أصبح العدو القديم حليفًا .. استخدام الفيروسات في علاج السرطان
أتاح استخدام الفيروسات الارتجاعية كناقلات فعالة للجينات العلاجية للعلماء فرصة إعادة هندسة عوامل متعددة من المناعة الخلوية للتعرف على الخلايا السرطانية ومن ثم قتلها
د. خالد صنبر، د. معتصم البارودي، د. نبيل أحمد
باحثون في مجال الأمراض والفيروسات بكلية الطب في هيوستن، (الولايات المتحدة)
على الرغم من كونها أكثر الكائنات بساطًة فإن الفيروسات أتقنت عملية التطور بصورة مذهلة؛ فقد أتاح استغلال تلك المخلوقات الدقيقة لمخلوقات أكثر تعقيدًا، لحاجتها إلى التكوينات الخلوية، قدرة كبيرة لها على اجتياز العقبات التطورية. ففي جينومنا الخاص، اتخذت الفيروسات مخبئًا لإحدى أكثر الرحلات نجاحًا عبر الزمن، إذ يعتقد أن نحو 10% من الجينوم البشري- ذلك الذي نعتز بتفرده وتعقيده- هو من أصول فيروسية. وبذلك نكون، نحن البشر ضمن العديد من الكائنات الأخرى، قد أدينا دور مخبأ عملاق للوجود الفيروسي منذ نشأته.
الفيروسات الارتجاعية
الفيروسات الارتجاعية هي عائلة من الفيروسات ذات الحمض النووي الريبي (RNA)، التي تستطيع تحويله إلى حمض نووي ريبي منقوص (منزوع) الأكسجين (DNA) – تعرف تلك العملية بالنسخ العكسي- ومن ثم إدماجه ضمن المادة الوراثية الخاصة بخلية الكائن العائل. تفتقد الإنزيمات الفيروسية التي تنسخ جينومها الريبي إلى خاصية التصحيح، مما ينتج منه معدلات عالية من الطفرات، تتيح بدورها لتلك الفيروسات قدرة عالية على التكيف مع البيئة، ومنها ردود الأفعال العدائية من قبل الجهاز المناعي للعائل.
بعد إدخال الجينوم الخاص بها في الخلية المضيفة ، قد تتمكن الفيروسات من الاستيلاء على الماكينة الخلوية للعائل، ومن ثم تسخيرها في سبيل تضاعفها، أو قد تبقى في حالة سكون حتى تصبح الظروف أكثر مواءمًة لنشاطها وانتشارها.
توجد نسختان من الحمض النووي في الفيروس الارتجاعي، تحاط بحافظة بروتينية. ثم تغلف بغشاء مشتق من الخلية المضيفة، تزخرفه بروتينات سكرية خاصة بالفيروس تمكنه من الارتباط بمستقبلات معينة على سطح الخلايا العائلة المستهدفة، ومن ثم الدخول إليها. تحدد نوعية البروتين السكري ميل الفيروس إلى إصابة أنواع محددة، بل وخلايا محددة داخل عوائلها.
عادةً ما يكون الفيروس الارتجاعي مجهّزًا بثلاثة إنزيمات لتشغيل ماكينته البسيطة: إنزيم بروتياز، وهو مهم لمعالجة مكونات الفيروس البروتينة؛ وإنزيم النسخ العكسي، الذي يحول الرنا الفيروسي إلى دنا؛ وإنزيم مدمج يدمج المادة الوراثية للفيروس داخل المادة الوراثية للعائل بعد الإصابة، لتجميع المكونات في شكل فيروس كامل. تسبب الكثير من الفيروسات الارتجاعية الأمراض في البشر، ومن ضمنها فيروس عوز المناعة البشري (HIV) الذي يسبب مرض نقص المناعة المكتسبة، والفيروس المنمي للمفاويات التائية البشري من النوع الأول (HTLV1) الذي يتسبب في الإصابة بسرطان الدم.
هندسة الفيروسات
من هذا المنطلق، حاول العلماء الاستفادة من الفيروسات الارتجاعية، وقدرتها الطبيعية على إصابة بعينها، وإدخال مادتها الوراثية إلى الخلايا المصابة. وبناء عليه، فقد هندسوا تلك الفيروسات وراثيًا للقضاء على قدرتها على التضاعف والتسبب في المرض، مع الحفاظ على قدرتها على استهداف خلايا معينة، ودمج المادة الوراثية التي تحملها ضمن المادة الوراثية للخلايا المستهدفة. يستعيض العلماء عن المادة الوراثية للفيروس بجينات محددة لغرض ما، ليحولوا تلك الفيروسات التي توجد بشكل طبيعي إلى ناقلات (أو حاملات) غير ممرضة وفعالة في نقل جينات علاجية تدمجه في جينوم الخلايا المستهدف، ومن ثم تمرر إلى الخلايا الوليدة مع كل انقسام خلوي.
شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية نهضة في العلوم البيولوجية، تدرك مدى عمق السرطان وتعقيده. ومع أن نظم العلاج الكيميائي والإشعاعي قدمت تحسينات تدريجية في رعاية مرضى السرطان على مدار العقود القليلة الماضية، فإن آثارها الواسعة قد تؤدي إلى تداعيات شديدة السلبية. في الآونة الأخيرة، اكتسبت العلاجات الموجهة التي تهدف إلى مهاجمة الخلايا السرطانية بشكل أكثر تحديداً، مزيدًا من الاهتمام. وكان للقدرة على فهم وتسخير قوة الجهاز المناعي أثر تحويلي في علاج السرطان على مدار العقد الماضي. إذ طورت أجسام مضادة يمكنها نزع مكابح الخلايا المناعية، لتدفعه إلى مهاجمة خلايا السرطان، في حين يمكن لأجسام مضادة أخرى إعادة توجيه الخلايا المناعية ضد جزيئات مميزة متعلقة بالورم. وجُربت لقاحات يمكنها تحفيز استجابة الجسم المناعية ضد الخلايا السرطانية ، مع درجات متفاونة من النجاح.
الخلايا التائية
حظي استخدام الخلايا التائية T cells، وهي أشبه بقوى العمليات الخاصة للجهاز المناعي وتتمتع بمهارة فائقة في استهداف وقتل الخلايا السرطانية، اهتمامًا كبيرا. فقد حققت الجهود المبذولة لعزل الخلايا التائية من المرضى المصابين بالسرطان -ولاسيما من أنسجة الورم نفسه- ومن ثم إعادة حقنها في المريض، نجاحات هائلة في علاج سرطان الجلد الخبيث، بيد أن النتائج كانت مخيبة للآمال مع تجربتها في أورام سرطانية أخرى.
أتاح استخدام الفيروسات الارتجاعية كناقلات فعالة للجينات العلاجية للعلماء فرصة إعادة هندسة عوامل متعددة من المناعة الخلوية، بما فيها الخلايا التائية، فأصبح من المتاح إعادة توجيه الخلايا التائية للتعرف على الخلايا السرطانية، وتنشيطها بشكل كافٍ لتقتل تلك الخلايا. برزت هذه الاستراتيجية كتحول جذري، لكنها على الأغلب أكثر فعالية من سابقيها في التغلب على المقاومة العنيدة للخلايا السرطانية. ولذلك ، كانت الهندسة الوراثية للخلايا المناعية في طليعة علاجات السرطان الجديدة في العقد الماضي. تمثلت إحدى السبل في تزويد الخلايا التائية بمستقبلات خلايا تائية (TCR) مختارة، قادرة على التعرف على خلايا السرطان وقتلها. ومستقبلات الخلايا التائية هي تكوين معقد من الجزيئات يقود الخلايا التائية للتعرف والتفاعل مع أهدافها. تتميز تلك المستقبلات المهندسة بقدرتها على التفاعل مع الشبكة الفسيولوجية الطبيعية التي تنشط الخلايا المناعية الأخرى، بيد أنها من ناحية أخرى أكثر عرضة للآليات التي تسمح للخلايا السرطانية بالهروب من الخلايا التائية غير المهندسة.
المستقبلات الكيمرية
في أواخر الثمانينات من القرن العشرين برزت فكرة بسيطة لكن مستقبلية، أدت فيما بعد إلى نقلة نوعية مع تطوير المستقبلات الكيمرية (CAR). تتألف المستقبلات الكيمرية من جزء خارجي يتعرف على بروتين على خلايا الورم ، وجزء داخل الخلية يعمل على تنشيط الخلية التائية. عند اشتباك الخلية التائية مع الورم ، تعمل جزيئات المستقبل على تنشيط الخلايا التائية. وعند اختبارها، أظهرت الخلايا التائية ذات المستقبلات الكيمرية نشاطًا مذهلًا ضد سرطان الدم والأورام اللمفاوية، مما أدى إلى السماح باستخدامها لعلاج المرضى ممن لم يستجيبوا للعلاجات التقليدية. وعلى الرغم من تلك النتائج المبشرة، فإن نشاط تلك الخلايا المهندسة ضد الأورام الصلبة يعد محدودًا. وتحسينه يتطلب تزويدها بالمزيد من الأسلحة والقدرات الخاصة لتواجه خصمها العنيد؛ السرطان.
وإضافة إلى المستقبلات الكيمرية، التي تعدل نشاط الخلايا التائية، فإن السيتوكينات Cytokines –أو منشطات الخلايا المناعية– ساعدت على قدرتها التحملية، في حين يمكن للكيموكينات Chemokine –أو موجهات الخلايا المناعية- أن تعزز من توجيهها لمواقع الورم. وأصبح توفير أحد أو بعض هذه المكونات شرطًا أساسيًا لتحضير خلايا علاجية تظهر نشاطًا مضادًا للأورام، لتحقيق استجابة للعلاج ملحوظة على المستوى الإكلينيكي (السريري).
وهكذا، ظهر نهج جديد في دراسة بيولوجيا الخلايا التائية، بهدف بناء خلايا تائية معدلة لتحمل وحدات وظيفية يمكنها ضبط وتعزيز نشاطها في مواجهة السرطانات الأكثر مقاومة. وتتمثل إحدى المزايا الرئيسية للخلايا التائية العلاجية في كونها “عقارا حيا”؛ إذ إن هذه الخلايا الحية عندما تعطى بجرعات معينة تكون قادرة على الانقسام والتضاعف، أو تقليص وخفض نشاطها حسب الحاجة الطبية.
إن إيصال الجينات العلاجية، وإدماجها في جينوم الخلية بطريقة فعالة، هو شرط مسبق لنجاح هندسة الخلايا المناعية. لقد أتقنت الفيروسات الارتجاعية تلك العملية منذ الأزل، وتمكن العلماء الآن من الاستفادة من تلك الكائنات كأدوات فعالة للهندسة الوراثية. وهكذا، وعلى نحو فعال، تحول عدو قديم إلى صديق وحليف قيِّم في علاج السرطان.