين والتنبؤ بثورانها، وكذلك في بث خدمة الإنترنت بتقنية الجيل الخامس الذي يعمل بالطاقة الشمسية، وهو مجال جديد بدأت تتنافس عليه أكثر من شركة عالمية متخصصة.
والدرونز مثلها مثل أي اختراع جديد، قد يساء استخدامه وربما لا يخلو من سوء استغلال، إذ جرى على سبيل المثال استخدامها في التهريب وإنجاز أعمال غير مشروعة.
فرص عمل واعدة
يتوقّع أن يؤدي ازدهار صناعة طائرات الدرونز إلى ازدهار سوق العمل على مستوى العالم، سواء من حيث الفرص المتاحة أو المهن الجديدة التي سيتم استحداثها بسببها. وعلى سبيل المثال، يقدر عدد فرص العمل الإضافية التي ينتظر أن توفرها هذه الصناعة البازغة فيما بين عامي 2016 و2025 في السوق الأمريكية وحدها بنحو 100 ألف فرصة. وفي هذا الإطار تشير دراسة حديثة إلى أن حصة الدرونز في السوق العالمي تبلغ حاليا نحو ملياري دولار، ويتوقع أن ترتفع إلى نحو 127 مليار دولار بحلول عام 2020.
أما فيما يخص المجالات المهنية المدنية التي ستتأثر كثيرا بظهور هذه التقنية فتشمل مهن الزراعة والإنقاذ وحماية البيئة والبحث العلمي. ومن بين كل هذه المجالات، يتوقّع للزراعة أن تأخذ الحيّز الأكبر من تطبيقات الدرونز، نظرا للمهام الكثيرة التي يمكن أن تساهم فيها، وخصوصاً في الحقول الزراعية الواسعة التي يحتاج الإشراف عليها إلى جهد بشري كبير ومضنٍ. ذلك أن بإمكان هذه الطائرات أن تجوب مسافات واسعة، وأن تساهم – من ثم – في تقييم حالة هذه الحقول، بل وأداء بعض الأعمال الزراعية الروتينية مثل نثر البذور ورش المبيدات على المناطق المصابة. وعلى هذا النحو تحولت صناعة الطائرات المسيرة منذ إتاحتها للاستخدام المدني إلى صناعة مستقلة وتقنية واعدة حملت معها آفاقا رحبة لعدد كبير من المجالات والتطبيقات التجارية وغير التجارية؛ بسبب تطويرها المستمر الذي يبدو أنه لن يتوقف عند حد معين قريبا.