الأدوية والسموم .. إنقاذ حياة البشر وتحسين معيشة المرضى
عندما يدور الحديث عن الأدوية والسموم، قد يتبادر إلى الذهن أننا نتحدث عن الشيء وضده. فبطبيعة الحال الدواء هو العلاج الذي يقضي على الأمراض فيمنح الحياة، في حين أن السموم على العكس تماما هي مادة قاتلة تسلب الحياة. هذا ما ألفناه، لكن من وجهة النظر الصيدلانية عندما نتحدث عن الدواء والسموم نجد أننا نتحدث عن مترادفين لا متضادين. فقد برع الصيادلة على مر العصور والأزمنة في استخدام السموم كأدوية لعلاج العديد من الأمراض. ولا عجب أن يطلق على القسم المسؤول عن دراسة التأثير الأقرباذيني للمواد المختلفة سواء كانت مواد طبيعية أو كيميائية داخل أقسام الأدوية والسموم في كليات الصيدلة. السموم التي تفرزها الحيوانات مثل الأفاعي والعقارب والنحل، وكذلك السموم التي تنتجها بعض النباتات مثل نبات البلادونا ونبات قفاز الثعلب (الديجيتالس)، لها استخدامات طبية متعددة. واستخدمت منذ القدم في وصفات الطب الشعبي.
على سبيل المثال، إن لبعض محتويات سم الأفعى تأثيرا خافضا لضغط الدم، ولبعضها تأثيرا مضادا للتجلط، وهناك أنواع أخرى تكون مضادة للبكتيريا ولعلاج الألم وعلاج بعض الأمراض العصبية…إلخ. فلسم الأفعى تأثير شائع في خفض ضغط الدم من خلال عدة آليات، مثل التسبب في غلق الشريان الرئوي أو نقص تدفق الشريان التاجي. ويوجد في الأسواق أدوية حصلت على موافقة هيئة الأدوية والأغذية الأمريكية (FDA) طوِّرت من محتويات سموم نباتية أو حيوانية.
نستعرض فيما يلي عدة أمثلة لسموم نباتية وحيوانية تستخدم مكوناتها كأدوية مصرح باستخدامها في علاج أمراض مختلفة:
الديجيتالس
نبات قفاز الثعلب أو الديجيتالس هو نبات سام منتشر في أوروبا، وتعد النبتة بكاملها من أزهار وأوراق وسوق وجذور وبذور سامة. يتسبب التسمم بالديجيتالس في حدوث غثيان وقيء وإسهال وضعف شهية وسيلان في اللعاب، وقد يؤدي إلى اصفرار الرؤية، ورؤية هالات زرقاء حول الأضواء واتساع حدقة العين. كما يحدث هلوسة وهذيانا وصداعا شديدا ويتسبب في اضطراب معدل ضربات القلب وعدم انتظامها، وتباطؤ القلب.
والتسمم بالديجيتالس قد يسبب انسداد القلب وعدم انتظام ضرباته، وقد يكون في صورة انخفاض أو زيادة في معدل ضربات القلب بحسب الجرعة التي تناولها الشخص وحالة القلب. وفي حالة حدوث رجفان بطيني يجب تجنب استخدام جهاز الصدمة الكهربائية فقد يؤدي ذلك إلى زيادة عدم انتظام ضربات القلب.
واستخدم المعالجون بالأعشاب في الفلكلور الطبي الديجيتالس كمكمل غذائي لإنقاص الوزن في المستحضرات العشبية ولعلاج نوبات الصرع، لكنهم وجدوا صعوبة في تحديد الجرعة الآمنة منه، وذلك لقلة الفرق بين منسوب الجرعة العلاجية والجرعة السامة منه، ما أدى إلى عزوف المعالجين عن استخدامه في وصفاتهم تجنبا لحدوث السمية.
وسعى الباحثون في النباتات الطبية وتأثيراتها الدوائية إلى دراسة نبات الديجيتالس ومكوناته وتحديد تأثيرها الطبي، فوجدوا أن للأوراق والبذور تأثيرا مقويا لعضلات القلب، واستخلصوا ستيرويد الديغوكسين الذي يستخدم كدواء لعلاج السكتة القلبية والسيطرة على معدل الاستجابة البطينية في الرجفان الأذيني المزمن. ويعد الديغوكسين أحد أقدم الأدوية المعالجة للقلب إذ صرحت هيئة الأدوية والأغذية الأمريكية باستخدامه في عام 1954، في حين أن أقدم الوصفات الطبية التي تستخدم نبات الديجيتالس في علاج القلب وجدت قبل ذلك بسبعة قرون، وتعود إلى أطباء ميدفاي في مقاطعة ويلز بالمملكة المتحدة وذلك في القرن الثالث عشر الميلادي.
البلادونا
نبات ست الحسن “البلادونا” أو الباذنجان المميت هو نبات واسع الانتشار، يوجد في أوروبا وشمال أفريقيا وغرب آسيا، وفي كندا والولايات المتحدة الأمريكية. يمتلك هذا النبات تاريخا طويلا في استخدامه كسم قاتل وكذلك استغلاله في أغراض طبية متعددة، كما استعملته النساء للتجميل منذ زمن بعيد.
فقد استخدمه الرومان القدماء لصنع رؤوس الأسهم المسمومة للتخلص من الأعداء، كما يشاع في الروايات التاريخية أن زوجة الامبراطور الروماني أغسطس قتلته باستخدام عصير توت نبات ست الحسن.
يحتوي نبات البلادونا على قلويد الأتروبين الذي يغلق المستقبلات في عضلة العين، وهي المسؤولة عن تضييق الحدقة، فيؤدي استخدامه إلى زيادة قطر حدقة العين ما يجعل العين أكثر جمالا وجاذبية. لذلك استخدمته النساء في التجميل فصنعت منه قطرة للعين تحدث توسيعا في حدقتها لتبدو أكثر جاذبية، ويشاع أن كليوباترا استخدمته في القرن الأول قبل الميلاد لتجميل عينيها.
كما استخدم نبات ست الحسن في التخدير، إذ سجل استخدامه في تخدير المرضى قبل الجراحة منذ القرن الأول الميلادي، واستخدم كخليط مع الأفيون. واستمر هذا الاستخدام في الإمبراطورية الرومانية والحضارة العربية الإسلامية، ثم في أوروبا حتى القرن التاسع عشر، حين توقف استخدامه في هذا الغرض مع ظهور أجيال حديثة من مواد التخدير. وقد نجح الصيدلي الألماني هينريش ماين في عام 1831 في فصل مركب الأتروبين في صورة بلورات نقية لأول مرة من نبات ست الحسن ما ساهم في بدء الاستخدام الصيدلاني الحديث لهذا النبات.
ويعد نبات ست الحسن أحد أكثر النباتات المعروفة سمية، حيث يؤدي ابتلاع شخص ورقة واحدة منه إلى الوفاة ويتسبب أكل ثمرتين إلى خمس في موت شخص بالغ. وتشمل أعراض التسمم به اتساع حدقة العين والحساسية للضوء، واضطراب ضربات القلب، وفقدان التوازن، والصداع. وقد يتسبب في طفح جلدي واحمرار وجفاف الحلق واحتباس البول والإمساك والهلوسة والهذيان والتشنجات.
لا تقتصر الأدوية المستخلصة من السموم على النباتات السامة، بل نجد أن هناك العديد من الأدوية المستخلصة من سموم حيوانية، وفيما يلي بعض الأمثلة:
أفعى الحفرة البرازيلية
تنتشر أفعى الحفرة البرازيلية Brazilian pit viper في جنوب شرق البرازيل، وتؤدي لدغتها إلى ظهور أعراض تسمم مثل نزيف اللثة وتحت الملتحمة وعدم تخثر الدم. وقد تكون أعراض هذا التسمم قاتلة وتؤدي إلى حدوث نزيف في المخ وفشل كلوي. وتبلغ نسبة الوفيات من لدغة هذه الأفعى %0.7، في حين تبلغ الجرعة القاتلة من سمها 70 مليغراما لشخص يبلغ وزنه 60 كيلوغراما. لكن هذا السم يحوي مواد يمكن استخدامها كأدوية، مثل عقار كابتوبريل، أول دواء خافض لضغط الدم من طائفة مثبطات الإنزيم المحول للإنجيوتنسين “ACE inhibitors”، والذي تم تصنيعه مطابقا لتركيب أحد ببتيدات سم هذه الأفعى. كما يستخدم هذا العقار لعلاج بعض أنواع فشل القلب الاحتقاني congestive heart failure، بعد أن تم اكتشاف تأثير هذا الببتيد في خفض ضغط الدم في عام 1965، في حين حصل العقار على موافقة هيئة الأدوية والأغذية الأمريكية (FDA) في عام 1975. ولا تقتصر محتويات سم هذه الأفعى على مخفض ضغط الدم فقط لكنها تحتوي أيضا على إنزيم مخثر للدم haemocoagulase يستخدم كعقار مضاد للنزيف.
أفعى الحراشف المنشارية
توجد أفعى الحراشف المنشارية saw-scaled viper في المناطق الصحراوية بإيران وأفريقيا والشرق الأوسط والهند وسريلانكا. ويتميز سمها بأنه مركب يحتوي على أربعة أنواع من السموم، وهي سموم عصبية وقلبية ودموية وخلوية. ويتسبب سم هذه الأفعى في اعتلال تخثر الدم وتوقف رجفان القلب الذي قد يستمر من عدة أيام إلى أسابيع، ويؤدي إلى حدوث نزيف في أي مكان بالجسم بما في ذلك الجمجمة.
تتراوح الجرعة القاتلة من هذا السم من 3 إلى 5 مليغرامات لكل كيلوغرام، وتتميز هذه الأفعى بأن تأثير سم أنثاها يبلغ ضعف سمية الذكر. وتم اشتقاق عقار تيروفيبان “أجرستات” المضاد لتجلط الصفائح الدموية، والحاصل على موافقة هيئة الأغذية والأدوية الأمريكية في عام 1999، من مكونات سم أفعى الحراشف المنشارية.
الأفعى الجرسية
نستخلص مما سبق أن السموم القاتلة هي مواد معقدة التركيب، تحتوي على مواد عديدة مختلفة التأثير. وتعتمد درجة سميتها على وجودها في خليط واحد إلى جانب العامل الأساسي وهو جرعتها.
وإذا استطعنا فصل هذه المواد عن بعضها بعضا وتحديد تأثير كل مادة منها بصورة منفصلة مع ضبط جرعتها، بحيث نستطيع استخدام كمية مناسبة لإحداث التأثير المرغوب دون الوصول إلى الجرعة المسببة لأعراض السمية، فقد يساعدنا هذا على تطوير أدوية جديدة تسهم في الحد من آلام المرضى ومعاناتهم.
قدمنا فيما سبق أمثلة لسموم طوِّرت أدوية منها واستخدمت على مر العصور لعلاج أمراض مختلفة. ولاتزال جهود العلماء والباحثين مستمرة، مستثمرين التقدم التقني الهائل وزيادة الإمكانات المتوفرة للبحث العلمي في سبر أغوار سموم أخرى، والعمل على تحويل السموم القاتلة إلى أدوية ناجعة تكون سببا في إنقاذ حياة البشر وتحسين معيشة المرضى.