الحسن بن الهيثم… الرياضي والفلكي
د. أبو بكر خالد سعد الله
ولد محمد بن الحسن بن الحسين بن الهيثم في البصرة (جنوب العراق)، وتعلم على أيدي مشايخها. ولقبه بعض المؤرخين بشيخ البصرة ومهندسها. أما المؤرخون الأوروبيون فتعرفوا إلى أعماله وإسهاماته بدءًا من منتصف القرن التاسع فراحوا يسلطون الضوء على مختلف مؤلفاته لاسيما في البصريات. وعُرف آنذاك لدى أولئك باسم «الهازن» أو «الحازن» Al Hazen، وهو تحريف لاسم «الحسن» (أي الحسن بن الهيثم).
لم يبرز ابن الهيثم في البصريات والضوء فحسب بل اشتغل أيضاً في مجال الحساب والهندسة والفلك. بل يرى مؤرخ العلوم رشدي راشد أن إسهامه في علم الفلك كان ضخماً وتجاوز إسهامه في الرياضيات والضوء، وذلك نظراً لتنوعه وتعدد موضوعاته وقوة التحاليل الواردة فيه. سنقتصر في هذا المقام على الحديث عن إسهاماته في الرياضيات وعلم الفلك.
كان ابن الهيثم مطلعاً على أعمال علماء الإغريق مثل إقليدس (القرن 3 ق.م.) في الهندسة، وأرخميدس (ت. 212 ق. م.) في الرياضيات والفيزياء، وبطلميوس (ت. 168م) في الفلك، وهيرو الأسكندراني (10 – 70م) في الحساب والهندسة. كما كانت له نظرة شاملة حول أعمال من سبقوه من علماء العرب والمسلمين. وقد وصلت بعض أعماله لبلاد الأندلس فدرست هناك، ثم ذاع صيتها في أوروبا عندما ترجمت، لا سيما في طليطلة، بدءاً من القرن الثاني عشر.
فعلى سبيل المثال، نجد عمله الخاص بشكل وبنية الكون قد ترجم إلى الإسبانية خلال القرن الثالث عشر، ثم ترجم مرتين إلى اللاتينية، وأيضا مرتين إلى العبرية، كما ترجم إلى الإيطالية. وقد حظيت أعماله في البصريات (كتاب المناظر) بترجمات عديدة، وهي التي اشتهر بها أكثر من غيرها، على الرغم من أن ابن الهيثم يعتبر من أكبر علماء الرياضيات العرب والمسلمين من الرعيل الأول. وشهرته بدأت في المشرق العربي، ثم المشرق الإسلامي، ثم الغرب الإسلامي (الأندلس). ومن خلال الترجمة في العالم الغربي أصبح ذائع الصيت في أرجاء المعمورة. وتناقلت أعماله بين العلماء في أوروبا حتى القرن الثامن عشر، مثل باكون (1294)، وكبلر (1630)، وديكارت (1650)، وفيرما (1665)، ونيوتن (1727). وقد اهتم ابن الهيثم أيضاً بالطب والفلسفة والمنطق والموسيقى وعلوم الدين.
كان ابن الهيثم قد عمل في الدواوين الرسمية في العراق، لكن هذا النوع من الوظائف لم يرقه فتخلى عنه. ويذكر القفطي في كتابه «إخبار العلماء في أخبار الحكماء» أنه جاء على لسان ابن الهيثم قوله: «لو كنت بمصر لعملت لنِيلها عملاً يحصل به النفع في كل حالاته من زيادة أو نقصان. فقد بلغني أنه ينحدر على موضع عال هو في طرف الإقليم المصري». ولما سمع بذلك حاكم مصر «سيَّر إليه سراً جملة من مال، وأرغبه بالحضور. فسار ابن الهيثم نحو مصر…». وهكذا رحل من العراق إلى مصر واستقبله الحاكم بأمر الله (375هـ – 985م، 411هـ – 1021م) بحفاوة كبيرة طالباً منه إنجاز ما ذكره بخصوص نهر النيل. ووفّر الحاكم ما يلزم من أدوات، ورافق ابن الهيثم جماعة من الصناع ليساعدوه على تصميم وإنجاز السد على النيل.
وعندما وصل ابن الهيثم إلى المكان المخصص لذلك بجنوب مصر برفقة فريقه وفرقة من الجيش لحمايته تفحص الموقع فاقتنع أن المعلومات التي بحوزته كانت خاطئة، وأنه لن يستطيع إنجاز مشروعه فرجع إلى القاهرة خائباً وخجلاً من الحاكم الذي كان ينتظر أن يعمّ الخير على مصر، وهناك ادعى أنه شبه مجنون، وصار يتصرف تصرفات غريبة فانصرف عنه الحاكم. ولا شك أن من كان يقترح إنجاز ذلك السد كان له باع طويل في الهندسة والحساب وعلوم الرياضيات في ذلك الوقت.
وأبدع ابن الهيثم في الهندسة التطبيقية مثلما يتضح في مسألة لا تزال تحمل اسمه في الغرب («مسألة الهازن» Al Hazen problem، أي «مسألة ابن الهيثم») وهي تقول: «إذا فُرِضت نقطتان حيثما اتفق أمام سطح عاكس، فكيف تُعيّن على هذا السطح نقطة بحيث يكون الواصل منها إلى إحدى النقطتين المفترضتين بمثابة شعاع ساقط، والواصل إلى الأخرى بمثابة شعاع منعكس». وفي هذه المسألة دمج متميز بين الرياضيات (الهندسة) والفيزياء (الضوء).
وإذا صدّقنا القفطي فهو يشير إلى 96 مؤلفاً للحسن بن الهيثم لم تصل إلينا كلها، ولا شك أن بعضها اندثر. ونجد في هذه القائمة نصفها في الرياضيات، و 23 منها في الفلك، و 14 في البصريات، و 3 علم السكون والهيدروستاتيكا (علم توازن السوائل)، و 2 في الفلسفة، و 2 في التنجيم، و 4 في موضوعات مختلفة. غير أن هناك من يشير إلى 160 مؤلفًا صنفها ابن الهيثم وحصة الأسد منها تتطرق إلى علم الفلك.
وكان من حسن حظ ابن الهيثم أنه عاش خلال فترة تلت مرحلة كانت تعج بالأبحاث العلمية المكثفة على أيدي علماء مرموقين، مثل الإخوة بني موسى (القرن 3هـ،9م)، وثابت بن قرة (221هـ، 836م – 288هـ، 901م)، وإبراهيم بن سنان (نحو 296هـ، 908م – 335هـ، 914م)، وأبي سهل الكوهي (توفي 405هـ،1014م) وأبي سعد العلاء ابن سهل (328هـ، 940م – 390هـ، 1000م).
ابن الهيثم عالم الرياضيات
في الرياضيات كانت إسهامات ابن الهيثم في الهندسة تفوق تلك التي تخص الجبر، على الرغم من أن بعض المؤرخين ينسبون إليه كتاباً في الجبر لكنه لم يصل إلينا. كان المهندسون يطمحون في ربط الأشكال الهندسية بخواصها المترية (الحسابية). وهذا يعني دمج هندسة الإغريق التي انتهجها أبلونيوس في تلك التي سعى إليها أرخميدس. وكان أحد الإخوة بني موسى، وهو الحسن بن موسى، وكذلك ثابت بن قرة قد اجتهدا في هذا الاتجاه مما أدى إلى التأمل في التحويلات الهندسية وطرق الإسقاط الهندسي للأشكال. فكان هذا الموضوع محل بحث معمّق لدى ابن الهيثم.
وقد ساهم في عدة موضوعات هندسية أخرى، منها ما يعرف بالتحليل اللامتناهي الصغر الذي وضع فيه 12 مؤلفاً، كما عالج القطوع المخروطية وتطبيقاتها. وانكب على موضوعات تركّز على أسس الرياضيات وذلك في مقالة التحليل والتركيب، وشرح كتاب أصول أقليدس، وهو أشهر المؤلفات في الهندسة. وتعمق ابن الهيثم في مفهوم البرهان وعلاقته بما يعرف في كتاب الأصول بالمسلمة الخامسة (أو مسلمة المتوازيات). ومن المعلوم أنها مسلمة دار حولها جدل كبير دام نحو 20 قرناً.
فهناك من اعتبرها مبرهنة ينبغي ألا نجعل منها أبداً مسلمة، وثمة من أكد أنها مسلمة لا نستطيع البرهان عليها انطلاقاً من مسلمات إقليدس الأربع الأخرى التي بُنِيَت عليها الهندسة الإقليدية المتداولة في مدارسنا. ومن بين العرب والمسلمين الذين خاضوا فيها نجد ثابت بن قرة قبل ابن الهيثم، وبعدهما عمر الخيام (439هـ، 1048م – 525هـ، 1131م) ونصير الدين الطوسي (597هـ، 1201م – 672هـ، 1274م). وكان ابن الهيثم قد تبنى لدراسة الموضوع نمط البرهان المعروف باسم البرهان بالخلف. واستعمل أيضاً مفهوم الحركة، وأدخل أشكالا رباعية خاصة سمّيَت «رباعيات لامبيرت Lambert (1777-1728). لكن المؤرخ بوريس روزنفلد (2008-1917) أطلق عليها عام 1988 اسم «رباعيات ابن الهيثم لامبيرت» شهادةً على مساهمة ابن الهيثم في الموضوع قبل جوهان لامبيرت بسبعة قرون!
الهندسة التطبيقية
وصنف ابن الهيثم أربعة مؤلفات تركز على الجانب التطبيقي للهندسة. وقد أعاد برهان نظرية فيثاغورس القائلة في المثلث القائم إن مربع الوتر فيه يساوي مجموع مربعي الضلعين الآخرين. لكنه اعتبر المسألة في دائرة وعبّر عنها كما يأتي : «إذا فرض على قطر دائرة نقطتان بعداهما عن المركز متساويان، فمجموع مربعي كل خطين يخرجان من النقطتين ويلتقيان على محيط الدائرة يساوي مجموع مربعي قسمي القطر».
وفي موضوع العدد والحساب ألّف ابن الهيثم مقالة في نظرية الأعداد، وله أيضاً أربعة مصنفات في الحساب. ومن بين المسائل الحسابية التي حلها البحث عن الأعداد التي تقسم على 7 بحيث إذا حذفت منها 1 أصبحت تقبل القسمة في آن واحد على 2 و3 و4 و5 و6. بل إنه درس أيضاً الحالة التي لا يقبل فيها العدد المطلوب القسمة على 7.
الأعداد الأولية في الرياضيات هي تلك التي لا تقبل القسمة على عدد غير 1 والعدد ذاته. كان ابن الهيثم قد قدمها قبل عالم الرياضيات البريطاني ويلسون بسبعة قرون عندما كان يبحث في برهان نتيجة أخرى عرفت بالباقي الصيني. وعَرفت نظرية ويلسون عدة براهين في أوروبا، منها براهين الفرنسي لاغرانج (1813-1736) والسويسري أولر (1793-1707) والألماني غاوس (1855-1777).
أما الأعداد التامة فهي الأعداد الطبيعية (1، 2، 3، …) التي تتساوى مع مجموع قواسمها. وكان قد بحث فيها أقليدس وعثر على بعضها. لكن ابن الهيثم نص على نتيجة تحدد صيغة كل تلك الأعداد من دون استثناء، وهذا دون التمكن من البرهان عليها. وخلال القرن الثامن عشر (أي بعد نحو 8 قرون) برهن عليها عالم الرياضيات أولر. ومن جهة أخرى، وضع ابن الهيثم قوانين تسمح بإيجاد مجموع الأعداد المرفوعة إلى قوى معينة، مثل القوة 1 و 2 و 3 و 4. واهتم بما يعرف بالمربعات السحرية.
والملاحظ أنه لم يصل إلى المؤرخين من الـ12 مؤلفاً في الرياضيات التي تعنى بموضوع اللامتناهي الصغر إلا سبعة. تناولت ثلاثة منها الأشكال الهلالية، وتطرقت للمسألة الشهيرة المعروفة بمسألة تربيع الدائرة التي لم تُحَل إلا خلال القرن التاسع عشر. ومن المعلوم أن حساب المساحات الهلالية الشكل ليس بسيطاً، ويستعمل مجاميع وفروق مساحات مثلثات وأجزاء منها ينبغي أثناء معالجتها التحكم في نسب الزوايا والأضلاع. وفي هذا العمل قدم ابن الهيثم عددا من النتائج المهمة تدخل فيها الدوال المثلثية. واستطاع ابن الهيثم حساب حجم المجسمات المكافئة بحركة دورانية لقطع مكافئ حول محور. وهو ما لم يتمكن منه علماء الرياضيات قبله (مثل الكوهي وثابت بن قرة). وقدم طريقة حساب مساحة الكرة والهرم والأسطوانة المائلة (أي الأسطوانة التي محورها لا يعامد قاعدتها).
العالم الفلكي
وإذا نظرت إلى إنجازات ابن الهيثم في علم الفلك فستجدها متعددة وعميقة، منها تحديد خط عرض أي مكان على الأرض، ووضع القاعدة القائلة بأن ارتفاع القطب يساوي عرض المكان، أي إن الزاوية التي يشكلها الأفق والقطب تساوي الزاوية عند مركز الأرض بين خط الاستواء وذلك المكان. وهذا يؤدي إلى أن قياس ارتفاع القطب عن الأفق يعطي نفس درجة العرض الجغرافي للبلد. والقطب هو الطرف الشمالي لمحور الكرة الأرضية. كما أثبت ابن الهيثم أن القمر يعكس ضوء الشمس وليس له ضوء ذاتي، وصحح بعض الأعمال في هذا السياق وحدد ارتفاعات بعض الكواكب.
اعتمد ابن الهيثم في دراسة علم الفلك على الرياضيات فكانت حساباته دقيقة أوضحت بوجه خاص عملية سير الكواكب، فأدخل بذلك نموذجا جديدا في دراسة هذه الظاهرة الطبيعية. وميّز بين علم التنجيم وعلم الفلك وانتقد الأساليب التي يسلكها المنجمون المعتمدة على التخمين مهملةً التجربة. كما كان يرى أن التنجيم يتنافى مع أركان الدين الإسلامي.
تفحص ابن الهيثم في كتاب «ميزان الحكمة» كثافة الغلاف الجوي الأرضي، وظاهرة الانكسار الجوي. وشرح سبب ظهور الشفق واختفاء الغسق عندما تكون الشمس تحت مستوى الأفق بـمقدار معين. ثم حدد ارتفاع الغلاف الجوي فوق سطح الأرض فتوصل إلى حساب هذا الارتفاع وقدّره بدقة فائقة (15كم). ويُذكر أنه ابتكر طريقة لتحديد ارتفاع نجم القطب لا تزال مستعملة حتى اليوم، ومن خلالها توصل ابن الهيثم إلى حسابات وأرصاد قليلة الأخطاء مقارنة بالحسابات الحديثة. كما أبدع في بعض آلات الرصد.
كان ابن الهيثم من كبار النقاد لأعمال الإغريق في الرياضيات وعلم الفلك. وهكذا نجده في مقالة «الشكوك على بطليموس» يقول في مقدمتها «الحق مطلوب لذاته وكل مطلوب لذاته فليس يعني طالبه غير وجوده، ووجود الحق صعب والطريق إليه مرّ… ولما نظرنا في كتب الرجل المشهور بالفضيلة… وجدنا فيها علوما كثيرة… وجدنا فيها مواضع مشبهة وألفاظا بشعة ومعاني متناقضة… إلا أنها يسيرة في جنب ما أصاب فيه من المعاني الصحيحة. ورأينا أن في الإمساك عنها هضمًا للحق وتعديا عليه…».
وأشار في نقده إلى كثير من الأخطاء واجتهد في تصويبها، لاسيما ما يتعلق بالربط بين الأدوات في علم الرياضيات المستخدمة في علم الفلك. وفي موضع آخر انتقد ابن الهيثم بطليموس، لكنه اتفق معه في الفكرة القائلة بأن الأرض مركز الكون، وأنها ساكنة لا تتحرك في أي اتجاه، مقدمًا في هذا السياق شروحا فلكية مطولة.
ومع كل ذلك يذكر رشدي راشد أن التعقيب على المجسطي ليس من عمل ابن الهيثم ونُسب إليه خطأ. ويرى أن الكتاب الخاص بشكل الكون المنسوب لابن الهيثم ينبغي التحري فيه. والواقع –كما يشير راشد- أن أعمال ابن الهيثم لم تدرس بالعناية اللازمة والجدية اللائقة حتى الآن. لذا، فقبل أن نقيّم عمل ابن الهيثم في باب الفلك علينا أن ننتظر التحقيق الجاد لمؤلفاته وتمحيصها على أيدي الخبراء.
ويتضح مما سبق أن عمل ابن الهيثم على الرغم من أن منه ما اندثر، ومنه ما لم يُنفض عنه الغبار حتى الآن، هو عمل عالم عملاق من حق الأجيال العربية الإسلامية أن تفتخر به، ومن واجبها أن تتخذه قدوة في طلب العلم وممارسته. كما ينبغي لمؤسساتنا التراثية والأكاديمية التي تُعنى بتاريخ العلوم أن تحفِّز الباحثين على دراسة وتحقيق كل مؤلفات هذا العلامة. وقبل هذا وذاك يتعيّن وضع تلك المؤلفات في متناول الدارسين والمتعطشين إلى معرفة كل ما أنتجه ابن الهيثم من دون زيادة ولا نقصان. ولِمَ لا تنطلق هذه العملية خلال العام الجاري الذي يخلد ذكراه وذكرى مرور ألف سنة على تأليفه لكتاب المناظر في عام 1015م؟ >