اكتساب الأطفال للغــــة وتأثير وسائل الإعـــــلام
د. عبدالله بدران
يعتبر الأطفال في أي مجتمع عماد نهضته وأساس مستقبله، وأمله الواعد، باعتبارهم حملة رايات التنمية والازدهار والعطاء، لذا تولي الأمم والشعوب اهتماماً خاصاً وعناية بالغة لهذه الفئة العمرية.
والحـديث عن الطفـولة ومشكلاتها وقضاياها أصبح الهمّ الشاغل للأمم والمجتمعات، فقد وعت المجتمعات أهمية هذه الشريحة، ودورها المستقبلي في البناء والتنمية، وضرورة الاهتمام بها لتكون الفئة المعول عليها في نهضتها وتطورها.
والطفولة وفق التعريفات العلمية هي تلك المرحلة العمرية التي يتطور فيها نمو الفرد منذ الميلاد حتى البلوغ أو المراهقة، وهي مرحلة نمائية متميزة من حياة الإنسان، فالفرد في سنوات الطفولة تتكون اتجاهاته وعاداته وأنماطه وسلوكه، وغير ذلك من أركان بناء شخصيته، مما يحدد بدرجة كبيرة توقعات مسار نموه في المراحل التالية، والحد الذي سيكون قادراً معه على التوافق بنجاح مع بنيته وظروف حياته كلما تقدم في العمر عبر المراحل المختلفة للحياة.
ولقد أفاضت المعرفة والتجارب السيكولوجية في إبراز أثر الطفولة وخبراتها في بناء الشخصية السوية وفي تنمية السلوك الفعال، حتى لقد صار مبدأ (الطفل أبو الرجل) من الأسس التي يقوم عليها تفسير نمو الشخصية.
والطفولة بطبيعتها هي مرحلة حساسة للتعلم ولاستيعاب الخبرة التي يتعرض لها أبناء تلك الشريحة.
وتحتل الطفولة صدارة اهتمامات المجتمعات المتمسكة برقيها وحضارتها، وكلما كان الاهتمام بالأطفال شديداً نجد حضارات متقدمة وشعوباً مثقفة ومجتمعات متطورة؛ لأن الطفل هو انعكاس لميراث مجتمعه وصورة لأفكار حضارته، والنشاط المشترك بين الطفل والمجتمع يولد في نفسه قيماً ومثاليات، ويؤسس في نفسه قواعد بنائية تكون بمنزلة الأسس الصلبة التي ينطلق من خلالها إلى الآفاق الواعدة.
وتحرص المجتمعات على توفير التربية السليمة للطفل؛ وهي تلك التربية التي ترغب في أن تصنع الطفل على عينيها، وتجعله ذا شخصية مستقلة، يستفيد من أفضـل مــا في المجتمع، ويتحلى بالمهارات والقدرات اللازمة لبناء مستقبل زاهر لنفسه وأسرته ومحيطه وأمته.
وتسعى المجتمعات إلى تنشئة أطفالها تنشئة اجتماعية متميزة من خلال تنمية عادات الطفل ومهاراته، فعلاً وسلوكاً وقولاً وعملاً، وغرس قيم ومعايير ومُثُل واتجاهات جديدة، يتشرّبها الطفل ويتمثّلها، لتساعده على امتصاص السلوك السائد والمرغوب في المجتمع الذي يعيش فيه، باعتبار أن البيئة الاجتماعية السائدة في أي مجتمع تؤثر تأثيراً مباشراً وقوياً في تشكيل شخصية أفراده، وفي تحديد أنماطهم السلوكية.
المجتمع وتعليم اللغة
ومن أهم الأمور التي يعلمها المجتمع – متمثلاً بصورة رئيسية في الأسرة – للطفل اللغة التي ينطق بها، ويتخذها وسيلة للتواصل مع الآخرين، وأداة لا غنى عنها للعلم والمعرفة، ويعبر بواسطتها عن مكنوناته. كما تؤدي المدرسة ووسائل الإعلام دورا مهما في تعليم الأطفال اللغة.
واللغة هي لسان الجماعة، ومرآة فكرها، ومنجم عطائها، والملمح الرئيسي لخصوصيتها. كما أنها وعاء الثقافة، و هوية للناطقين بها، و نَسب المرء إلى أمته، ورمز انتمائه إلى قومه، وعليها تبنى المجتمعات وبها تقوم الأمم، وهي خاصية للإنسان لا يشركه فيها غيره من الكائنات التي نعرفها.
الطفل ووسائل الإعلام
تنبع أهمية الإعلام الموجه إلى الطفل من أهمية الطفل نفسه ودوره المستقبلي المتوقع منه في بناء الأمم والحضارات، وكلما شغل الطفل مساحة كبيرة من اهتمام الدولة وعنايتها، وتوجهت إليه بالرعاية والمتابعة، كان له دور كبير في عملية التنمية في تلك الدولة في كل المجالات ومختلف الميادين.
و تتوافر في وسائل الإعلام عدة مميزات لا يتمتع بها غيرها من الوسائل التربوية الأخرى، فهي تقدم خبرات ثقافية متنوعة ونماذج سلوكية وطرق معيشة لقطاعات واسعة من أفراد المجتمع. كما أنها تنقل إلى الأفراد خبرات ليست في مجال تفاعلاتهم البيئية والاجتماعية المباشرة.
وتتعرض وسائل الإعلام لكثير من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مما يجعلها ذات تأثير كبير في تكوين الرأي العام وتوجيهه، ووسيلة مهمة من وسائل التربية المستمرة.
ومن المعروف أن وسائل الإعلام تسعى إلى استقطاب جميع شرائح المجتمع، وإبقائهم على صلة مستمرة بها، وجذبهم ليكونوا من متابعيها، إضافة إلى التأثير في سلوكهم وقيمهم ومعتقداتهم، وتوجيههم وفق الأفكار التي تروج لها، لكن بعضها يحرص على أن يتخصص في كل ما يهم شريحة معينة، ويقدم لها ما يناسبها من برامج ومؤثرات، وما يتوافق مع قدرات أفرادها.
ووفقاً لذلك نشأت وسائل إعلام تتوجه إلى شرائح محددة من أفراد المجتمع، وتتخصص في برامجهم، بعد أن كانت تخصص صفحات معينة لهم، إذا كانت صحفاً أو مجلات، أو أوقاتاً معينة من اليوم، إذا كانت محطات إذاعية أو تلفزيونية. فظهرت وسائل إعلام متخصصة في شرائح معينة كالنساء، والأطفال، وكبار السن، ووسائل إعلام متوجهة إلى أصحاب اهتمامات معينة، كالرياضيين، والاقتصاديين.
القنوات التلفازية الموجهة للأطفال
تعد القنوات التلفزيونية أهم وسائل الإعلام المتخصصة وأكثرها استهدافاً لفئات معينة؛ نظراً لما تمتلكه من إمكانات كبيرة ومميزات عديدة، تستطيع من خلالها جذب الشريحة المستهدفة واستقطابها، وأداء الدور المنوط بها من حيث التأثير في جمهورها، وإحداث الأثر الكبير المستهدف فيهم.
وتظهر الدراسات الخاصة بالتأثير أن للتلفزيون قوة السحر على حياة الفرد وتوجهاته وسلوكه، ويظهر هذا الأثر بوضوح في الاهتزازات البنيوية على مستوى القيم، عندما يقدم أشكالاً من الصور المادية من خلال الأفلام والتمثيليات والدعايات والإعلانات، وغيرها، فتتحول تلك الأشكال إلى نماذج مثالية يقتدي بها المشاهد بحكم جاذبيتها وتأثيرها الذي يصعب عليه مقاومته، ولهذا يتقمص شخصيات ومواقف وأدواراً فيصبح مستهلكاً لتجارب الآخرين الوهمية.
والمشكلة لا تكمن في تأثير التلفزيون في تربية الطفل بقدر ما تكمن في كيفية تعامل الطفل مع ما يبثه ذلك الجهاز من مواد وبرامج، وهنا يأتي دور المؤسسات التعليمية والتربوية، ولاسيما الأسرة، في متابعة الطفل وإكسابه القدرة على الاختيار والنقد واتخاذ القرار، بما يسهم في نموه نمواً صحيحاً في جميع جوانب شخصيته.
ومن المعروف تربوياً أن الطفل يتقبّل كل ما يقدّم له دون مناقشة، فهو أكثر قدرة على امتصاص كل ما يراه، فكيف إذا كان ما يقدم إليه من خلال شاشة التلفزيون التي تحوي درجة عالية من الإثارة والتأثير، تحفز الأطفال إلى مشاهدة كل ما يعرض على شاشته، فكثيراً ما يتراءى للطفل أنّه يساهم فيما يجري أمامه من أحداث ووقائع ويتوحد معها، كما أنّ التلفزيون ينميّ آفاق الأطفال المعرفية، ويضيف إلى معارفهم أو يصححها، ويمهد لتكوين رأي عام ناجح بينهم حيال موضوعات معينة.
وإذا كانت التنشئة الاجتماعية تنطوي على عملية دمج الفرد في المجتمع من جهة، ودمج ثقافة المجتمع في الفرد من جهة ثانية، فإن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أهمية التلفزيون في تحقيق التواصل الاجتماعي بين الأفراد وثقافة المجتمع. فهذا الجهاز أصبح يمثل أحد الينابيع الأساسية التي يرشف منها الأطفال القيم الاجتماعية والعادات، والاتجاهات، والمفاهيم، والمعارف، ويؤثر في سلوكيات الأفراد، وأخلاقهم، وقيمهم.
ويؤدي التلفزيون دوراً مهماً في تنمية اللغة العربية عند الأطفال، واكتسابهم اللغة العربية الفصحى المبسطة، في حين تؤدي بعض القنوات دوراً سلبياً يتمثل في فشو اللهجات العامية، وانتشارها على حساب تلك اللغة المبسطة.
إن الطفل العادي في العديد من البلدان، قبل أن يلتحق بالمدرسة الابتدائية، يكون قد قضى نحو 4000 ساعة أمام الشاشة الصغيرة، واكتسب مهارات لغوية كثيرة منها إضافة إلى معلومات عامة. وعندما يحين وقت دخول الطفل دار الحضانة، يكون قد قضى فعلاً ساعات عديدة يتعلم عن العالم أمام جهاز التلفزيون، أكثر مما سيقضيه في الجامعة للحصول على شهادتها.
سمات التلفزيون الجاذبة
ويرى علماء التربية أن من سمات التلفزيون احتواءه على خصائص التواصل اللغوي المصور، أي على مواصفات الصوت والصورة في آن واحد. وغني عن البيان أن الصورة تنطوي على ميزات عديدة مهمة في حياة الإنسان وأحاسيسه: كالحركة، واللون، والإشارة، وفي كل من هذه الخصائص تكمن لغة بليغة متطورة: لكل لون معنى ودلالة، ولكل حركة مغزى وهدف. وهذا يعني أن الإنسان يستطيع أن يقرأ ما هو مكتوب، ويشاهد ما هو متحرك. ويسمع حركات الأشياء وأصواتها. وإذا كان سحر الكلمة قد فاق كل سحر وفنها كل فن، فإن التلفزيون استطاع أن يجمع بين سحر الكلمة، وسحر الصورة ليشكل بذلك أداة تنفذ إلى عقول الأطفال ومخزن وعيهم.
ومن الجانب الإيجابي، يرى بعض الباحثين أن التلفزيون يساهم في تعزيز الجانب اللغوي لدى الطفل، من حيث تكونه ونموه، ومن خلال هذا الجهاز يمكن إثراء محصلة الطفل اللغوية بكلمات ومفاهيم يصعب التعرف إليها في هذه السن المبكرة، كما أن المشاهدة الجماعية للتلفزيون تشجع على تبادل الحوار وإثارة النقاش بين الطفل وأسرته، وبذلك تنشط لغة الطفل وأفكاره من حين إلى آخر. ومن الجانب السلبي، يرى باحثون آخرون أن التلفزيون ينشر ألفاظاً وعبارات وتراكيب لغوية غير سليمة في نطقها، أو غير صحيحة في تركيبها وصياغتها، ويلتقطها الأطفال دون وعي منهم، فتشيع بينهم دون إدراك لعدم سلامتها، وقد يحدث ذلك في العادة نتيجة لسوء ترجمة بعض البرامج، أو لعدم وجود الكفاءة اللغوية لدى المذيعين أو المذيعات، وهي تؤدي إلى نتائج سلبية لاسيما على الأطفال والنشء.
وثمة أمور عدة يمكن أن يؤديها التلفزيون في تنمية المهارات اللغوية عند الأطفال، كتقديم نماذج لغوية سليمة توفر للأطفال فرص الاستماع إلى اللغة وتقليدها، مع التدرج في اللغة التي تقدم له سواء في عدد الكلمات أو طول الجمل. ويساهم التلفزيون أيضاً في تشجيع الأطفال على الممارسات اللغوية بأن يطلب منهم – على سبيل المثال – ترديد ما يسمعونه من مفاهيم وتحفيظهم مجموعة من الأغاني والأناشيد المتصلة بشخصيتهم وبيئتهم حتى يرغبوا في ترديدها وتفسير كلماتها ومفاهيمها المختلفة.
ويساعد التلفزيون الأطفال على تمييز فهم الحروف الهجائية وربط الحروف بكلمات أو أسماء محببة لنفس الطفل حتى يدرك تحليل الكلمات إلى حروف، مع الاستعانة بوسائل معينة كالبطاقات الصغيرة والأشكال المختلفة للحروف وتقديمها إلى الطفل بشكل مشوق. لكن ثمة مشكلة مستعصية ما زلنا نواجهها في الوطن العربي، وتتمثل في أننا ربما نكون الأمة الوحيدة في العالم التي يدخل أطفالها إلى المدارس ليدرسوا لغة لم يسبق لهم أن استعملوها بشكل كاف؛ فكل أطفال الدول العربية يتعلمون اللهجات خلال الصغر من الأهل، إضافة إلى البرامج التلفزيونية. وعندما يدخلون المدارس يجدون اللغة العربية الفصحى كأنها لغة أجنبية أمامهم وغريبة عنهم. وهو ما يستدعي حرصاً شديداً من الأسر على تعليم الأطفال اللغة العربية المبسطة بطرق مشوقة، كما يستدعي من المعنيين عن القنوات التلفزيونية الموجهة إلى الأطفال العمل على إنتاج برامج متميزة تعزز اللغة العربية الفصحى المبسطة لديهم، وتنمي مهاراتهم اللغوية، وتبعدهم عن اللهجات العامية. >