د. محمد الدغيم
اختصاصي جراحة المخ والأعصاب والعمود الفقري (الكويت)
يعد الألم مشكلة عالمية واسعة الانتشار، ويشكل عبئا كبيرا على المرضى وأنظمة الرعاية الصحية. وتقدر الدراسات أن نحو خمس البالغين (%20) يعانون بسبب الألم ونحو %10 من البالغين يصابون سنويا بأحد الآلام المزمنة. وقد يعاني المرضى بسبب آلام حادة أو مزمنة أو متقطعة، أو مزيح من هذه الأنواع.
وهناك الألم الحاد الذي هو ألم حديث سببه حدوث أذية معينة أو التهاب في الجسم؛ والألم المزمن الذي يتمثل في استمرار الألم الحاد لعدة أشهر من دون علاجه بشكل جيد؛ أما الألم المتقطع فهو ألم يأتي على شكل هجمات تفصلها فترات لا يعاني فيها المريض من أي ألم.
لكن لا بد من الاعتراف بصعوبة قياس الألم أو توصيفه، ويختلف الأمر من مريض إلى آخر. ويستخدم الأطباء المقاييس الرقمية، كأن يعطي المريض للألم درجة من عشرة، أو يشير إلى رسم معين يعبر عن حالته، وقد يستخدم الطبيب التقييم السلوكي والوظيفي للمساعدة على تقييم الألم. ومن أكثر أسباب الألم الشائعة عالميا الإصابة أو الأذية، كجروح أو رضوض أوحروق أو كسور؛ والجراحة؛ و الأمراض.
ومن الأمراض المسببة للألم الأورام وأمراض المفاصل والعظام ومشكلات العمود الفقري. وقد يؤدي الألم المزمن إلى مشكلات خطيرة، منها الاكتئاب والعجز عن العمل، ويؤثر في العلاقات الاجتماعية أحيانا، وفي بعض الحالات الخطيرة يؤدي إلى أفكار انتحارية. وتعاني جميع المجتمعات في الدول المتقدمة والنامية بسبب مشكلة الألم، ولها تأثيرها من الناحية الاقتصادية. ففي الولايات المتحدة وحدها تقدر تكلفة علاج الآلام بحدود 140 بليون دولار سنويا. وكل ما سبق يؤكد أهمية علاج الألم وتدبيره.
أنواع الألم حسب آلية الحدوث
هناك نوعان للألم من حيث أسباب الحدوث، الأول: الألم الاستقبالي NOCICEPTIVE PAIN، الذي ينتج عن عوامل خارجية وتكون الأعصاب الناقلة للألم والأجزاء الدماغية المستقبِلة له سليمة، وتؤدي إلى تحريض وتنبيه المستقبلات المحيطية الموجودة في الجلد والأنسجة الأخرى، وهي الآلية الاعتيادية لحدوث الألم. فمثلا، في حال حدوث أذية نسيجية كحرق أو رض معين تتحرر مستقبلات كيميائية كالبروستاغلاندينات والبراديكينين واالسيروتونين، فتتنبه المستقبلات التي تنقل السيالة العصبية إلى مستقبلات في الحبل الشوكي، حيث تتحرر المادة “ب” و مستقبلات عصبية أخرى فتكمل الإشارة إلى جذع الدماغ، ومنه إلى الثالاموس (المهاد)، وأخيرا إلى القشرة الدماغية والجهاز اللمبي، حيث يتم تفسير الإحساس ويحدث أثره الجسدي والنفسي. وكل ذلك خلال لمح البصر. وقد يكون الإحساس بالألم مفيدا في بعض الحالات، فهو الذي يكشف المرض أو يجعلك تسحب يدك عند وخزها أو تبتعد عن مصدر حراري قد يتسبب لك بحروق خطيرة.
وتنتهي مجمل عملية التنبيه في الدماغ المتوسط حيث يتم إفراز الأندورفين والأنكفالين اللذين يعتبران مسكنين مركزيين يفرزهما الجسم ويثبطان نقل سيالات الألم. وأدى هذا الفهم إلى إيجاد الكثير من العلاجات التي تتدخل وتخفف الألم على مستويات عدة.
والنوع الثاني أوالآلية الثانية من الألم: ألم الاعتلال العصبي NEUROPATHIC PAIN، وهو الألم الناتج عن أذية خارجية أو داخلية المصدر في أي مكان من الأعصاب المحيطية والجملة العصبية المركزية (النخاع الشوكي والدماغ)؛ أي إن هناك تغيرات مرضية في الأعصاب ذاتها أو في بعض أجزاء الدماغ أو النخاع. ويندرج تحت هذا النوع طيف واسع، كالآلام الجذرية الناتجة عن ضغط الأعصاب في العمود الفقري، والتهاب الأعصاب السكري أو الاستقلابي، وآلام العصب مثلث التوائم، والألم الناحي العصبي المعقد، والآلام بعد الإصابة بالفيروسات.
آليات ألم الاعتلال العصبي
تؤثر الآلام العصبية في نحو %3 من السكان، وتتميز بأنها غالبا ما تكون مزمنة فيما يكون علاجها أصعب، وقد تكون كارثية على حياة المريض. وبعض هذه الآلام يترافق مع ضعف في العضلات أو خدر وتنمل نتيجة الإصابة العصبية. أما آلية حدوث الألم هنا فمعقدة:
في الأعصاب المحيطية: فيها يحدث زوال النخاعين (الميلين) المحيط بالعصب وتورم غير طبيعي في الألياف العصبية (نيوروما)، مما يزيد من إمكانية تهيُّج العصب وحدوث الألم. تؤدي قنوات الصوديوم والكالسيوم في غشاء العصب دورا مهما في آلية التهيج وحدوث الألم. ومن هنا جاءت فكرة استخدام الأدوية التي تثبط α-2-delta subunit of voltage-gated calcium channels، ومن ثم يثبط حدوث الألم في النوى الظهرية (الخلفية) لأعصاب الحبل الشوكي.
في الأجزاء المركزية للجهاز العصبي: تساهم فيها زيـادة حســاسيــة النيــورونــات ونـقـــص عـتبــة الـتنبيــه، وهـنا يـبـرز دور مسـتقبـلات الـنمـدا. وأجــريـت دراســة لـعـدة مضادات لهذه المستقبلات من أجل تخفيف الألم. وثبت أن تفعيل الحزم النازلة the periaqueductal greyrostral ventromedial medulla يـثبــط حــدوث الألم، وبـهــذه الآلية تعمل مضادات الاكتئاب والمورفينات.
ويسـهم تفعيـل الجملـة الـودية sympathetic في دعم استمرارية حدوث الألم.
متلازمات الاعتلال العصبي
من أهم متلازمات الاعتلال العصبي التهاب الأعصاب السكري، ويحدث فيه غالبا نقص حس متناظر مع حس حرقان بالطرفين؛ وهناك الآلام الجذرية نتيجة الانزلاق الغضروفي حيث يكون الألم حادا نتيجة الضغط على العصب والآلية الالتهابية التي تنتج عن الديسك المنفتق، وقد ينتج عنه إصابة حسية أو حركية مرافقة للألم تحدث بعد الالتهاب بفيروس الهربس أو ما يسمى داء المنطقة، ويكون في جهة واحدة مع فقدان حس وآلام مبرحة نتيجة فقد الميلين والتليف الحادث في العقد العصبية وزيادة حساسية المستقبلات الجلدية.
وهناك متلازمة الألم الناحي المعقد، وتكون في طرف معين مثلا، كاليد، ويحصل فيها آلام مبرحة مع اضطراب في جريان الدم للمنطقة وتعرق ووذمة وتورم، وتحصل بعد إصابة الألياف الحسية العصبية وتداخلها مع الألياف الودية. وفي بعض الحالات نلجأ لقطع الألياف الودية بهدف تخفيف الألم.
تدبير الآلام العصبية وعلاجها
يعتمد تدبير الألم وعلاجه على السبب والآلية المفترضة لحــدوث الألم، ويـصختلــف ذلــك بحســب عمــر المريــض وحالته الصحية.
العلاجات المحافظة:
العلاجات غير الدوائية: كالتمارين الرياضة، والعلاج الطبيعي، والتنبيه الكهربائي عبر الجلد، والعلاجات المعرفية السلوكية. وتتضمن التعليم أي تعليم وتثقيف المريض حول الألم وخاصةً المزمن ليتهيّأ للتعايش مع مستوى ما من الألم، وهذا كله جزء من العلاج النفسي الداعم. وقد يستخدم الأطباء الوخز بالإبر. والآلية المفترضة هنا زيادة الأنكفالينات التي يفرزها الجسم لتثبيط الألم.
العلاجات الدوائية في حالة الآلام المزمنة: من أهم تلك العلاجات مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقة التي تستخدم لعلاج الآلام العصبية، وتعمل عن طريق زيادة السيروتونين والنوادرينالين التي تحفز الحزم النازلة المثبطة لتنبيهات الألم. وأظهرت دراسات أجريت على مضادات الاكتئاب أن NNT (متوسط عدد المرضى اللازم علاجهم كي يستفيد أحدهم ) هو 3 لمثبطات قبط السيوتونين والنورأدرينالين (مثل الأميتريبتلين) ومثبطات قبط النورأدرينالين (مثل النورتريبتيلين). أما مضادات قبط السيروتونين الانـــتقائيــة فالمـتوسط NNT فـيهـا يـعادل 6.7، وأما المضادات المختلطة الانتقائية مثل الدولوكستين والفنلافاكسين فـإن ذلـك المتوسط يتراوح بيـن 4.1 و5.5.
ومن العلاجـات أيضـا مضـادات الاختلاج، مثل الكاربامازبيـن والفنتوئين. وهي فعالة نوعا مـا إذ يـتـراوح المتوســط NNT بين 2.1 و2.3، لكن بـسـبب الأعـراض الجانبيـة الـتي قـد تسـببهـا لا يـمكـن أن تكون الخـط الأول للـعلاج إلا في حالـة الألم مـثلـث الـتوائم، إذ مـا زال الكــاربامازبين هـو الخط الأول للعـلاج بسبب فعاليتــه الكبيرة. أما علاجات الغابابنتين والبويوغابلين التي تعمل على قنوات الكالسيوم فـيمكن استخـدامها بـسبب أعراضها الجانبية الأقل.
ومن العلاجات الدوائية في حالة الآلام المزمنة الأفيونات أو الأوبيويدز Opioids، فهناك دراسات عن فعاليتها لكن يجب الحذر من قضية الإدمان، واستثناء المرضى مع قصة استخدام المخدرات. وهي تستخدم بصورة خاصة مع الحالات المعندة. وهناك أيـضا المـورفـين والـترامـادول والمـيتـادون، لكن تأثيرها على نوعية الحياة والمزاج يختلف من مريض إلى آخر.
وهناك الأدوية الموضعية، مثل الليدوكائين %5 التي تكون على شكل لصاقات، وتستخدم بصورة خاصة في آلام داء المنطقة.
وبصورة عامة يجب البدء دائما بالعلاجات غـيـر الـدوائيـة، ويـمكـن المـسـاعـدة بحصـار أو حقـن العصـب في الحالات التي يكون فيها الألم مرتبطا بـعصــب مـحدد، ثم في المرحــلة اللاحقة يمكن تجربة الليدوكائين الموضعي، ثم نتحـول إلى أدوية الصف الأول، وهي الغابابنتين أو البيوغابلين أو مضادات الاكتئاب.
وفي حال عدم وجود فعالية يمكن تغيير الدواء، أما إذا لم تحدث استجابة جزئية فيمكن إضافة الدواءين معا. وإذا فشل العلاج يمكن إضافة دواء من أدوية الخط الثاني مثل المورفينات أو الترامادول، مع ضرورة إدخال المريض في برنامج إعادة التأهيل لعلاج الألم.
مبادئ علاج الألم الحاد
المبدأ الأول: إعطاء المسكنات قبل حدوث الألم، ويكون عادة أكثر فعالية كما في الآلام بعد الجراحة.
المبدأ الثاني: إعطاء كمية كافية من المسكنات التي تريح المريض ليستطيع ممارسه نشاطاته اليومية، فمثلا بعد العمل الجراحي يجب أن يكون المريض مرتاحا ليستطيع التنفس والحركة وقادرا على الدخول في العلاج الفيزيائي.
والهدف من العلاج يختلف من مريض إلى آخر، ففي الآلام المزمنة يكون الهدف أحيانا مساعدة المريض على الذهاب إلى العمل وتجنيبه الاكتئاب. أما في مرضى الحالات المستعصية فيكون الهدف مساعدة المريض على عيش اللحظات الأخيرة بسعادة وراحة مع من يحب. وفي معظم الحالات نحتاج إلى التداخل بأكثر من دواء، وهنا يجب مشاركة دواءين معاً (وربما أكثر) يعملان بآليتين مختلفتين لتخفيف الأعراض الجانبية والحصول على أفضل تأثير، وأحيانا الاستعانة بوسائل غير دوائية.
وأظهرت الدراسات استجابة مختلفة بين المرضى على المسكنات، ويقال إن بعض هذه الاختلافات جينية. وعند حدوث أعراض جانبية أو عدم وجود تحسن، فإن إعطاء دواء آخر من نفس الفئة قد يجدي نفعا.
وتقسم المسكنات هنا إلى المسكنات غير الأفيونية، والمسكنات الأفيونية، والأدوية الرديفة للمسكنات.
يجب استخدام الأدوية بالشكل المناسب، ففي حالة الألم العارض يمكن استخدام الأدوية عند الحاجة، أما في حالة الألم المستمر أو المعند فيجب استخدام بروتوكول يغطي كل وقت المريض على مدار الساعة. ويجب متابعة استجابة المريض للعلاج وتعديله حسب الحاجة.
وعند إعطاء المسكنات غير الأفيونية، وأهمها الأسيتامينوفين وجرعته العظمى 4000 ملغ يوميا، يجب الحذر عند المرضى الذين لديهم مشكلات في وظائف الكبد، لكنه آمن على المعدة. أما الدواء الثاني، وهو الأسبرين، فيعمل مثل مضادات الالتهاب غير الستيروئيدية عن طريق تثبيط تصنيع البروستاغلندين، لكن يجب الحذر بسبب تأثيره على تجمع الصفيحات، ومن ثم التخثر، إضافة إلى التأثيرات الجانبية على غشاء المعدة.
أما مضادات الالتهاب غير الستيروئيدية فهي تعمل بصورة خاصة على الألم الذي ينتج عن الرض والجراحة والالتهابات. وهناك الجيل القديم الذي يعمل على الأسـيكلوكوكسيـجيـناز، والنمـط الجـديد الـذي يعمل على النمط الثاني من الإنزيم نفسه. ويكون تأثير الأدوية الحديثة أقل على المعدة وعلى وظيفة الصفيحات، لكن النوعين يؤثران في وظيفة الكلية وبخاصة في حالات الاستخدام المزمن.
ومن المسكنات أيضا المسكنات الأفيونية، وأهمها المورفين والأوكسي كودئين، وأقلها من ناحية الأعراض الجانيية هو الكودئين.
العلاجات الجراحية
في حالات كثيرة يكون علاج الألم جراحيا، فمثلا عند فشل العلاج المحافظ في حالات الانزلاق الغضروفي بين الفقرات أو في حالة وجود أذية عصبية نتدخل جراحيا لإزالة الانزلاق الغضروفي وتحرير العصب. وقد نثبت الفقرات في حال وجود عدم ثباتية.
وهناك علاجات تداخلية أو جراحية كثيرة في حالات الألم، ومنها إبر الأمواج الترددية التي يمكن تطبيقها على المفاصل الجانبية الفقرية، حيث يتم تطبيق درجة حرارة معينة على الفرع العصبي المعصب للمفصل والظهر أو الرقبة، وهذا يؤدي إلى تعطيل الألياف المسؤولة عن الألم ويفقد المريض حس الألم في المنطقة المستهدفة.
وقد نطبق العلاج نفسه على العصب الرئيسي نفسه عند فشل العلاج الجراحي والمحافظ، وهناك جهاز يمكن استخدامه وهو يعتمد على زراعة إلكترودات خاصة فوق الحبل الشوكي أو فوق العصب المستهدف، ووصلها بجهاز مزروع تحت الجلد يولد تنبيهات كهربائية تساهم في تثبيط سيالات الألم، وهذا يثبط شعور المريض بالألم.
وهناك جراحات دماغية أيضا تستهدف علاج الألم، ومنها تنبيه الدماغ العميق عن طريق زرع مسار (إلكترودات) موصولة بمولد للتنبيهات الكهربائية يوضع تحت الجلد. ويمكن زرع مضخة تحت الجلد تحقن المورفين مباشرة إلى الكيس السحائي المغلف للحبل الشوكي، وهي تستخدم في حالات الألم المعند لاسيما مرضى الأورام التي تكون في مراحلها النهائية، حيث يعتبر تداخلا تلطيفيا.
وهنك جراحة نوعية نجريها في حالة آلام العصب مثلث التوائم، وهي عبارة عن إبعاد الشريان النابض عن العصب وفصلهما بقطعة من التفلون، وهذا العلاج الشافي في معظم المرضى الذين تسمح حالتهم بإجراء الجراحة .
نصائح عامة
معالجة الألم تُحسّن الحالة النفسية للمريض وعمَلَ مختلف أعضاء الجسم، وتحميه من مضاعفاته.
معالجة الألم تُحسّن أداء المريض اجتماعياً ومهنياً.
يجب التركيز أولاً وثانياً وثالثاً على العلاج الطبيعي؛ ليس فقط لأنه يقوّي العضلات وتكلس العظام ويُحسّن عمل التنفس والقلب فقط، بل لأنه يُحسّن نفسية المريض ويعزز لديه الثقة بنفسه وبإمكانية شفائه.
في بعض الحالات يحتاج المريض لاستشارة نفسية أو دعم نفسي اجتماعي. ولابد من الإشارة إلى أن الاستجابة للعلاج عند المريض العاطل مهنياً والمنعزل اجتماعياً، أصعب بكثير من استجابة المريض العامل أو الذي يؤدي واجبات منزلية واجتماعية بشكل منتظم.
يجب استعمال المسكنات بالتدريج لكن بجرعات صحيحة، ويفضل في الآلام الشديدة البدء فوراً بمشاركة عدة أدوية غير أفيونية معاً مع الأدوية المساعدة (مضادات الاختلاج والاكتئاب) قبل اللجوء إلى الأفيونية.