استيطان الفضاء.. الأسئلة الحرجة
حازم محمود فرج
لماذا يهتم العلماء، ومن خلفهم بقية أبناء البشر، بأفكار وسيناريوهات ومشروعات مستقبلية، لا نعلم زمناً أو عنواناً لها بعد، ترسم صورة جديدة لمستقبل حياة للجنس البشري في مكان آخر سوى كوكب الأرض؟ هل هذا ممكن فعلاً؟ ولماذا يقلق هؤلاء العلماء بشأن هذه الفكرة أصلاً، ويعيدون الحديث عنها وعن ضرورتها وحتميتها الآجلة أو العاجلة؟
استيطان الفضاء: لماذا؟
مثل غيره من الموضوعات المهمة في العلوم المعاصرة والمستقبلية، فإن استيطان الفضاء محل جدل علمي وخلافي كبير.
فبين قائل إن مستقبل الحياة البشرية، والحياة عامة، على كوكب الأرض يبدو بصورة قاتمة منذ الآن، وذلك لعوامل ما فتئت تزداد عدداً، مثل التغير المناخي والهجرات البشرية المرتبطة به، والصراعات والحروب التي لا تنتهي وما ينجم عنها من ازدياد الفقر وتفشي الأمراض ونزوح السكان، إلى الأنماط الصناعية والاستهلاكية الضارة بمحيطنا البيئي، وما تحدثه من انقراض أنواع كثيرة من الكائنات الحيوانية والنباتية، وإحداث تغيير غير مسبوق مدمر لبيئة كوكب الأرض براً وجواً وبحراً؛ وإننا لهذا كله لا بد أن نضطر إلى التفكير والإعداد بسرعة لسيناريوهات ومشروعات استيطان لمواقع أخرى بديلة في الفضاء غير كوكب الأرض قبل أن نرى نهاية الحياة كما نعرفها عليه.
وفي المقابل، هناك رأي آخر يشير إلى قدرة كوكبنا الأرضي على تأمين مقومات الحياة كلها عليه طوال ملايين كثيرة من السنين المقبلة، شرط أن نعمل جميعاً ــ ومنذ الآن ــ على البدء بإصلاح وحماية منظومته البيئية واستدامة دورتها الطبيعية التي تحفظ لنا حياتنا عليه.
آلة تنهض وكوكب ينحدر
كان لبداية عصر الآلة وثورتها الصناعية في أواخر القرن الثامن عشر أثر كبير في حياة المجتمعات البشرية. في الحقيقة، بعد بدء عمل أول آلة بخارية، لم تعد صورة الحياة في بريطانيا والمجتمعات الأوروبية الناهضة الأخرى كما كانت من قبل. أخذت تلك المجتمعات بالتحوّل الكبير إلى التصنيع، ومكننة الزراعة والإنتاج الزراعي، وتطوير صناعة الملابس والمنتجات الحياتية الاستهلاكية الأخرى بعد دوران أول محرك؛ وأدى هذا إلى زيادة عوائد تلك الدول وشركاتها الكبيرة في دورة لم تعد تقبل إلا بالنمو والتوسّع المطرد كماً ونوعاً وزيادة الأرباح، ولو على حساب أشياء أخرى أكثر أهمية. أخذت تلك الآلة، ومن يقودها، تلتهم موارد كواكب الأرض الأولية بنهم بالغ، وأتلفت أماكنها بصورة كارثية، ودون مراعاة لما يمكن أن ينجم من سلبيات أنماط الاستهلاك الجديدة. هكذا جردّت تلك الآلة مساحات كبيرة من الأرض من غاباتها المطيرة وغطائها النباتي الواسع الذي أدى دوراً تاريخياً بالغ الأهمية في حفظ التوازن الدقيق للبيئة والحياة فيها. كما اتجهت تلك الآلة إلى أنواع الوقود الأحفوري المختلفة التي احتاجت إليها من أجل عملها؛ وكان اعتمادها في البداية كبيراً جداً على الفحم الحجري الذي أحدث حرقه ما أحدثه من تخريب بيئي وبخاصة في غلاف الأرض الغازي، الذي امتد منه تالياً إلى محيطاتها وحياتها البحرية.
كان من الطبيعي أن تطال نتائج تلك الثورة والتحوّل الصناعي سلامة وأمن الحياة بصورة عامة على كوكب الأرض، والإخلال بتوازنه البيئي الدقيق. فقد أحدثت عمليات حرق أنواع الوقود الأحفوري زيادة كبيرة في نسب انبعاثات غازات الدفيئة، فقفزت نسبة غاز ثنائي أكسيد الكربون، على سبيل المثال، من قدر هو دون عتبة الـ 300 جزء في المليون في أواخر القرن الثامن عشر ــ أي تقريباً مع بداية الثورة الصناعية ــ إلى قدر تخطى عتبة الـ 400 جزء في المليون في عام 2013 (الشكل رقم 1)، وهي زيادة لم تحدث منذ أكثر من 400 ألف عام. يعرف العلماء وعامة الناس الآن أن غاز ثاني أكسيد الكربون، الذي نضخه بجنون منذ أكثر من 200 عام في غلاف الأرض الغازي، هو أحد أخطر المتهمين في قائمة العناصر المتسببة بالاحتباس الحراري.
صحة الكوكب
أثارت هذه النتائج السلبية قلق علماء البيئة والحياة على الأرض؛ فهم من يرصد ويسجّل ويوثق تسارع ذوبان الثلوج وانحسار الجليديات وارتفاع درجة حرارة المحيطات ومستوى ارتفاع مياهها ودرجة حامضيتها وتلوث بيئة أحيائها وغير ذلك من عواقب التغير المناخي والاحتباس الحراري وآثارها على صحة الكوكب.
ولعل أكثر الآثار السلبية التي تنذر بعواقب تغير مناخ كوكب الأرض وإتلاف بيئته الطبيعية يتمثل في تسارع معدل انقراض الكائنات الحية. إذ تشير أرصاد المؤسسات العلمية المختصة إلى زيادة غير مسبوقة في انقراض أنواع بكاملها من الكائنات الحية. فإضافة إلى حوادث الانقراض الطبيعي التاريخية التي حصلت في ماضي تاريخ كوكب الأرض، يتسبب الإنسان الآن بما بات يعرف باسم الانقراض الحديث الذي يحدثه من خلال الأنشطة البشرية المتنوعة.
وإذا ما لحظنا عامل التكاثر العددي السريع للبشر، الذي تضاعف في مدة تقل عن 50 سنة (من 3.7 بليون إنسان في عام 1970 إلى 7.6 بليون إنسان حاليا)، لأدركنا حجم الحاجة الكبيرة والمتزايدة لموارد الماء والغذاء والطاقة. وبالفعل، فإن هذه الحاجة البشرية الاستهلاكية المتنامية وتعاملها السلبي مع الموارد الطبيعية الأولية أخلا بتوازن المحيط البيئي للأرض، فزادت نسب انبعاثات غازات الدفيئة، وانحسر الغطاء النباتي الحيوي في أنحاء الكوكب كله. وفيما يتعلق بالعنصر البشري، يمكن أن نذكر، إضافة إلى العوامل المتعلقة بتدهور البيئة والمناخ التي يصنعها بيده، عوامل أخرى، أيضاً بشرية المنشأ، يسببها الإنسان لنوعه مباشرة، لعل أبرزها الحروب التي تأتي على ملايين البشر؛ ويكفي أن نذكر هنا أن الحربين العالميتين الأولى والثانية في القرن الماضي قد تسببتا بإزهاق حياة نحو من 100 مليون إنسان.
أين المفر؟
يعكس هذا الواقع صورة غير مشرقة لمستقبل كوكبنا والحياة عليه في أعين معظم العلماء، الذين بات كثير منهم يطالب بضرورة سرعة اتخاذ التدابير العلاجية والوقائية للواقع الحالي لكوكبنا. وفيما تتجه الخطط والتدابير العلاجية إلى شؤون البيئة لتدارك إصلاحها وإنقاذها، تتناول السيناريوهات الوقائية التي تأمل بنجاة النوع البشري وبقائه حياً أفكاراً متعددة: منها ما يتعلق بمعاهدات الحد من أسلحة الإبادة الشاملة ومنع الحروب، ومنها ما رأى ضرورة التفكير بجدية في الارتحال إلى كواكب أخرى غير الأرض واستيطان البشر لها بعد إعادة تأهيلها وإصلاحها. وفيما تجعل لاعقلانية السلوك البشري من الفكرة الأولى عبثاً أو حلماً، تغدو الثانية منهما أكثر مدعاة للتفكير والتخطيط الجدي.
بدأت مثل هذه الأفكار في وقت غير بعيد بقدر بدايات القرن العشرين بصورة روايات خيال علمي تتحدث عن السفر بين الكواكب باستخدام الصواريخ والسفن الفضائية. لكن الطرح العلمي لم يتأخر بدوره عن تناول الموضوع أيضاً، وذلك بسبب مجيء عصر الطيران وتحليق الطائرات والصواريخ الأولى، وأيضاً لتطور علم الفلك وأرصاده للكواكب والأقمار الأخرى.
الرؤى الأولى
لعل العالم الروسي الكبير قسطنطين تسيولكوفسكي (1935-1857) كان أول من تناول موضوع السفر إلى الكواكب الأخرى وتحدث عنه في أفكاره ومؤلفاته الكثيرة، بل إن بعض العلماء يعتبره أول من تناول هذا الأمر بجد وإمكان تحقيقه. وكان للعالم تسيولكوفسكي إبداعات مذهلة بتصميم وتطوير محركات الصواريخ الفضائية التي لم يقدّرها أحد في حينه.
أما العالم السويسري فريتز زفيكي Fritz Zwicky (1974-1898) فقد مضى في الموضوع ذاته أبعد من ذلك بأفكاره الجريئة التي تحدثت عن تأهيل الكواكب الأخرى في النظام الشمسي وتحسين بيئتها لكي تصبح ملائمة لحياة الإنسان عليها. كما طرح أفكاراً أبعد وأغرب تحدثت عن تحريك، أو نقل، كواكب النظام الشمسي من مكانها حول الشمس ووضعها قرب نجم آخر قبل أن ينتهي عمر شمسنا.
وتناول عالم الفلك الأمريكي كارل ساغان (1996-1934) الفكرة ذاتها أيضاً، وتقدم باقتراح تأهيل وإعداد كوكب الزهرة ليصبح مناسباً للحياة البشرية؛ ودرس الروايات والأقوال التي تحدثت عن زيارات معاكسة قامت بها كائنات من حضارات كونية أخرى إلى كوكب الأرض، وافترض احتمال وجود أشكال حية من نوع ما على كواكب أخرى، وشجع وكالة ناسا على البحث عنها هناك. ومما يحسب للراحل ساغان، من جهة أخرى، هو وعيه كعالم بخطر الإبادة التي مثلتها أسلحة الدمار الشامل والتجارب النووية، والتي كثيراً ما اعترض عليها وناهضها وحذر منها وعمل على رفع الوعي البشري تجاهها.
أما العالم ستيفن هوكنغ (2018-1942)، فقد عبّر أيضاً عن أفكاره بضرورة الارتحال في الفضاء من أجل تجنب خطر الانقراض على الأرض. وكان كثيراً ما يتساءل عن كيفية نجاة البشرية أو استمرار بقائها لقرن واحد قادم في ضوء الخراب والحروب والفوضى الهائلة التي يحدثها الإنسان في بيئته.
أخطار بشرية وكونية
للأسف، فإن الصورة التي نراها حاليا للواقع البيئي الحالي والقريب مستقبلاً للأرض لا تسر أحداً. من جهة أخرى، تذكر وكالات الفضاء العالمية بين حين وآخر خبر رصدها لجرم، أو كويكب من حجم ما، يعبر في الفضاء من مسافة قريبة نسبياً من كوكب الأرض، كانت في بعض المرات أقرب من قمرنا؛ وهو ما يدل على الخطر الكبير الذي تمثله على الأرض هذه الأجرام الشاردة في الفضاء. وعلى الرغم من أن عددها قرب أرضنا ليس كثيراً أو معروفاً بدقة، لكنه يذكّرنا بذعر بالغ بحادثة الاصطدام النيزكي الكارثي الذي حصل قبل نحو 65 مليون عام، وأتى حينها على معظم الأنواع الحية على سطح الأرض، خاصة كبيرة الحجم منها.
وإذا أضفنا عامل زيادة أعداد البشر وتراجع موارد الغذاء ومياه الشرب، سنرى أنه يصبح لدينا من الأسباب ما يدفع فعلاً إلى جدية التفكير العلمي بموضوع استيطان الفضاء. ولهذا نرى وكالة الفضاء الأمريكية ناسا، على سبيل المثال، التي هي صاحبة الموازنة المالية الأكبر بين جميع وكالات الفضاء العالمية، أطلقت عدة دراسات ومؤتمرات علمية للبحث في إمكانات تأهيل بيئة بعض الكواكب والأقمار في النظام الشمسي. ومثل هذا المشروع الخارق، سيكون خارقاً أيضاً للموازنات المالية لجميع وكالات الفضاء العالمية. ويكفي أن نذكر ــ للمقارنة فقط ــ أن مشروع بناء محطة الفضاء الدولية، وهي التي تحلق في مدار أرضي قريب واحتفظت بوجود بشري دائم عليها منذ بدء عملها في المدار، قد التهم موازنة مالية فلكية بلغت أكثر من 150 بليون دولار، إضافة إلى نفقات تشغيلها المستمر حتى عام 2024 أو 2025، لتكون بذلك أغلى آلة صنعها الإنسان حتى الآن. من ذلك ربما يبدو عامل التكلفة وحده لمشروع استيطان الفضاء أو تأهيل كواكب أخرى محبطاً للبعض، على الرغم من علمنا وقناعتنا أن بقاء الإنسان يظل هو الأغلى والأهم بالطبع. لكن هل يستطيع الإنسان فعلاً أن يغادر عرينه الأرضي ويستوطن الفضاء؟ وهل تملك دولة مفردة، أياً كانت، أو حتى عدة دول مجتمعة، قدرة إنجاز مشروع مثل هذا؟ الإجابة الواضحة والسريعة هي لا على الأغلب. فمشروع كهذا بحاجة إلى دراسات كثيرة وإعداد كبير وتضافر جهود معظم دول العالم أو جميعها دون استثناء. سيكون من الضروري على جميع بلاد العالم أخذ الموضوع على محمل الجد ودراسته بإمعان، والتشارك تالياً في إطلاقه والالتزام بإنجاحه، فالخطر ماثل أمامنا، وقد يكون أقرب زمناً مما نتوقع.
استيطان الفضاء.. ومبادرة عربية
في سعيها إلى مواكبة التطور العلمي العالمي، والإسهام الفعّال في علوم استكشاف الفضاء وريادته، أطلقت الإمارات مبادرة نوعية في موضوع استيطان الفضاء لتكون الأولى عربياً بهذا الصدد. ففي فبراير عام 2018، وأثناء عقد أعمال (منتدى استيطان الفضاء) في دبي، أعلن عن إطلاق مبادرة (تحدي محمد بن راشد لاستيطان الفضاء) التي هدفت إلى دعم الأبحاث والدراسات ذات الصلة، من خلال إرساء منصة علمية عالمية لرعاية أبحاث جادة عن شؤون استيطان الفضاء وتمويلها، وتشجيع العلماء والمبدعين على إنتاج وإطلاق أفكارهم وإنجاح تجاربهم وتطبيقاتهم وتحويلها إلى حقيقة، بما يفضي مستقبلاً إلى إنشاء أولى البيئات الفضائية الملائمة لحياة الجماعات البشرية التي ستستوطنها. وسترعى تلك المبادرة دراسات تتعلق ببحث فرص وإمكانات تأهيل بيئات بعض الكواكب والأقمار بغية استيطانها بشرياً، ودراسة الفوائد المترتبة من هذه الأبحاث وتطبيقها على بيئة كوكب الأرض.
إن تأهيل كواكب وأقمار أخرى في النظام الشمسي وإعدادها لتصبح ملائمة لحياة البشر عليها واستيطانها لاحقاً قبل أن نرى أرضنا وقد فقدت ظروفها الحياتية الملائمة لنا، سيكون مشروعا عابراً ــ من حيث التكاليف ــ لموازنات معظم دول العالم، وسيكون عابراً أيضا لأجيال عديدة من البشر، وأجيال من العلماء والفنيين الذين سيكون عليهم إبداع تقانات جديدة وحلول فنية مبتكرة للتغلب على صعوبات هائلة. كما سيكون عليهم أن يبدعوا في خفض تكاليف المشروع ليصبح حقيقة واقعة يمكن لها أن تنقذ البشر فعلاً.
فالخيارات أمامنا ليست كثيرة، تماماً مثلما هو وقتنا.