د. قاسم زكي
يزداد عدد سكان كوكب الأرض عاما بعد آخر، و تزداد معهم حاجتهم إلى الغذاء والكساء والدواء وشؤون حياتهم الأخرى. وأهم مطلب للبشر هو الغذاء، لكن ثمة مشكلة عالمية في موضوع الأمن الغذائي لاسيما في الدول النامية لأسباب عديدة.
ولكي يكون شعب ما آمنا غذائيا يجب أن يكون الغذاء متاحا له في جميع الأوقات، ويسهل الحصول عليه سواء من ناحية الأسعار أو الأسواق، ويتضمن كل المكونات الصحية التي يتطلبها الجسم البشري.
ويحاول العلماء البحث عن وسائل ملائمة لزيادة الإنتاج الغذائي في العالم. وهنا نستعرض إحدى التجارب الرائدة للإسراع في إنتاج أصناف نباتية ذات محصول وفير يلبي حاجة البشر المتزايدة إلى الغذاء.
الأمن الغذائي في العالم
في سبتمبر 2017 أظهر تقرير نشرته الأمم المتحدة عن الأمن الغذائي والتغذية في العالم أن815 مليون نسمة (بنسبة %11) من سكان العالم يعانون الجوع (أي نحو شخص من كل تسعة أشخاص في العالم)، وأن معدل الجوع في العالم بدأ بالارتفاع مجدداً بسبب النزاعات والتغير المناخي، بعد أن شهد انخفاضاً مطرداً خلال العقد الماضي. لذا فإن العالم يسعى إلى خفض معدل الجوع والفقر وعدد الجوعى والفقراء، وذلك بتبني أجندة أهداف التنمية المستدامة 2030 التي تستهدف القضاء على الجوع وجميع أشكال سوء التغذية بحلول ذلك العام، ووضع ذلك في أولويات السياسات العالمية.
ولا يتوقف تأثير الجوع في الدول النامية على صحة البشر وزيادة معدلات الوفيات، بل يتعداه إلى انخفاض معدل ممارسة النشاطات المتنوعة، فالطلاب الجوعى يقل معدل تحصيلهم الدراسي عن أقرانهم، وكذا تقل قدرة العمال على الإنتاج، أما ثالثة الأثافي، فالدول التي تعاني بسبب هذه المشكلات تحتاج إلى مساعدات غذائية خارجية غالبا ما تستعمل للضغط على سياستها الخارجية، ومن ثم التأثير في سيادتها واستقرارها.
السرعة سمة عالم اليوم
يتوقع الباحثون بلوغ عدد سكان العالم في عام 2050 نحو 9 بلايين نسمة. ولتلبية طلباتهم من الغذاء لابد من زيادة الإنتاج بمعدل %70 عن المعدل الحالي. وقد نجحت تقنيات عديدة في الإسراع من وتيرة التطور، فها هي البيوت السابقة التجهيز وناطحات السحاب تتعالى في العمران، والمواصلات والاتصالات والعلاج في تقدم مذهل. وتتسابق الأمم في تسجيل الأرقام القياسية في زيادة معدل السرعة، فها هنا أسرع قطار في العالم وهناك أسرع سيارة أو غواصة أو طائرة وهكذا. لكن حين النظر إلى الكائنات الحية (ومنها النباتات) يصعب كثيرا دفعها إلى الإسراع في معدل نموها لمجابهة متطلبات البشر. ويعتمد غذاء أهل الكوكب في أكثر من %90 من حاجاته حاليا على النباتات، والتي قدر المولى أن يكون نموها محكوما بعوامل وراثية داخل خلاياها التي ترسم مراحل نموها وعمرها وفق خريطة دقيقة، وتحت ظروف بيئية مناسبة من الإضاءة ودرجة الحرارة والرطوبة. بل نجد بعض النباتات تنمو في أقاليم جغرافية ومناخية محددة حول العالم، وبعضها ربما يفشل تماما في النمو في مناطق أخرى. وحاول العلماء على مر العصور التحكم في نمو النبات وحتى في تغيير مواعيدها الطبيعية, وذلك بزراعتها في بيوت زجاجية (البيوت النباتية أو الصوبات Greenhouses) توفر لها ما تحتاج إليه من ظروف بيئية مناسبة، وبذا نجحوا في التغلب على بعض الصعاب، فمثلا استطاعوا إنماء نباتات القمح في موسم الصيف في بيوت زجاجية توفر لها جوها الشتوي المعتاد.
إنتاج أصناف جديدة
وفى مجال برامج تربية النباتات، تتطلب عملية إنتاج أصناف نباتية جديدة ذات محصول عال عدة خطوات، منها عمليات تهجين (تلقيح) عديدة بين تراكيب وراثية مختلفة، ثم الحصول على أنسالها ومقارنتها وانتخاب أفضلها وتتبع صفات أنسالها التالية لعدة أجيال، والتي تطول أحيانا لتستغرق عقودا عدة؛ لأن فترة الجيل الواحد لنباتات المحاصيل تستغرق شهورا عدة وأحيانا سنة كاملة، مما يطيل أمد برامج التربية.
وحاول علماء النبات التغلب على تلك المشكلة، فهداهم تفكيرهم إلى زراعة النباتات تحت البيوت المحمية التي توفر الظروف المطلوبة لنمو تلك النباتات. لكن كانت تلك البيوت تمنح مربي النباتات فرصة إنماء نباتاتهم لجيل أو اثنين وعلى الأكثر ثلاثة في أحسن الأحوال، مما يسر لهم اختصار زمن برامج التربية، لكنهم ما زالوا يأملون المزيد من الأجيال خلال العام الواحد.
التربية السريعة
وكما ذهب الباحثون والمخترعون في المجالات الحياتية الأخرى إلى تسريع مخترعاتهم، فقد ابتكرت مجموعة من الباحثين النباتيين طريقة جديدة أسموها التربية السريعة (Speed Breeding) للإسراع من وتيرة نمو النباتات في عدة أجيال متعاقبة خلال العام الواحد، مسجلة رقما قياسيا جديدا في مجال التقنيات الزراعية. ونشروا تجربتهم الرائدة في بحث بمجلة «طبيعة النباتات» (Nature Plants) في يناير 2018.
وتناول البحث طريقة جديدة لتسريع عمليات نمو النباتات تحت ظروف بيئية مُحكمة ولاسيما ظروف الإضاءة (النهار السرمدي). والتربية السريعة للنباتات، تقنية طُوِّرت استرشادا بتجارب أجرتها وكالة (ناسا)، أدامت فيها تسليط الضوء على القمح من أجل زراعته في الفضاء، مما أدى إلى تبكير إكثاره، وفق ما ذكر لي ت. هيكي (Lee T. Hickey)، قائد الفريق البحثي، ومن كبار الباحثين بجامعة كوينزلاند في أستراليا (شارك معه في البحث 34 باحثا من 10 جهات بحثية في ثلاث دول هي أستراليا والمملكة المتحدة وماليزيا). وما يميز هذا البحث هو دراسة عدد كبير من أهم المحاصيل الاقتصادية العالمية كالقمح والذرة والشعير والأرز والحمص والكانولا والبازلاء.
وكما سبق أن ذكرنا، فإن إنتاج صنف تجاري جديد من أي محصول اقتصادي يحتاج إلى مدة قد تبلغ عقدين من الزمان، وهذا يمثل عائقا كبيرا في عمليات التربية. والجزء المهم في برامج التربية تلك يتعلق بالخطوات الأولى الخاصة بالحصول على سلالات نقية (Pure Lines) ذات صفات وراثية مميزة وأصيلة، وهو أمر يستغرق نحو ستة أجيال متعاقبة على الأقل من التلقيح الذاتي (Self-Breeding)، تليها عملية التهجين بين تلك السلالات، ثم انتخاب أفضلها ومتابعة أجيالها المتعاقبة، وتلك هي الحلقة التي عمل عليها فريق البحث الحالي.
وذكر مقدمو التجربة أن طريقتهم استطاعت إنماء ستة أجيال متعاقبة في العام الواحد تحت ظروف إنماء في غرف محكمة الغلق والتحكم الكامل في الإضاءة ودرجة الحرارة ونسبة الرطوبة والتغذية. وذلك بزيادة فترات الإضاءة مما يزيد من معدل سرعة نمو النباتات، ومن ثم تقصير فترة الجيل. واستعانوا بنوع مميز من مصابيح (LED) مع إطالة عدد ساعات الإضاءة (النهار السرمدي مجازا) وتقصير فترة الإظلام في اليوم، (22 ساعة إضاءة وساعتا إظلام فقط، في حين أن الطبيعي غالبا 12 ساعة إضاءة ومثلها إظلام).
وجرى في التجربة زراعة بذور أنواع مختلفة من المحاصيل ومتابعة كل الصفات المحصولية والظاهرية المهمة كتاريخ الإزهار وعدد وحجم ووزن بذور المحصول، وحتى تأثرها بالأمراض النباتية، بل تعدى الأمر ذلك إلى إعادة زراعة البذور المنتجة بتلك التقنية مرة أخرى، ودراسة صفات نباتاتها أيضا، كل هذا مع إجراء تجارب مقارنة تحت ظروف البيوت الزجاجية بتلك النامية بطريقة “التربية السريعة”. وأجرى الباحثون أيضا عمليات تهجين ونقل جينات وزراعة أصناف ذات صفات وراثية مميزة، ومتابعة كل ذلك تحت الظروف البيئية كافة. وشمل البحث إمكانية حدوث الطفرات، ودراسة السلوك الميوزي لنباتات القمح النامية (الاتحادات الصبغية “الكروموسومية”) ومدى حدوث عدم استقرار في السلوك الميوزي للصبغيات، إضافة إلى دراسة مكونات الضوء، واقتصاديات وتكاليف هذا النظام الجديد ومقارنته بالطرق التقليدية في البيوت الزجاجية، مع تطوير طرق بسيطة لنظامهم الجديد أثبتت فعاليتها.
وأوضحت نتائج البحث أن صفات النباتات النامية بالطريقة الجديدة (التربية السريعة) تفوقت على قريناتها في معظم الصفات وفي كل المحاصيل تحت الدراسة، ومكنتهم من زراعة عدة أجيال في العام الواحد بأكثر من الضعف في الطرق الأخرى المستعملة حاليا في البيوت الزجاجية.
بدايات واعدة
سبق أن نوقشت فكرة إطالة فترة الإضاءة (النهار السرمدي) وتأثيرها في نمو النباتات منذ عام 2010م، إذ بدأها فريق العالم سيسوفا (M. I. Sysoeva)، وطبقتها فرق بحثية أخرى، منهم فريق الباحث أوكونور (D. J. O’Connor) عام 2013م ، وفريق الباحث ستيتر (M. G. Stetter) عام 2016م. وأدت نتائجهم إلى تقليل فترة الجيل لأنواع محاصيل أخرى مثل دوار الشمس والفلفل والفجل، والتي استجابت بصورة جيدة لتمديد فترة الإضاءة بتقصير فترة الجيل، مما أدى إلى تسريع برامج التربية .
ونرى أن هذه الطريقة – بعد تأكيد نتائجها من فرق بحثية أخرى – وإشراك باحثي فسيولوجيا النبات في الدراسة، ربما تكون مفيدة جدا للإسراع في تنفيذ برامج تربية النباتات وإنتاج أصناف جديدة خلال سنوات بدلا من عقود, وهذا يزيد من غلة المحاصيل. بجانب ذلك، فالتكاثر السريع سيوفر حافزا قويا لمزيد من علماء النبات لإجراء البحوث والتطبيقات التكنولوجية الحديثة على النباتات المحصولية مباشرة، وتطبيق عمليات دراسات الجينوم وتسلسل القواعد الوراثية بدلا من استعمال النباتات النموذجية، ومن ثم زيادة البحوث لتحسين المحاصيل.