الإنجازات الفلكية في الحضارة العربية الإسلامية
د. عبدالله بدران
لا ريب في أن ما وصلت إليه الحضارة الحديثة من تقنيات وإمكانات صناعية هائلة وتطور مذهل في الاتصالات وعلوم الفضاء، وغيرها من المجالات؛ لم تكن وليدة ساعتها، ولا بنت لحظتها، بل هي ثمرة جهود متواصلة بذلتها الحضارات السابقة، ونتاج سنوات مضنية طويلة قضاها آلاف العلماء في البحث والدراسة والتأمل والتفكير. وقد استفادت كل حضارة شهدتها البشرية من الحضارة التي سبقتها، وأضافت إليها مزيداً من البحث والدراسة، حتى وصلت العلوم الحديثة إلى ما وصلت إليه. والفارق الأساسي بين العصور الغابرة والحديثة يكمن في أن التطور العلمي في الماضي كان يتم بخطا بطيئة، في حين أنه يحدث بخطوات متسارعة بل فائقة السرعة في العصر الحديث.
وكان للحضارة العربية الإسلامية نصيب وافر في التطور العلمي والتقني الذي نراه حالياً، كما كان لها اليد الفضلى وقصب السبق في كثير من المعارف والعلوم، وقد استفادت تلك الحضارة من الحضارات التي سبقتها، وأخذت عنها خلاصة ما وصلت إليه من تطور ورقي، لكنها لم تكتفِ بذلك، بل عكف علماؤها على البحث والترجمة والتأليف والابتكار والإبداع، فتركوا لنا تراثاً علمياً قيماً، قلَّ أن تجد له نظيراً في غيرها من الحضارات، كما أبدعوا نظريات علمية كانت الأساس لعلوم عصرية حديثة. وقد اعترف المنصفون من العلماء الغربيين بهذا، وشهدوا بمدى التطور والرقي والازدهار الذي وصلت إليه الحضارة العربية الإسلامية.
مسميات متعددة
يزخر التراث العلمي العربي بمسميات متعددة لعلم الفلك، ومنها علم الهيئة وعلم أحكام النجــــوم، وعلم صناعة النجوم وعلم التنجيــــم. وقد يظن بعض الناس أن هناك لبساً وخلطاً بين التنجيم وعلم الفلك. وفي الواقع ثمة تمييز واضح وفرق كبير بين الأمرين؛ إذ إن علم الفلك قائم على الرصد والبحث والحسابات في حين يقوم التنجيم على الحدس والتخمين والظن.
وقد عرف البتاني (أحد الفلكيين العرب ت317هــ – 929م) علم الفلك بأنه العلم الذي تعرف به مدة السنين والشهور والمواقيت وفصول الأزمان، وزيادة الليل والنهار ونقصانهما، ومواضع النيرين (الشمس والقمر) وكسوفهما، وسير الكواكب في استقامتها ورجوعها وتبدل أشكالها ومراتب أفلاكها وسائر مناسباتها.
أهمية علم الفلك
أولت الحضارة العربية الإسلامية علم الفلك أهمية خاصة، وبلغ فيها شأواً عظيماً منذ بدايتها، ونجد هذا واضحاً من خلال مئات الكتب المؤلفة في هذا العلم، والمراصد التي أقيمت في بقاع شتى من الدول الإسلامية والآلات التي اخترعت للرصد والحساب.
وقد تمت الاستعانة بعلم الفلك في أمرين اثنين؛ الأول يتعلق بالأمور الدينية، والآخر بالأمور الدنيوية، ففيما يتعلق بالجانب الأول تمت الاستفادة من تطبيقات علم الفلك في معرفة أوائل الشهور القمرية، واتجاه الكعبة، ومواعيد الصلوات الخمس، وغيرها من الشعائر الإسلامية.
أما في الجانب الدنيوي، فلقد استفيد من علم الفلك في معرفة الاتجاهات أثناء المسير في الصحراء، وفي الملاحة البحرية، والتنبؤ بالطقس… وغير ذلك من الأمور التي برع فيها العرب.
وقد وصف البتاني علم الفلك بـأنه من أشرف العلوم منزلة وأسناها مرتبة وأعلقها بالقلوب، وألمعها بالنفوس، وأنه ميدان نشاط فيه إذكاء للذهن، وشحن لملكة التأمل، وأن من أنعم وأدام النظر فيه، أدى إلى معرفة كنه عظمة الخالق وسعة حكمته وجليل قدرته ولطيف صنعه.
بدايات الفلك و تطوره
عرف العرب قبل الإسلام علم الفلك، وكانت لديهم معلومات كثيرة عن مواقع النجوم والأبراج ومنازل القمر والكواكب السيارة. وتدل شواهد آثارية عدة على أنهم كانوا يتأملون في السماء ويراقبون حركات النجوم ويرصدونها.
وعندما جاء الإسلام ازداد اهتمام العرب بعلم الفلك وأولوه عناية خاصة؛ لاسيما لوجود ارتباط بينه وبين عدد من الشعائر الإسلامية. وهناك آيات عديدة تحث على التأمل في القوانين التي تحكم سير الأجرام السماوية وحركاتها ودلالاتها على وجود الخالق عز وجل وعظيم صنعه، كما اهتم الخلفاء به وشجعوا على دراسته، وأقاموا مراصد عديدة في أمكنة مختلفة.
وفي منتصف القرن الثاني الهجري تمت ترجمة كتاب السند هند أو (السدهانت) الهندي إلى اللغة العربية، واستطاع العرب من خلاله أن يتفهموا بعض الموضوعات المتعلقة بعلم الفلك، فزاد اهتمامهم بهذا العلم واتسعت معارفهم، واستطاعوا بعدها أن يترجموا أمهات الكتب فيه.
ومن أهم الكتب التي ترجمت وكان لها تأثير مهم في تطور هذا العلــم كتاب (المجسطي لبطليموس)، إذ استوعبت العرب ما فيه من نظريات وحسابات، ولم يكتفوا بذلك، بل أدخلوا تصويبات مهمة على بعض الأخطاء الحسابية والفلكية.
وعرف عن الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور شغفه واهتمامه بعلم الفلك، وهو الذي أمر بترجمة كتاب السند هند، كما كان يشجع المترجمين والعلماء ويغدق عليهم العطايا ويحيطهم بضروب من الرعاية والعناية، وفي مدة خلافته ترجم (أبو يحيى البطريق) كتاب (المقالات الأربع في صناعة النجوم) لبطليموس، وهو كتاب كان له تأثير كبير في الاهتمام بعلم الفلك، إلا أن عصر الخليفة العباسي المأمون كان العصر الذي شهد انطلاقة حقيقية لعلم الفلك حيث أمر ببناء المراصد وجعل لها عاملين متفرغين، وأولى العاملين فيها عناية خاصة.
وكان لإقامة المراصد تأثير كبير في تطور علم الفلك وتم بواسطتها إجراء العديد من الحسابات، كما تم في تلك الفترة اختراع آلات عديدة تتعلق برصد النجوم والأفلاك.
علماء الأندلس
وكان لعلماء الأندلس دور مهم في علم الفلك، واشتهر منهم (الزرقالي) الذي وضع جداول فلكية اعتمد عليها الملك ألفونسو العاشر عند وضعه الجداول المعروفة باسم الجداول الألفونسية. ويقول روم لاندو في كتابه (الإسلام والعرب): في كتاب كوبرنيكوس يستشهد بالعالم العربي الزرقالي، وينقل عنه، والزرقالي عالم أندلسي فلكي، اخترع إسطرلاباً وتم له من الشهرة قدر جعله منطلقاً لتراث فلكي كامل.
وكانت الأندلس بالنسبة لأوروبا موطن الجداول الفلكية والرصد الفلكي من أيام مسلمة المجريطي والزرقالي إلى عهد ألفونس الحكيم، وكان خط عرض مدينة طليطلة لفترة طويلة الأساس الذي بنيت عليه الحسابات من قبل الفلكين الغربيين.
وكان من أهم رواد علم الفلك في الحضارة الإسلامية: البتاني والبيروني وأبو معشر البلخي والبوزجاني وبنو موسى بن شاكر وثابت بن قرة والفرقاني والخوارزمي وابن يونس.
واستمر تطور علم الفلك من جيل إلى جيل حتى انتقل إلى البلاد الأوروبية التي أخذت نتائج الأبحاث والدراسات التي توصل إليها العلماء العرب فدرستها ودونتها، وكانت انطلاقتها الحقيقية نحو التطور الهائل الذي تشهده حالياً.
رصد وآلات
كان لإقامة المراصد في بقاع مختلفة من العالم الإسلامي الفضل الأكبر في التطور الذي شهده علم الفلك، فلقد كانت هذه المراصد بمنزلة مؤسسات علمية متخصصة يعمل فيها باحثون مختصون بعلم الفلك ومتفرغون له، ويأخذون أجورهم من الخلفاء مقابل تفرغهم للمرصد والدراسة وابتكار الآلات الرصدية. وكان للرصد آلات مختلفة، ويعتبر الإسطرلاب أهم الآلات الفلكية وأكثرها استخداماً. ومن الآلات أيضاً اللبنة، والملحقة أو ذات الحلق، والربع المجيب، وذات الشعبتين، وذات السمت والارتفاع، والآلة الشاملة.
الإنجازات الفلكية العربية
أسهم العرب إسهاماً كبيراً في تطور علم الفلك، وكان لهم الفضل في اختراع الكثير من آلات الرصد والحساب، وأهم الإنجازات الفلكية العربية التي قدمتها الحضارة العربية الإسلامية هي:
1 – نقل الكتب الفلكية عن الحضارات اليونانية والفارسية والهندية، وتصحيح بعض أغلاطها والتوسع فيها، وهو عمل جليل لاسيما إذا عرفنا أنَّ أصول تلك الكتب ضاعت ولم يبق منها غير ترجمتها بالعربية.
2 – تأليف عشرات الكتب في علم الفلك وآلاته، وكيفية إجراء الحسابات الفلكية واستخدام آلات الرصد وكيفية صنعها، وما تضمنته تلك الكتب من نظريات كان لها شأن كبير في تاريخ علم الفلك.
3 – عزل علم الفلك عن التنجيم، وتبيان حقيقة علم الفلك المبني على الرصد والحسابات والنظريات العلمية المدعمة بالبراهين، وتوضيح أن التنجيم ليس علماً معتمداً على إعمال الفكر والعقل، بل هو مجرد حدس وتخمين وأوهام.
4 – إنجاز أعمال رصدية هائلة وقيمة، ومنها قياس محيط الكرة الأرضية في زمن المأمون، وهو أول قياس أجري لقياسه، ومنها توصلهم لمعرفة أن أوج الشمس (أبعد نقطة لها عن الأرض) غير ثابت وأنه يتغير بمعدل 12 ثانية في السنة، وكذلك قياسهم طول الدرجة الواحدة من خطوط الطول، وقياس مدة الحركة البطيئة (تقدم وقت تساوي الليل والنهار). وتحديد ميل سمت الشمس ومدارها ومدار القمر والكواكب، وتحديد اتجاه القبلة في جميع الجوامع والمساجد ومعرفة طول السنة النجمية والسنة الشمسية، ومعرفة أن الكرة الأرضية هي التي تدور وليست الأفلاك، وتحديد الكسوف والخسوف، ومعرفة مدة حدوثهما، وتتبع مذنّب هالي ورصده عدة مرات، فضلاً عن إنجاز العديد من الحسابات الفلكية القيمة التي فتحت الباب لعلماء أوروبا ليتابعوا مسيرة تطور علم الفلك من المراحل التي وصل إليها العلماء العرب.