العطور . الوله الدائم بالشذا الفواح
المهندس أمجد قاسم
حكاية الإنسان مع العطور حافلة بالأسرار والغموض والعجائب، وهي تبدأ من الكهوف التي سكنها البشر قديما والمعابد التي مورست فيها الطقوس الدينية، ولاتكاد تنتهي بالمختبرات العلمية الحديثة المتخصصة في إنتاج وصناعة تلك المادة التي تعتبر أحد مكونات الجمال الإنساني.
ولع قديم
لاحظ الإنسان الأول انبعاث روائح زكية طيبة من بعض الأزهار، فجمعها وقدمها كقرابين للآلهة، كما لاحظ انبعاث روائح طيبة في الجو عند حرق بعض أنواع الأخشاب التي تفرز الصمغ، ثم اكتشف بعض أنواع البخور التي كان يحرقها في معابده.
وربما تعود بداية صناعة العطور إلى الفراعنة، حيث استخرجوا كثيرا من الزيوت الطيارة العطرية من بعض النباتات لاستخدامها في الاحتفالات الدينية وتحنيط موتاهم. وفي الألف الأول قبل الميلاد عرف الصينيون والهنود هذه الصناعة. واستخدمت العطور لغسل أمكنة العبادة وحرق البخور في المراسم الدينية وللعلاج.
واهتمت معظم حضارات العالم بالعطور والطيب، فعرف الفرس صناعة ماء الورد، وحرص أباطرة الهند على استخدام كثير من المواد العطرية في قصورهم، كما اهتمت الحضارة الآشورية والبابلية والفينيقية والرومانية والإغريقية بالعطور التي استخدمت في المهرجانات والأعياد والمناسبات العامة.
هذا وقد برع العرب في صناعة العطور وساهموا بشكل فاعل في تطوير صناعتها، وكانت الجزيرة العربية من أكبر مصدري العطور في العالم. واستطاع الكيميائيون العرب ابتكار وتطوير طرق وأدوات خاصة لتصنيع العطور، إذ اخترعوا آلة التقطير التي كانت تستخلص زيوت الأزهار. ويعد الرازي وابن سينا من أبرز الكيميائيين العرب الذين ساهموا في تطوير صناعة وإنتاج العطور. ونقل العرب بعض أنواع الأزهار إلى الأندلس، كزهرة الياسمين والوردة الدمشقية، ومنها انتقلت إلى مدينة غراس الفرنسية في القرن السادس عشر التي تعتبر حاليا العاصمة العالمية لصناعة العطور.
أصناف متعددة
كان الكهنة ورجال الدين يركِّبون العطور وفق وصفات سرية في المعابد، ثم انتقلت صناعتها إلى العطارين الذين كانوا يصنعونها للأغنياء والأمراء. ومع تطور علم الكيمياء، اكتشف العلماء الصيغ الكيميائية للمواد الداخلة في تركيبها وتم تحضير كثير من التراكيب لعطور لم يعرفها الإنسان من قبل. ففي عام 1690 استطاع « جان ماري فارينا «تحضير عطر الكولونيا الذي يعد من أشهر أنواع العطور في العالم. وفي عام 1836 تم في مدينة غراس تحضير بعض أنواع العطور عن طريق تقطير أزهار البرتقال والورد والمسك الرومي والليلك وغيرها.
وتصنف العطور حسب المواد الأولية الداخلة في تركيبها إلى أربعة أصناف رئيسية هي:
1 – العطور من مصدر نباتي:
تحضر هذه العطور من الأجزاء المختلفة لبعض النباتات، فمن الأزهار العطرية للورد والياسمين والخزامى، ومن براعم كبش القرنفل وزهر الليمون، ومن قشور بعض الثمار كالبرتقال والليمون، كما يتم الحصول على العطور من حبوب النباتات العطرية كالكمون واليانسون والشمر وحبة البركة وجوزة الطيب، أو من بعض الجذور كجذور السوسن والناردين، أو الجذوع كالبنفسج والريحان، أو من الأوراق كما في نبات البردقوش وحشيشة الليمون والنعناع والكافور والزعتر، ومن الخشب كما في نبات الصندل والأرز، كذلك فإن الزيوت العطرية يمكن أن تكون موجودة في كل أجزاء بعض النباتات، كبعض أنواع شجر العرعر.
وتتركب الزيوت العطرية من عدد كبير من المركبات الكيميائية كالتربينات والكحولات والألدهيدات والكيتونات والأسترات والإيثرات والفينولات وأحماض مختلفة ومركبات كبريتية، والمادة التي تعطي الرائحة المميزة تدعى بالزيت الجوهري، الذي يحتوي على المادة الطيارة الموجودة في أجزاء مختلفة من النبات.
2 – العطور من مصدر حيواني:
تنتج بعض أنواع المواد العطرية من الحيوانات، وهي غالية الثمن عند مقارنتها بالأنواع الأخرى من العطور وقليلة العدد، ومن أهم أنواعها:
– المسك: وهو من أغلى المواد العطرية، ويتكون في غدة كيسية في بطن نوع من الظباء يسمى غزال المسك، ويفرزه الذكور فقط. وتعيش هذه الظباء في الصين والتبت والهند وبعض هضاب آسيا. وللمسك رائحة عطرية فواحة نفاذة سريعة الانتشار، ولونه أحمر بني، وهو على شكل كتلة صلبة ذات ملمس ناعم، ويتجمع المسك في كيس بيضاوي في الغزال، ويخرج هذا المسك من الحيوان عندما يقوم الغزال بحك الكيس الممتلئ بالمسك في الصخور، حيث تسيل هذه المادة التي يجمعها جامعو المسك.
– العنبر: مادة عطرية نفيسة تستخرج من جوف الحوت المعروف باسم حوت العنبر، وهي مادة ذات ألوان مختلفة، فقد تكون رمادية أو بيضاء أو صفراء أو سوداء، وهذه المادة تكون طافية فوق سطح الماء على شكل كتلة راتنجية.
– الزباد: مادة كيميائية ذات رائحة مميزة يفرزها قط الزباد من غدد معينة. وفي العادة يتم استخراج تلك المادة من الحيوان دون قتله، ولذلك يربى هذا الحيوان في أقفاص للحصول على عطر الزباد، وتستخدم هذه المادة العطرية في تثبيت روائح العطور.
3 – العطور المركبة:
تتكون هذه العطور من مزج عطرين أو أكثر، للحصول على عطر جديد له رائحة خاصة، وتقوم شركات إنتاج وتصنيع العطور بابتكار خلطات وتراكيب مختلفة للحصول على أنواع جديدة ومتطورة مختلفة الرائحة من خلال التغيير في التركيب ونسب الخلط.
4 – العطور الصناعية:
أدى التطور في علم الكيمياء إلى إنتاج أنواع جديدة من العطور لم يعرفها الإنسان من قبل، فمنذ أواسط القرن الثامن عشر تمكنت كثير من المختبرات ومراكز الأبحاث العلمية من إنتاج أنواع جديدة من المركبات العطرية من مصادر أولية ليس لها علاقة بالطيب، كزيت البترول وقطران الفحم، كما تم التوصل إلى إنتاج العطور الطبيعية بطرق صناعية، مما أسهم إلى حد كبير في تخفيض أسعار العطور وأصبحت في متناول الجميع تقريبا.
فمثلا يعد عطر البنفسج من أغلى وأندر العطور في العالم، إذ إن الفدان الواحد من نباتات البنفسج بالكاد يعطي بضع قطرات من هذا العطر الثمين، وقد تمكن الكيميائيون من تحليل مكونات هذا العطر وتبين لهم أنه يحتوي على مادة تسمى مثيل إيونون Methyl Ionone التي تم إنتاجها كيميائيا بطريقة رخيصة، بحيث أصبح هذا العطر من أكثر العطور انتشارا، كذلك فقد تمكن الباحثون من تصنيع عطور أخرى كالمسك والعنبر وعطر الورد، وهذه العطور المصنعة يتم مزجها في العادة مع العطور الطبيعية بنسب دقيقة جدا.
صناعة العطور
على مر العصور استخدمت عدة طرق لاستخراج العطور من الأزهار وبقية أجزاء النبات، ومن أقدم هذه الطرق، طريقة امتصاص العطور من الأزهار بواسطة الدهن، حيث تغطى ألواح زجاجية بالدهن، ثم تنثر بتلات الأزهار عليها، وتترك لبعض الوقت لامتصاص الزيت منها، وبعد ذلك يعالج الدهن بالكحول لامتصاص المادة العطرية والحصول على الزيت العطري الطبيعي.
وعلى الرغم من أهمية هذه الطريقة – التي ما زالت مستعملة لاستخلاص بعض العطور من بعض الأزهار كالياسمين والزنابق- فإنه تم تطوير عدد من الطرق لصناعة العطور من أهمها:
1 – طريقة التقطير: لهذه الطريقة ثلاثة أنواع، هي التقطير المائي، والتقطير البخاري، والتقطير بالماء والبخار.
2 – طريقة العصر والكبس.
3 – طريقة الاستخلاص بواسطة أحد المذيبات، ولها عدة أساليب، هي الاستخلاص بواسطة الدهن من دون استعمال الحرارة، والاستخلاص بواسطة الدهن باستعمال الحرارة وتعرف بالتعطين، والاستخلاص باستعمال أحد المذيبات الطيارة مثل البنزين والإيثر البترولي.
مزج الزيوت العطرية
أدى التطور في علم الكيمياء إلى تقليد العطور الطبيعية وإنتاج عطور تشبهها إلى حد كبير، كما تم إنتاج مجموعة كبيرة من العطور الصناعية التي لم تكن معروفة من قبل، وتعتبر تركيبة عطر (جيلي) أول عطر يتم إنتاجه من مركبات كيميائية.
ومع إنتاج أنواع جديدة من العطور، برزت الحاجة إلى تصنيفها بشكل دقيق، وقد بدأ العمل بأول نظام للتصنيف في عام 1926 حين تم تصنيف الروائح ضمن فئات محددة، كما صنف الباحث ريميل في كتابه عن العطور الروائح المعروفة ضمن 18 تصنيفا، وهي اللوزية والكهرمانية والأنيسونية والبلسمية والكافورية والقرنفلية والليمونية والفاكهية والياسمين والخزامى والنعنعية والمسكية وزهر البرتقال والوردية والصندلية والتابلية ومسك الروم والبنفسج.
أما الكيميائي الألماني بييس فقد ابتكر سلما خاصا لمزج العطور يشبه السلم الموسيقي، بحيث يقع في أسفله العطور الشرقية ذات الرائحة القوية، كعطر خشب الصندل، وفي أعلى السلم، تم وضع العطور الخفيفة والطيارة، مثل عطر شجرة اليمام، فحسب هذا السلم الخاص بتصنيف العطور، فإنه يمكن مزج بعض الأنواع دون أن يحدث بينها تنافر، كمزج اللوز وعباد الشمس والفانيليا، كما يمكن مزج الليمون وقشور البرتقال، ومن ثم فإن ترتيب بييس اعتمد أساسا على تأثير العطر على حاسة الشم.
وابتكر الكيميائيان كروكر و هندرسون تصنيفا تحليليا للعطور معتمدين على عناصر الإحساس التي تنظم جميع الروائح، وصنفا جميع الروائح ضمن أربعة أنواع اعتمادا على أنماط الأعصاب الشمية التي تتحفز لدى تعرضها للمنبهات العطرية، وهذه الأنواع هي: العطرة أو العذبة Sweet of Fragrant، والحمضية Acid or Sour، والحراقة Burnt، والكبريليكة أو الخمرية Caprylic of Oenanthic، ويتم إعطاء كل عطر معاملا خاصا يبين مدى شدته ضمن نوعه.
أصبحت صناعة العطور من الصناعات المهمة في العالم، التي يتم استثمار مبالغ كبيرة فيها، ولم يعد استعمال العطور مقتصرا على الاستخدامات التقليدية، بل أصبحت تستخدم في عدد كبير من المنتجات، كمواد التنظيف، وملطفات الجو، وأدوات ومساحيق التجميل، والأدوية، والصناعات الغذائية، والصناعات الجلدية، والملابس، والدهانات، حتى أصبح لكل منتج يتم تصنيعه رائحة مميزة.