د. هشام عليوان
باحث وإعلامي في عدد من المؤسسات العلمية (لبنان)
ثمّة إشكالية ليس من السهل الإجابة عنها، في إطار ما يسمّى الاقتصاد المعرفي، أو النُّظُم الاقتصادية القائمة على المعرفة، وهي: هل حماية حقوق الملكية الفكرية للاكتشافات العلمية والاختراعات التكنولوجية من العناصر الحاسمة في نمو المعارف وانتشار التقنيات الجديدة، وتالياً في تعزيز الاقتصاد المعرفي؟ هناك رأيان متناقضان: الأول يقول إن مجتمعاً لا يحظى فيه المبدعون والمخترعون بحماية قانونية لحقوقهم الفكرية، لا يمكنه أن يحصل على موارد كافية بالمستوى المناسب من أجل المضيّ في درب التجديد والنمو. والثاني يعتبر أنّ التشدّد في حماية الحقوق الفكرية قد يرتّب على المجتمع أكلافاً أفدح من الفوائد المنتظرة.
إنّ النظام القانوني statutory لبراءات الاختراع، يعود إلى القرن الخامس عشر، فيما ترجع حماية الملكية الفكرية إلى القرن الثامن عشر. وفي النصف الثاني من القرن العشرين، توسّعت الحقوق لتشمل الأصناف النباتية، وخطاطات الدوائر المتكاملة لشبه الموصلات المستخدمة في الأجهزة الإلكترونية. أما القرارات الحكومية no-statutory لحماية الملكية الفكرية، فتتضمّن حماية الأسرار التجارية، والشهرة التجارية ذات العلاقة بالإشارات والعلامات لمختلف الأنواع.
في هذا المجال، أنجزت الباحثة زورينا خان Zorina Khan، دراسة متخصّصة، مستندة إلى عدد كبير من المعطيات التاريخية، ضمنتها في كتابها “اختراع الأفكار: براءات الاختراع، والجوائز، واقتصاد المعرفة” “”Inventing Ideas: Patents, Prizes, and The Knowledge Econmy”، (الصادر عام 2020). وتطرقت فيها إلى تاريخ القوانين والتاريخ الاقتصادي، ومن ضمن ذلك، الحقوق الفكرية، والتطوّر التكنولوجي في أوروبا والولايات المتحدة، والقوانين المضادة للاحتكار التجاري، والنُّظُم القانونية، وإدارة الشركات، وأثر ذلك في تطور مسيرة الاقتصاد المعرفي. وحظيت أبحاثها باهتمام المؤسسات الأكاديمية ونالت أكثر من جائزة، لا سيما على كتابها: “دمقرطة الإبداع: براءات الاختراع والملكية الفكرية أثناء النمو الاقتصادي الأمريكي 1790-1920” “The Democratization of Invention: Patents and Copyrights in American Economic Development, 1790-1920″، الصادر عام 2005، والحائز جائزة أليس هانسون جونز التي تُمنح كلّ سنتين لكتاب مميّز في التاريخ الاقتصادي لشمال أمريكا.
مسيرة الملكية الفكرية
في كتابها الصادر حديثا تتطرق الكاتبة إلى تطوّر النُّظُم والمؤسسات القانونية الراعية للتجدّد التكنولوجي الذي هو أحد أركان الاقتصاد المعرفي، أي براءات الاختراع والجوائز الإبداعية، ومدى فعالية المؤسسات الراعية للإبداع إن كانت تابعة للدولة، مع ما يعني ذلك من إمكانيات عدم الشفافية في منح براءات الاختراع أو الجوائز، والشكوك الحائمة حول خدمة فئات معينة لا الجمهور الواسع، أو إن كانت المؤسسات الراعية مستقلة عن الدولة، من ضمن ديناميات الاقتصاد الحر، ودور الحماية القانونية للملكية الفكرية في تنشيط العمل الإبداعي وفي تطوير الاقتصاد المعرفي، والاقتصاد ككل، وذلك في أبرز الدول الغربية الرائدة، وهي فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة.
والغاية من الدراسة هي تحديد العامل المحفّز الأساسي في التجدّد العلمي والتقني، في هذه البلدان، وتالياً، تبيان معالم التميّز في الولايات المتحدة على سواها في هذا المضمار، ما جعلها القوة الاقتصادية الأولى في العالم ابتداء من أواخر القرن التاسع عشر.
نمو اقتصاد وتغير تكنولوجي
يطرح الكتاب أسئلة مركزية حول النمو الاقتصادي والتغيّر التكنولوجي اللذين يهمّان الاقتصاديين والمؤرخين والباحثين القانونيين وعلماء السياسة، وروّاد مشاريع التكنولوجيا، وسياسيي التجديد. وأمضت الباحثة عشر سنوات في جمع البيانات المكتوبة وتحليلها، ووضعتها في أربعة أقسام في كتابها الذي تضمن 462 صفحة.
يتناول القسم الأول الإطار التاريخي للجدل الدائر حول عالم براءات الاختراع وجوائز الإبداع. وتشير المعطيات في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة إلى أنها لا تنسجم مع السائد في الأدبيات من أنّ براءات الاختراع وغيرها من الوسائط لم تكن فعّالة، مع تضخّم المدافعات القانونية والأكلاف الاجتماعية الباهظة نتيجة المنح الكبيرة المدفوعة لأصحاب الإبداع. ويناقش القسم الثاني دور النُّخب والمعرفة ونُظم إدارة المؤسسات الراعية للإبداع. وتدلّ النتائج الإمبيريقية (التجريبية) على أنّ النُّخب والمؤسسات غير المرتبطة بالسوق أسهمت على نحوٍ عام في التجدّد التكنولوجي والنمو الاقتصادي طويل المدى.
ويتناول القسم الثالث وضع السوق وبراءات الاختراع، حيث يُشار إلى الاستجابة الدراماتيكية للحوافز التي مثّلتها الحرب الأهلية في الولايات المتحدة للعمل الإبداعي. وطرح نظام براءات الاختراع في الولايات المتحدة آليات الانتشار الفعّال للمعلومات التكنولوجية، كي يأتي الآخرون فيبنوا عليها، ويبتكروا أفكارهم الخاصة. في حين ينظر القسم الرابع في دور المؤسسات الرديفة، ومنها النظام القانوني. وقد تميّزت المحاكم الأمريكية بالمرونة التي سمحت لها باحتواء آلاف الدعاوى القضائية التي أثارتها التجديدات التكنولوجية.
إنّ نواة الاقتصاد المعرفي اليوم تكوّنت خلال “القرن التاسع عشر الطويل” الذي شهد تجربة عظيمة عبر الدول المختلفة وداخلها، في اختيار الطريقة الأكثر فعالية لإنتاج المعرفة، والأفكار الجديدة، والتكنولوجيات الجديدة. كان الأوروبيون الأكثر التصاقاً بالهرمية التكنوقراطية، ووضعوا ثقتهم بالنُّخب وحكمتها، وقدرتها على تميّز الطريق إلى الأمام، وتنفيذ السياسات الملائمة للتقدّم. وتمايز الاقتصاد السياسي ما بين فرنسا وبريطانيا، لكن التناقضات كانت واضحة مع المقاربة الأمريكية غير المركزية، بشأن قدرة الحرفيين والمبدعين العاديين على أن يكون لهم دور فعّال في المسار الجماعي لتحديد الحاجات، واقتراح الحلول سواء أكانت متواضعة أم طموحة، والإفادة من مشاركاتهم المتعاقبة.
هل العالم كله غني؟
عندما يدرس الاقتصاديون، على مختلف اتجاهاتهم، التفاوت في الثروة والفقر بين الأمم، لا يناقش إلا قليل منهم التغيّر التكنولوجي كأحد أهم المحدّدات للتطوّر الاجتماعي. واهتمّ معظم البحوث ببداية النمو الاقتصادي الحديث في شمال أوروبا، ورصد العوامل الكامنة وراء هذا النمو، فاختلفت الإجابات، وتراوحت بين مدى ما تملكه الدول من مخزون الفحم الحجري، والرواتب النسبية أي بحسب كلّ وظيفة، والعنصر السكاني، وحتى الأجناس، إلى الأسباب السياسية من الحروب الأهلية إلى السيطرة على المستعمرات واستغلالها، وإلى دور الملوك، والدساتير، وإلى أسباب عامة مثل القيم الثقافية والسيكولوجيا والتنوير العلمي. ورأت بعض البحوث أن التفاوت في الإنتاج يرتبط بعوامل ثابتة، أو مستقرة، ومتطوّرة على المدى الطويل.
وثمة نقاشات تاريخية حول بريطانيا البلد الصناعي الأول، تتناقض مع التجربة الاقتصادية المختلفة في بقية أوروبا وفي الصين. إنّ الإمبراطورية الصينية المبكرة شهدت مشاركات في التجديد الثقافي والتنظيمي والتكنولوجي، وكانت إنجازاتها توازي مثيلاتها في أوروبا في الأقل خلال القرن السادس عشر. كانت الإمبراطورية الصينية قد اكتملت من حيث المساحة، وتسمح أسواقها الواسعة بالتخصّص وتقسيم العمل، وانتشار الحرف اليدوية في الريف، وكذلك الأنشطة الصناعية، وازدهار التجارة عبر مسافات طويلة.
ووفقا للكتاب، فإن الركود الاقتصادي ران على البلاد، وربما الانحاط بين 1800 و1950، والأسباب مختلف فيها. ولم تفلح الصين في السير على خطى التصنيع الغربي لعوامل متنوّعة منها العامل الثقافي، وصعوبة الوصول إلى المواد الأوّلية، واختلاف أسعار المدخلات، ومستوى المؤسسات القانونية، وصعوبة التنافس السياسي. وربما كان العامل المهمّ هو النظام النُّخبوي المركزي.
نواة الاقتصاد المعرفي
طرحت بعض الدراسات في التاريخ الاقتصادي التي تناولت التجربة الأوروبية تكهّنات بشأنها، وحاولت الإجابة عن سؤال محدّد هو: لماذا بريطانيا؟ أي لماذا انطلقت الثورة الصناعية الأولى من بريطانيا؟ ولماذا فشلت الدول الأوروبية والآسيوية الأخرى في تحقيق إنجازات مماثلة في التصنيع والنمو المستدام ذاتياً. لقد اعتبر المؤرخون الاقتصاديون أنّ التجربة البريطانية كانت رائدة في أواخر القرن الثامن عشر، وأنّ التجارب الأوروبية هي نواة الاقتصاد المعرفي حالياً. لكن لا نزال نعلم القليل عن المؤسسات التي شجّعت على التطوّر التكنولوجي، كما التقدّم الفكري على نحوٍ أوسع. لذلك يرى الكتاب، كما تقول خان، أنه يملأ الفجوة بين اقتصاديات التجدّد التكنولوجي وتحليل المؤسسات.
لقد هيمنت فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة على التوالي على عوالم التكنولوجيا والتدريس العلمي في القرون الأربعة الأخيرة. كانت فرنسا الرائدة في التجديد العلمي والتكنولوجي. لكن إنجلترا استعارت الأفكار والتقنيات من جيرانها، وخصّصت لها موارد مناسبة مع استثمار العبقرية المحلية، لتكون الدولة الصناعية الأولى.
إنّ الثورة الصناعية الأولى في بريطانيا سمحت لها بالهروب من العوائد الاقتصادية المتضائلة، لكن التقدّم الاقتصادي كان متواضعاً لا ثورياً. فالإنتاجية انحصرت في قطاعات قليلة، وكان النمو غير متوازن. وثبت أنّ الريادة البريطانية التكنولوجية والصناعية كانت عابرة. أما الثورة الحقيقية في المعرفة والصناعة فقد بدأت في القرن التاسع عشر في قارة أخرى.
القوة الاقتصادية الأولى
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان الجدل حول براءات الاختراع في أوروبا يتضمّن دعوات إلى تغييرات في الأساس، وتقييد منح براءات الاختراع وصولاً إلى إلغاء النظام برمته. وكما هو الحال حالياً، فإن الاقتصاديين الأوروبيين والسياسيين الذين يؤيدون إلغاء قوانين براءات الاختراع يعتبرون أنها تضرّ بالرفاهية الاجتماعية. وبرر “الإلغائيون” موقفهم في بعض الأحيان من خلال الدعوة إلى التجارة الحرة وحرية المنافسة، واعتبروا أنّ نظام براءات الاختراع ينتمي إلى استراتيجية حمائية مضادة للتنافس، مشابهة لفرض الضرائب على الاستيراد. واعتبروا أنّ الوصول الحر والمفتوح إلى الاكتشافات الجديدة سيضمن انتشاراً أوسع، وسيفيد كلّ المجتمع، كما تقول خان في كتابها.
وتقول خان إنه في مرحلة أبكر كانت هناك جماعات المصلحة، ومن ضمنها شركات تودّ الاستفادة من الاستخدام المجاني للأفكار المخترعة الجديدة. وسلط عدد من المحللين الموضوعيين والمراقبين الأكاديميين الضوء على عدد من الملاحظات، فبعضهم انتقد المعالم المحدّدة لإدارة منح البراءات، أو نتائج القواعد والمعايير، في حين تمنى قسم آخر الوصول أكثر إلى الأدوية الأساسية، ورأى آخرون أنّ براءات الاختراع لا تعمل على نحوٍ فعال في سياقات معيّنة مثل علم الجينات الوراثية والبرامج الحاسوبية. أما أكثر الانتقادات راديكالية فأتت من اقتصاديين نظريين لا يملكون إلا قليلاً من الخبرة المتخصّصة في الملكية الفكرية أو لا يعرفون عنها شيئاً.
إنّ للملكية الفكرية تاريخاً طويلاً كمفهوم وأداة سياسية، ومنذ البداية ترافقت مع الجدل حول حقوق الحصرية التي تمنحها. فالمؤسسات التابعة للدولة التي تمنح الحق الحصري لأصحاب الاختراع، والتي يعتبرها المعترضون عليها غير منتجة وغير مأمونة، يتمثل عملها في ممارسة الحكم الملكي الاعتباطي. وفي إنجلترا، كانوا يعتبرون براءات الاختراع استثناء من حظر الاحتكار، أو هي من الامتيازات الشائعة التي تبيعها السلطة الملكية للحصول على أموال. وقرّر البرلمان أخيراً حظر الاحتكارات ما عدا التي تُمنح للاختراعات الجديدة.
وخلص الكتاب إلى أن نظام براءات الاختراع في الولايات المتحدة صُمّم ليكون مختلفاً عن المؤسسات القائمة في بقية العالم. وللمرة الأولى في التاريخ، يُدرج بند في الملكية الفكرية في دستور دولة كما جرى في الولايات المتحدة. وبُنيت السياسات على افتراض أنّ براءات الاختراع ليست احتكارات.