“فَمُ الحُوتِ” … كوكب ما زال يفاجئ العلماء
- في عام 2008 أعلن فلكيون اكتشاف كوكب خارجي سمّي “فم الحوت ب” بعد أن توقّع بعضهم وجوده قبل ذلك بثلاث سنوات
- البحوث العلمية المستمرة حول ذلك الكوكب أظهرت في أواخر أبريل من عام 2020 أنه لا وجود لهذا الكوكب!
- الاكتشاف الفعلي لكواكب خارجية جرى في تسعينات القرن العشرين حين استخدم الفلكيون أجهزة رصد متطورة وأقمارا اصطناعية وتقنيات حديثة
د. أبو بكر خالد سعد الله
أكاديمي وباحث، المدرسة العليا للأساتذة، القبة، (الجزائر)
في عام 2008 أعلن بعض الفلكيين اكتشاف كوكب خارجي، سمّي “فم الحوت ب”Fomalhaut b ، وذلك بعد أن توقّعه بعضهم قبل ذلك التاريخ بثلاث سنوات. لكن وجود هذا الكوكب أثار جدلا خلال أبريل عام 2012 عقب إجراء أَرصاد دقيقة تعتمد على تلسكوبات (مقاريب) فلكية متطورة. ثم أكد وجوده فلكيون آخرون في السنة نفسها. ودعّم هذا الرأي فريق آخر من العلماء عام 2013، وحُدِّد مداره، أما طبيعته فظلت محل نقاش! وتواصلت البحوث حوله حتى تبيّن في أواخر أبريل من عام 2020 أنه لا وجود لهذا الكوكب!! فما الذي جرى؟
وفي سياق اهتمام البشر بما يحيط بهم انشغلوا منذ القدم بالسماء ومكنوناتها، وطوروا عبر العصور تقنيات وطرائق لتفحّص السماء ورصْد ما يظهر فيها، والتعرف على مكونات النظام الشمسي الذي يشمل كوكبنا، وكذا النظم الأخرى في الكون.
واكتشف الإنسان أن في الكون كواكب تدور حول شمسنا، وكواكب أخرى تسمى كواكب خارجية؛ لأنها خارجة عن نظامنا الشمسي. وتبيّن أن الكواكب الخارجية المكتشفة تبعد عن شمسنا مئات السنين الضوئية. وفكرة احتمال وجود هذا النوع من الكواكب قديمة؛ إذ ظهرت في القرن السابع عشر الميلادي.
الكواكب الخارجية
وفي ذلك الوقت، كان بعض الفلكيين يفترضون وجود كواكب خارجية غير أنهم لم يتمكّنوا من إثبات دعواهم بسبب افتقادهم للأجهزة المناسبة. وأبرز الصعوبات في هذا المجال أمران : بُعْد المسافات التي تفصلنا عن الكواكب الخارجية، ونقص لَمَعانها، وهو ما يحول دون مشاهدتها من الأرض؛ وعدم وجود وسيلة تتيح التعرف على عددها وأشكالها وأحجامها مقارنة بالكواكب الشمسية. وكان الفلكي الهولندي كرستيان هوغينس Christiaan Hygens (1629-1695) أول من اهتدى إلى استخدام الآلة لرصد تلك الكواكب.
ولكل ذلك لم نشهد اكتشافات جديرة بالاهتمام إلا في الثمانينات من القرن العشرين، غير أنه اتضح عدم صحتها بعد التأكد منها. وتمّ الاكتشاف الفعلي لكواكب خارجية خلال تسعينات القرن العشرين حين استخدم الفلكيون أجهزة رصد متطورة وأقمارا اصطناعية وتقنيات حديثة مثل معالجة الصور. وهكذا أعلن عن أول اكتشاف لكوكب خارجي عام 1990، ونشر خبره عام 1992 في مجلة نيتشر.
غير أن تلك الاكتشافات لم ينجزها أصحابها بطريقة مباشرة في بداية الأمر، وكان علينا الانتظار حتى عام 2008 للتوصل إلى الاكتشاف المباشر لمثل هذه الكواكب. وعلى سبيل المثال، اكتشف العلماء حتى عام 2012 أكثر من 750 كوكبا خارجيا، معظمها ذات حجوم تفوق حجم الكرة الأرضية. وجلّ تلك الاكتشافات أنجزها باحثون في جامعة جنيف السويسرية. وفي تلك السنة أعلنت الوكالة ناسا أنه كان لديها في مطلع عام 2011 قائمة كواكب مكتشفة تعتقد أنها كواكب خارجية يبلغ عددها 1200 كوكب.
أما في نهاية عام 2019 فجرى التأكد من وجود 4135 كوكبا خارجيا، وذلك في نظم شمسية يبلغ عددها 3073 نظاما. ولا تزال آلاف الكواكب التي رصدتها التلسكوبات الأرضية والأقمار الاصطناعية في انتظار تأكيد وجودها. لذا يتصوّر الفلكيون، على ضوء ما يكتشفونه يوميا، أن مجرّتنا وحدها (درب التبانة) تضم نحو مئة بليون كوكب خارجي.
تطور الاكتشافات
من عيوب اكتشافات الكواكب الخارجية انتشار الأخطاء في المعلومات المجمعة، لذا اتفق الفلكيون قبل نحو عشر سنوات، خلال محاولاتهم التعرّف على الكواكب الخارجية، على أن كل ما نُشر حول صحة اكتشاف بعضها يتضمن معلومات خاطئة. وكان هناك جدل شديد عام 2005 بين علماء الفلك حول المستجدات في هذا المجال حين أُعلِن عن اكتشافات مهمة توصّل إليها باحثون من الوكالة ناسا والمرصد الأوروبي الجنوبي (إيزو).
ومعظم الكواكب التي اكتشفت كانت كواكب غازية ضخمة، تبيّن أن بعضها أجسام كثافتها غير كافية لتكون نجوما، غير أن كتلها تتجاوز كتلة كوكب ضخم، علما أنه من الأيسر اكتشاف الكواكب الضخمة التي تدور بسرعة كبيرة حول نجمها.
من التقنيات المعروفة منذ 1930 لدى الفلكيين للكشف عن الكواكب الخارجية، تقنية التصوير المسماة التصوير الإكليلي coronography، وهي تعتمد على إحداث ظاهرة كسوف كلي في منطقة مختارة من السماء. وبعد ذلك، يزال الجزء المركزي من النجم. لذا فما يظهر للعين هو تاج أو إكليل النجم دون غيره. والحقيقة أن ما يظهر هو بعض أو جلّ ما يدور على مقربة من النجم وله لمعان أقل بكثير من لمعان النجم. وفي عام 2008 أعلن عن اكتشاف كوكب “فم الحوت ب”Fomalhaut b الذي لا يتبع نظامنا الشمسي. ويعتبر الفلكيون أن “فم الحوت ب” هو أول “كوكب” خارجي يكتشف بهذه التقنية. وكان الكشف عن الكواكب الخارجية يقتصر على الطرق غير المباشرة المعتمدة على ملاحظة تذبذب أطياف نجومها الذي تتسبّب فيه قوى الجذب بين تلك النجوم وكواكبها.
فم الحوت وما حوله
من النجوم التي تملأ السماء هناك نجم فم الحوت، وهو النجم الأكثر لمعانا في الكوكبة المعروفة باسم كوكبة الحوت الجنوبي حيث يعادل 16 مرة لمعان الشمس. كما أنه النجم السابع عشر إذا ما رتبت النجوم حسب شدة لمعانها. وأظهرت الاكتشافات الأولى لـكوكب “فم الحوت ب” أنه يقع على بعد 25 سنة ضوئية من الأرض. وقال بعض العلماء قبل نحو عشر سنوات إنه كوكب خارجي يبلغ حجمه ثلاث مرات حجم كوكب المشتري.
وكان تلسكوب هابل قد ساعد على هذا الاكتشاف. وتوصل الفريق المكتشف إلى ذلك من خلال شريط أرسله التلسكوب. وتزامن الإعلان عن كوكب “فم الحوت ب” مع الإعلان عن اكتشاف ثلاثة كواكب أخرى بنفس طريقة التصوير المباشر.
وعندما نراجع المراحل التاريخية لاكتشاف هذا “الكوكب” نلاحظ أنه منذ 2005 كان بعض العلماء يشعرون بوجود كوكب حول نجم فم الحوت، حجمه كبير ومسافته بعيدة عن هذا النجم، إذ قُدِّرت بنحو 20 بليون كلم. ولاحظ بعض العلماء وجود “الكوكب” عام 2005 بناء على تأثيراته في بيئته؛ إذ إن حزام الحطام الذي يحيط بنجم فم الحوت ليس متمركزا حول النجم، بل لوحظ أن له حافة داخلية مختلفة عما كان متوقعا. ولم يتم التأكد من وجود الكوكب آنذاك إلا من خلال الصور التي أرسلها هابل خلال 2004 و 2006. والغريب أن الوكالة ناسا لم تنشر تلك الصور إلا يوم 13 نوفمبر 2008. ويعد “فم الحوت ب” الكوكب الأصغر حجما، والأبرد من بين الكواكب التي تمكّن العلماء من تصويرها خارج نظامنا الشمسي.
كان الاعتقاد السائد أن كوكب “فم الحوت ب” يدور حول نجمه في دورة كاملة كل 872 سنة، وأنه محاط بقرص كوكبي يتجاوز قرص زحل بـ 20 إلى 40 مرة. وكان الإعلان عن صوره حدثًا علميًا عظيما تصدّر المجلات المختصة في نوفمبر 2008؛ إذ إنه للمرة الأولى تشاهد صورة من هذا القبيل، فلم يكن من الممكن تصوير الكواكب الخارجية بسبب تركيز لمعان النجم الذي يدور حوله. لذا كانت للفلكيين مقاييس أخرى لمعرفة وجود الكواكب بقياس حركة الأجرام، أو ترقّب مرور الكوكب أمام النجم فينخفض بذلك لمعان الضوء، وفي الحالتين نحن لا نرى الكوكب بل “نشعر” بوجوده.
وعلى الرغم من كل ذلك، فقد استغرب بعض الباحثين النتيجة المحصل عليها بالطريقة التي وصفها مكتشفو كوكب “فم الحوت ب”، وطرحوا تساؤلات وقدموا حججا انزعج منها المكتشفون، مشيرين إلى وجود شيء ما في نظام فم الحوت” لكنه قد يكون شيئا أكثر تعقيدا من كوكب فم الحوت ب”!
اختفاء الكوكب
وما حدث بعد ذلك التاريخ أن “فم الحوت ب” اختفى عن الأنظار بدءًا من عام 2014، وهو وضع أرّق الفلكيين. وها هو عام 2020 يأتي بخبر مدهش؛ فقد نُشرت دراسة بتاريخ 20 أبريل من هذا العام في مجلة بناس (PNAS) مفادها أن ما رصده تلسكوب هابل، وقيل إنه كوكب، وسمي كوكب “فم الحوت ب”، ما هو سوى سحابة من الغبار ظهرت إثر تصادم نادر الحدوث وقع بين جسمين متجمدّين!
وجاء في مقدمة هذه الدراسة : “على الرغم من أن فم الحوت ب كان يُعتقد في الأصل أنه كوكب خارجي كثيف الكتلة، فإن عدم قدرته على إحداث اضطراب في حلقة حطام نجم فم الحوت أثبت ضعف كتلته. سنستخدم جميع البيانات المتاحة للكشف عن أن لمعانه تلاشى وأن رقعته قد اتسعت، وهو يسلك مدارا يزداد ابتعادا”. هذا يعني أنه كان يختفي شيئا فشيئا مبتعدا عن نجمه. وما يعرف عن الكواكب أنها لا تتلاشى بمرور الزمن، ذلك ما جعل معدو الدراسة يميلون إلى إثبات أن الأمر لا يتعلق بكوكب!
وبخصوص هذا الاكتشاف، ذكر معدو الدراسة أنه كان بمحض الصدفة، إذ تمكنوا من الحصول على بيانات أرشيفية لتلسكوب هابل حول حركة حطام الكواكب حول النجوم لفهم كيفية تطوّرها ومكوناتها. وعندما تحققوا من كوكب “فم الحوت ب”، لاحظوا أنه لم يكن موجودًا، لذلك راجعوا جميع البيانات وحللوها وتبين أنه كان يتلاشى بمرور الزمن.
ما الذي يستخلص من كل ذلك؟ ما هو مؤكد أن مشوار نجم فم الحوت وما يحيط به من كائنات لا يزال متواصلا. ومن يدري، فلعل الأخبار العلمية المقبلة ستأتي لنا بوصف جديد له.
مقاله دسمه علميا , امتعتني بصدقها وقوتها