استكشاف المحيطات.. جهود رائدة وآفاق واعدة
م. محمد عبدالقادر الفقي
على الرغم من أن محاولات الإنسان استكشاف أعماق البحار والمحيطات تعود إلى ما قبل مرحلة تدوين التاريخ البشري بقرون طوال، فإن المتتبع للإنجازات البشرية في هذا المضمار يجد أنه في غضون العقود الثلاثة الماضية فقط مكّنت الأدوات والتقنيات الجديدة العلماء من التعرف إلى مناطق عدة من أعماق المحيطات لم تكتشف من قبل. ومثل هذه الاكتشافات الجديدة ليست دائما مثيرة فقط، بل إنها تساهم في توفير كمٍّ كبير من المعلومات عن أعماق البحار والمحيطات، وما تحويه من مجموعات متنوعة من الأحياء المائية التي تستوطن الموائل القاعية، كما أنها تميط اللثام عن أنواع جديدة من الكائنات البحرية التي يمكن أن توفر أدوية مهمة وغيرها من المنتجات المفيدة، حيث تشتمل أعماق البحار والمحيطات على بعض النظم الإيكولوجية التي تتضمن كائنات حية يمكن استخدامها في توفير الطعام للإنسان. وتساهم المعلومات التي يتم الحصول عليها من أعمال التنقيب التي تجرى في أعماق البحار والمحيطات في مساعدة العلماء على التنبؤ بالزلازل وأمواج المد البحري (التسونامي tsunamis).
إن المتتبع لتاريخ الاستكشافات البحرية يجد أنه خلال الحملات التي نظمتها الجهات العلمية لسبر أغوار البحار والمحيطات، لاسيما في السنوات القليلة الماضية، جرى اكتشاف المئات من الأنواع الجديدة من الأحياء البحرية، والتعرف إلى العديد من النظم الإيكولوجية الجديدة أيضاً، إلا أنه على الرغم من ذلك، ومن التقدم الكبير الذي أحرز في هذا المضمار، فإن قيعان البحار والمحيطات ما تزال تحمل الكثير من الأسرار والعجائب التي يتعين على الإنسان اكتشافها لمعرفة كنهها.
ومن العجيب أنَّ ما نعلمه حالياً عن المريخ يفوق ما نعلمه عن %75 من السطح الواقع تحت سطح البحر لكوكبنا. وقد دفع ذلك العديد من معاهد الأبحاث البحرية والمراكز المعنية بالدراسات الأوقيانوغرافية إلى بذل المزيد من الجهد لارتياد المناطق المجهولة من أعماق البحار والمحيطات، واختراع العديد من أجهزة الرصد والمسح البحري.
استكشاف البحار قديماً
تعرّف الإنسان إلى الأمواج والتيارات البحرية للمحيطات في عصور ما قبل التاريخ. وسجّلت الشعوب القديمة (كالفراعنة والفينيقيين) على جدران معابدها وحصونها وقلاعها معارفها البحرية التي تدل على إلمامها بكثير من السمات والخصائص الأوقيانوغرافية للبحرين الأحمر والأبيض والمحيطين الهندي والأطلسي. وقد خرجت من مصر أول بعثة للكشف الأوقيانوغرافي، وهي بعثة أرسلتها الملكة حتشبسوت (من ملوك الأسرة الثامنة عشرة) لاكتشاف المنطقة الجنوبية للبحر الأحمر وبلاد الصومال. وقد دونت أخبار هذه الرحلة بالنقوش على جدران معبد الدير البحري. كما أن الملك نخاو (600 ق. م) أرسل أسطوله البحري انطلاقاً من البحر الأحمر ليدور حول إفريقيا ثم ليعبر أعمدة هرقل (جبل طارق) متجهاً إلى مصب النيل مرة أخرى. وبذلك تم اكتشاف المحيط الهندي وجنوب المحيط الأطلسي. وقد وصف هيرودوت (450 ق. م) أخبار هذه الرحلة.
ويرجح بعض الكتاب أنَّ الفينيقيين نجحوا في عبور مضيق جبل طارق والوصول إلى الساحل الشرقي للبرازيل. ويعدّ أرسطو (322 – 382 ق. م) أول من درس علوم البحار البيولوجية، حيث قام بتسجيل ملاحظات عديدة عن مجموعات متنوعة من حيوانات البحر وكائناته المختلفة. كما لاحظ الفرق بين خصائص المياه البحرية والمياه العذبة. وربط بيثياس Pytheas بين ظاهرة المد والجزر وحركة القمر. ونجد في كتابات كل من أرسطو وسترابو Strabo ملاحظات علمية حول الظاهرة نفسها. وقد برع العرب في ركوب البحر ودراسة الأنواء والعواصف البحرية، ولمع من ملاحيهم: أحمد بن ماجد النجدي الذي عاش في القرن الخامس عشر الميلادي وكان خبيراً بأسرار الملاحة في المحيط الهندي وفي البحار المعروفة آنذاك.
الاكتشافات المعاصرة
بدأت أعمال استكشاف المحيطات في العصر الحديث بهدف رسم الخرائط البحرية في المقام الأول. وكانت تلك الأعمال محدودة ومقصورة بشكل رئيسي على الطبقات السطحية للبحار والمحيطات. وفي الوقت نفسه، كان العلماء يتعرّفون إلى بعض أنواع المخلوقات البحرية التي تستوطن الموائل القاعية من خلال ما تجلبه شباك الصيادين معها. أما التعرّف إلى عمق أي منطقة بحرية فكان يتم من خلال سبر القاع عن طريق تدلية خيط من الرصاص.
وعلى الرغم من أن خوان بونس دي ليون هو أول من تعرّف إلى تيار الخليج Gulf Stream في عام 1513، فإن بنيامين فرانكلين هو أول من أجرى دراسة علمية حول ذلك التيار، وهو أول من أطلق عليه هذا الاسم. وكان فرانكلين قد قاس درجات حرارة المياه مرات عدة في أثناء عبوره للمحيط الأطلسي، مما مكّنه من التعرّف بشكل صحيح إلى تيار الخليج. وعلى يدي فرانكلين وتيموثي فولجر طُبِعَت أولى الخرائط البحرية لذلك التيار في 1769 – 1770.
وعلى الرغم من الجهود السابقة كلها، فإنه يمكن القول إن التاريخ المعاصر لاستكشاف البحار والمحيطات يعود إلى عام 1725 تحديداً، حيث قام لويجي فرناندو مرسيـلي الإيطالي (1658 – 1730) بأولى الدراسات العلمية عن خليج مرسيليا، فقد قاس عمق الخليج، ورصد درجات الحرارة والملوحة في طبقاته المختلفة، وتعرّف إلى طبيعة قاعه باستعمال الشباك والجرافات. وقد دوّن مرسيـلي نتائج قياساته وأرصاده في كتاب سماه: (التاريخ الطبيعي للبحر Histoire Physique de la Mer). ولهذا، فإن مؤرخي العلوم يطلقون عليه لقب: الأب المؤسس لعلم المحيطات الحديثة.
وعندما قام كل من لويس أنطوان دي بوجانفيل برحلاته البحرية بين عامي 1766 و1769، وجيمس كوك برحلته البحرية بين عامي 1768 – 1779 لاستكشاف جنوب المحيط الهادي، كانت المعلومات التي دوّناها عن هذا المحيط جزءاً مهمّاً من تقاريرهما.
الغواصة الأولى
ولعل أهم الاختراعات العلمية المتعلقة باستكشاف قيعان البحار والمحيطات في القرن الثامن عشر الميلادي هو ما قام به العلّامة الإنكليزي لثبريدج، فقد صمم ما يمكن أن نسميه بالنموذج الأولي prototype للغواصة، وهي عبارة عن حجرة صغيرة مانعة للتسرب، فيها فتحة زجاجية للنظر وفتحتان لإخراج اليدين منهما، ويتم إنزال هذه الحجرة بحبل إلى قاع البحر في الموقع المطلوب استطلاع ما فيه.
وقد ألّف جيمس رينيل أول كتاب علمي حول التيارات البحرية في المحيطين الأطلسي والهندي في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر الميلاديين. وقام السير جيمس كلارك روس بأول عملية سبر في أعماق البحار في عام 1840.
وفي القرن التاسع عشر، اخترعت بدلة غوص ثقيلة، وخوذة مصنوعة من الرصاص، يتم وصلها بأنبوب مطاطي لتزويد الغواص بالهواء من السطح. وبعد ذلك، تم تطوير تلك البدلة، وإضافة تعديلات عليها لتضمن سلامة الغواص تحت الماء بشكل أفضل.
وخلال ذلك القرن أيضاً، اكتشف مرض انخفاض الضغط نتيجة ذوبان غاز النيتروجين في دم الغواصين. وما كاد هذا القرن يوشك على الانتهاء حتى تم اختراع جهاز التنفس الذاتي تحت الماء، من خلال ضغط الهواء في أسطوانة خفيفة الوزن يحملها الغواص على ظهره، وبها جهاز ينظم استهلاك الغواص للهواء.
رحلات السفينة بيغل
تُعدّ السفينة الشراعية (بيغل Beagle)، التابعة للأسطول البحري الملكي البريطاني، إحدى أهم سفن الأبحاث العلمية التي شاركت في استكشاف المحيطات، حيث نفذت ثلاث رحلات علمية خلال الفترة من 1826 إلى 1843. وقد اكتسبت تلك السفينة شهرتها التاريخية بسبب وجود عالم التاريخ الطبيعي تشارلز داروين على متنها في رحلة المسح البحري الثانية لها.
وكانت السفينة (بيغل) قد بدأت رحلتها العلمية الأولى من بليموث في 22 مايو 1826، تحت قيادة الكابتن برينغل ستوكس، حيث رافقت سفينة الأبحاث الكبرى أدفنشر في أعمال المسح الهدروغرافي التي تمت لكل من باتاغونيا وتييرا ديل فويغو ومضيق ماجلان ومونتيفيديو.
وخلال أعمال المسح البحري التي نفذتها السفينة بيغل في تلك الرحلة، تم التعرف إلى القناة البحرية التي أطلق عليها اسم السفينة نفسها.
وخلال رحلتها الثانية (1831 – 1836) تم تزويد السفينة بيغل بأجهزة قياس جديدة مثل الكرونومترات والسيمبيسومترات (وهي نوع من البارومترات الخالية من الزئبق). وأسهمت هذه الأجهزة في الحصول على قراءات وقياسات دقيقة. وأجرت السفينة أعمال مسح بحري ودراسات استقصائية واسعة النطاق في المناطق البحرية لأمريكا الجنوبية، ثم اتجهت إلى المناطق البحرية لنيوزيلندا وأستراليا قبل أن تعود في نهاية المطاف إلى بريطانيا.
وفي أثناء تلك الرحلة سجل داروين مذكراته وتجاربه وملاحظاته، ونُشِر ذلك في عام 1839 ضمن السجل العلمي للنتائج التي تمخضت عنها تلك الرحلة. كما نشر داروين بحثاً علمياً عن الشعاب المرجانية وتشكيل الجزر المرجانية.
وفي رحلتها الثالثة (1837 – 1843) أجرت السفينة بيغل مسوحاً بحرية لأجزاء كبيرة من السواحل الغربية للقارة الأسترالية، ولضفتي مضيق باس في الركن الجنوبي الشرقي من هذه القارة. وقد نشر روبرت فيتزروي تقريراً علمياً في أربعة مجلدات عن الرحلات الثلاث للسفينة بيغل، تضمّن معلومات مهمة ذات صلة باستكشاف البحار والمحيطات.
وتتابعت جهود الاستكشاف بعد ذلك بخطى متواترة؛ ففي عام 1841 – 1842 قام إدوارد فـوربس بإجراء عملية تجريف وحفر في قاع بحر إيجه، وهو الأمر الذي كان لنتائجه أثر ملموس في تأسيس علم الإيكولوجيا البحرية.
وخلال الفترة الممتدة من 1842 حتى 1861، شغل ماثيو فونتين موري منصب أول مشرف على المرصد البحري للولايات المتحدة، وقد كرّس هذا العلّامة وقته لدراسة الأرصاد الجوية البحرية، والملاحة، ورسم الرياح والتيارات السائدة في المحيط. ويُعدّ كتابه الموسوم: (الجغرافيا الفيزيائية للبحر Physical Geography of the Sea)، الذي نشره في عام 1855، أول كتاب عن علوم المحيطات. وفي عام 1849 اكتشف أول منحدر حاد steep slope في المحيط وراء منطقة الجرف القاري.
رحلات السفينة تشالنجر
في عام 1871 أوصت الجمعية الملكية في لندن بأن تقوم الحكومة البريطانية برعاية رحلة علمية لاستكشاف محيطات العالم. وبناء على ذلك، نُظِّمت رحلات سفينة الأبحاث تشالنجر في الفترة من عام 1872 – 1876. وقد ساهمت النتائج – التي تمخضت عنها هذه الرحلات – في تغيير معلوماتنا وتصوراتنا عن أعماق المحيطات. وقد رعى هذه الرحلات وقتذاك الاسكتلنديان تشارلز ويفيل طومسون والسير جون موراي. وتمكّنت تلك السفينة من جمع العديد من المعلومات المفيدة عن المحيطات، حيث كانت تتوقف كل مئتي ميل للحصول على نتائج القياسات التي تجريها، وتدوين الملاحظات التي تلفت انتباه الفريق العلمي الموجود على متنها.
وفي كل محطة كانت تتوقف فيها السفينة، كان يتم قياس كل من عمق قاع المحيط ودرجة حرارة المياه في أعماق مختلفة، وذلك بالاستعانة بحبل مربوط في طرفه أجهزة السبر والقياس. وكان يتم جمع عينات من المياه، وكذلك جرف القاع للحصول على عينات من الصخور ومن الأحياء البحرية الموجودة في الأعماق.
وكانت نتائج هذه الرحلات مذهلة، حتى إنها دُوِّنت في 50 مجلداً، وغطّت جوانب بيولوجية وفيزيائية وجيولوجية عن المحيطات. وأثبتت هذه الرحلات أن الرواسب الموجودة في قيعان المحيطات تفتقر إلى التنوع، مقارنة بمثيلاتها على اليابسة. وقد قام السير جون موراي بتصنيف الرواسب البحرية إلى نوعين فقط، هما: رواسب كيميائية chemical precipitates، وتراكمات لبقايا عضوية organic remains. وأثبتت أبحاث بعثة تشالنجر أيضاً أنَّ الماء الموجود في بحار ومحيطات الأرض ينقسم إلى عدد من الكتل المتجاورة أفقياً ورأسياً، وأن التغيرات الرأسية في صفات مياه البحار والمحيطات أسرع من التغيرات الأفقية.
اكتشافات مدهشة
من المثير للدهشة أن العلماء الذين كانوا على متن السفينة تشالنجر اكتشفوا أن منتصفات المحيطات ليست هي أعمق المواضع في تلك المحيطات. وكان الاعتقاد السائد قديماً أن منتصف أي محيط هو أعمق نقطة فيه. وقد تم الاستدلال على وجود حيود جبلية تحت المحيط الأطلسي للمرة الأولى على يد ماثيو فونتين موري في عام 1850.
وبعد ذلك، اكتشف فريق من العلماء المشاركين في رحلة تشالنجر في عام 1872 وجود ارتفاع كبير (قمة جبلية) في منتصف المحيط الأطلسي. وكان تسجيل هذا الاكتشاف هو أولى الإشارات العلمية إلى ما يعرف باسم نظام حيود جبلية منتصف المحيط mid-ocean ridge، وهي عبارة عن سلسلة من الجبال البركانية تتكون نتيجة ارتفاع الحمم من باطن الأرض في مناطق النشاطات البركانية في المحيطات. وتأكّد وجود هذه القمم الجبلية من خلال أجهزة الموجات فوق الصوتية عام 1925، وقد اكتشفت بعثة علمية ألمانية أنها تمتد حول رأس الرجاء الصالح إلى المحيط الهندي.
وفي خمسينيات القرن العشرين، أظهرت خرائط رُسمت لقيعان المحيطات أن منتصف الأطلسي يحتوي على أودية وقمم جبلية، وأن الوادي الرئيسي نشيط زلزاليا. وتبين أن القمم الجبلية هي جزء من نظام طوله 50 ألف كيلومتر، ويشمل محيطات العالم كلها. وقد أدى اكتشاف نظام الحيود الجبلية العالمي هذا إلى ظهور نظرية تمدد قاع البحار، والقبول العام لنظرية الانجراف القاري.
ما بعد تشالنجر
كان من أبرز نتائج بعثة السفينة (تشالنجر) أن أصبحت رحلاتها الثلاث السابقة هي النموذج الأمثل لكل رحلات الاستكشاف البحري التي تم القيام بها في الخمسين عاما التالية. وقد دفع النجاح الذي حققته تلك السفينة دولاً أوروبية وأمريكية أخرى لإرسال بعثات علمية مماثلة لاستكشاف المحيطات. وسعت بعض المؤسسات والهيئات العريقة المعنية بالأبحاث العلمية إلى توفير التمويل اللازم للقيام بزيارات خاصة إلى أمكنة لم تصل إليها أي أجهزة للاستكشاف البحري من قبل. وفعل مثل ذلك أفراد ومؤسسات خاصة أيضاً. كما نشطت عمليات بناء سفن البحث العلمي. فعلى سبيل المثال، تم في عام 1882 بناء ألباتروس باعتبارها سفينة متخصصة في دراسة علوم المحيطات. وفي الوقت نفسه، دخلت عمليات استكشاف المحيطات مرحلة جديدة تتسم بروح المغامرة أو المخاطرة. ومن ذلك أنه في عام 1893 ترك فريدجوف نانسن سفينته (فرام Fram) لتتجمد في جليد القطب الشمالي. ونتيجة لذلك استطاع الحصول على معلومات أوقيانوغرافية مهمة.
معاهد متخصصة
مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بدأت الدول الكبرى تعنى بتأسيس معاهد متخصصة في دراسة علوم المحيطات. ففي الولايات المتحدة الأمريكية – على سبيل المثال – تم تأسيس معهد سكريبس لعلوم المحيطات في عام 1892، ومؤسسة وودز هول لعلوم المحيطات في عام 1930، ومعهد فيرجينيا لعلوم البحار في عام 1938، وكلية علوم البحار في جامعة واشنطن. وفي بريطانيا، شهدت مدينة ساوثامبتون إنشاء المركز الوطني لعلوم البحار، أما في أستراليا فقد أنشئ مركز CSIRO للبحوث البحرية والغلاف الجوي، المعروف باسم سمار CMAR.
وعلى المستوى العالمي، أنشئت أول منظمة دولية لعلوم المحيطات باسم المجلس الدولي لاستكشاف المحيطات في عام 1902. وفي عام 1921 أنشئ المكتب الهدروغرافي الدولي في موناكو. وفي تلك الفترة ازداد الاهتمام برعاية مشروعات كبرى لدراسة البحار والمحيطات. فعلى سبيل المثال، حدث في عام 1910 أن ترأّس السير جون موراي ويوهان جورت أعظم مشروع بحري وقتذاك لدراسة المحيطات وأحيائها البحرية في منطقة شمالي الأطلسي، وهو المشروع الذي نجم عنه تأليف كتاب (أعماق المحيط The Depths of the Ocean) الذي نُشِر في عام 1912.
تقنيات جديدة
أجريت أولى عمليات القياس باستخدام الموجات الصوتية لسبر عمق البحار في عام 1914. وخلال الفترة الواقعة بين عامي 1925 و 1927 أجرت البعثة البحرية (ميتيور Meteor) نحو 70 ألف عملية قياس لأعماق المحيطات باستخدام السونار، وذلك في أثناء قيامها بمسح بحري للحيود الجبلية الموجودة في منتصف المحيط الأطسي. وفي عام 1930 قام العالم تشارلز ويليام بيب بتصميم الكرة الغاطسة Bathysphere، التي تم استعمالها في سبر المحيطات حتى أعماق تجاوزت ألف متر. وقد أعقب ذلك إنشاء ما يعرف اليوم بغواصة الأعماق.
وأسهم التطور في تقنيات استكشاف النفط في المناطق المغمورة في دراسة قيعان البحار والمحيطات. وساعدت طرق البحث الجيوفيزيائي باستخدام المسح الزلزالي على معرفة التراكيب الجيولوجية العميقة للمُهُد البحرية sea beds، وتحديد سمك الرسوبيات القاعية.
وجاءت طريقة السبر بالأمواج فوق الصوتية لتسهل معرفة تركيبة قيعان أعماق البحار والمحيطات، وجهزت المراكب المخصصة للقياسات بهذه الأجهزة. وبذلك تمت معرفة طوبوغرافية هذه القيعان بدقة. وساهم التطور في تقنيات التصوير تحت الماء والتلفزة في دراسة الأعماق، بإعطاء صورة حية مرئية عن وضع الموائل القاعية وما تحويه من أحياء.
وفي عام 1939 كلّف معهد كارنيجي الدكتور تشارلز س. بيغوت بمهمة استكشاف قاع البحر، بحثاً عن رواسب الراديوم في أعماق المحيط. ولتنفيذ هذه المهمة استخدمت سفينة مد الكابلات البحرية، المعروفة باسم اللورد كلفن في جمع عينات من قاع المحيط بطول عدة أميال، تمهيداً لتحليلها بحثاً عن هذا العنصر المشع.
مزيد من الاكتشافات
عاماً بعد عام، ومع التطور الكبير في أجهزة الملاحظة والرصد والقياس، تتابعت الاكتشافات البحرية بمختلف أنواعها. ففي عام 1953، اكتشف كل من موريس إوينغ وبروس هيزين الصدع العالمي العظيم، الممتد بحذاء الحيود الجبلية في منتصف المحيط الأطسي. وفي عام 1954 اكتشف المعهد السوفييتي لأبحاث القطب الشمالي سلسلة من الجبال تحت جليد القطب الشمالي. وفي عقد الخمسينيات أيضاً، اخترع أوغست بيكارد غواصة الأعماق (تريست Trieste) لفحص أعماق المحيطات. وفي عام 1960، وضع هاري هاموند هيس النظرية الخاصة بتمدد قاع البحر. وفي عام 1962 قامت الغواصة النووية نوتيلوس برحلتها الأولى تحت جليد القطب الشمالي.
وفي عام 1966، بدأ العمل في مشروع حفر المحيط، وفي العام نفسه أيضاً قام الكونغرس الأمريكي بإنشاء المجلس الوطني للموارد البحرية والتنمية الهندسية. وتم تكليف الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA) بمهام استكشاف ودراسة جميع الجوانب المتعلقة بعلوم المحيطات في الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي عام 1967 استخدم علماء الأحياء البحرية للمرة الأولى مزلجة الأعماق، وهي أداة لجمع العينات البحرية تشبه المغرفة. وقد احتوت عينات أعماق البحر، التي تم جمعها بهذه الآلة، على عدد من الحيوانات يفوق بكثير ما هو موجود في العينات التي جمعت من المياه الضحلة. وأعطى هذا الاكتشاف العلماء فكرة أكثر دقة عن التنوع الواسع للحياة الإيكولوجية في قاع المحيط. وخلال عقد السبعينيات من القرن العشرين، ازداد التركيز على استخدام الحواسيب على نطاق واسع في الدراسات الأوقيانوغرافية حتى يمكن التنبؤ بأحوال المحيطات والتغيرات البيئية.
وفي عام 1985، استخدم العلماء غواصتين غير مأهولتين، أمريكية (أرغو) وفرنسية (سار)، للبحث عن حطام سفينة التيتانك، وهي باخرة ركاب إنكليزية من عابرات المحيط، كانت قد غرقت عام 1912 في المحيط الأطلسي.
وفي عام 1989، أرسل معهد إفريمير لعلوم البحار في بلوزان بفرنسا بعثة علمية لجمع عينات من الوشاح الأعلى للأرض (وهو يمثل الطبقة الواقعة مباشرة تحت القشرة الأرضية) من قاع المحيط الأطلسي، وذلك من موقع يوجد عند صدع تحوّل يقع على بعد 10 درجات شمال خط الاستواء. وقد قام أعضاء البعثة بالهبوط أكثر من خمسة كيلومترات إلى قاع المحيط باستخدام الغواصة نوتيل Nautile لاستكشاف جدران صدع التحول. وتبين وجود بيريدوتيت الوشاح، بعد أن استخدمت الذراع الميكانيكية للغواصة في التقاط عينات من الموقع. كما تم اكتشاف طبقة من صخور الغابرو gabbros، وهي صخور تتكون تحت قاع المحيط، وتعدُّ المكون الأساسي للجزء السفلي من القشرة المحيطية. وفي عام 1995، أصبحت البيانات – التي وفرها القمر الصنعي (جيوسات Geosat) – حول خرائط قاع البحر، متاحة للباحثين.
تطوير سفن البحث
مقارنة بسفينتي البحث (بيغل) و(تشالنجر) وغيرهما من سفن البحث العلمي التي سبقت الإشارة إليها، فإن السفن المستخدمة حاليا في استكشاف البحار والمحيطات تتميز بتطورها التقني الكبير، ودقة أجهزة القياس والرصد وجمع العينات الموجودة بها. كما تتسم بقدراتها على العمل في ظروف بحرية ومناخية قاسية وفي مواقع بعيدة. وهي تتضمن مختبرات متخصصة تمكّن الباحثين والعلماء من العمل فيها لعدة أسابيع أو أشهر في الرحلة الواحدة. كما تتضمن أنواعًا عديدة من الآلات والأجهزة، مثل كاميرات التصوير تحت الماء التي تمكّن علماء البحار من تصوير قاع البحر، وأجهزة الرصد الإلكترونية التي تعتمد على إرسال موجات صوتية وتسجيل صداها وسرعتها وما يعتريها من انعكاسات وانكسارات، حتى يمكن الاستفادة من تلك البيانات في التعرّف إلى تركيب قيعان المحيطات والطبقات الجيولوجية التي تستقر عليها.
وتحتوي سفن البحث العلمي البحرية الحديثة أيضاً على أجهزة خاصة لتجميع العينات (من ماء البحر، والرسوبيات القاعية، والأحياء البحرية) من أعماق مختلفة، وقياس درجات الحرارة والملوحة، وبعض الخصائص الأخرى. وثمة أجهزة للتعرف إلى اتجاه تيارات المحيط وسرعتها عند أعماق مختلفة. كما يحوي بعضها أجهزة ومعدات لحفر قاع المحيط حتى أعماق بعيدة. ويمكن لأجهزة الحفر الموجودة فيها أن تنتزع عينات لبية من الرواسب والصخور القاعية. وتزود هذه العينات العلماء بمعلومات مهمة عن العمر الجيولوجي لقاع المحيط وتركيبه المعدني وتطوره أو نشأته.
العوامات البحرية
وهي عبارة عن أجهزة تطفو فوق سطح البحر، وتنجرف مع تيارات المحيط السطحية. وهي تقوم بقياس ورصد وجمع بيانات خاصة عن دوران مياه المحيط.
كما تسجل ضغط الهواء، أو درجات حرارة المياه السطحية. وتنقل هذه البيانات إلى العلماء عبر الأقمار الصنعية الحائمة في الفضاء.
غواصات الأبحاث
وهي عبارة عن وسائط انتقال يمكنها أن تنزل إلى أعماق المحيطات، وترصد ما فيها، ومن ثم تُمَكِّن العلماء من مشاهدة معالم قاعية قد تغفل رصدها الأجهزة الأخرى التي يُجرى إدلاؤها من سطح سفن الأبحاث. وهي تنقسم إلى فئتين رئيسيتين: مأهولة وغير مأهولة.
ومن أبرز غواصات الفئة الأولى: الغواصة الأمريكية المعروفة باسم (ألفن Alvin). ويقوم طاقم البحارة بعمليات التصوير، وإرسال ذراع ميكانيكية خارج المركبة لجمع العينات، ونصب أجهزة خارج المركبة. وقد تحمل هذه الغواصات غواصين، حيث يخرجون منها لدراسة بيئة أعماق المحيط مباشرة. أما غواصات الفئة الثانية، أي التي لا تحمل طاقمًا من البحارة، فتحتوي على آلات تصوير تلفازية يتم التحكم في تشغيلها من سفينة الأبحاث التي تكون على سطح البحر.
دور الأقمار الصنعية
في السنوات الأخيرة، أصبح علماء المحيطات يعتمدون بدرجة كبيرة على الأقمار الصنعية (السواتل) التي تزودهم بقدر كبير من المعلومات في زمن أكثر سرعة مما تفعله سفن الأبحاث البحرية. وتقوم هذه الأقمار بنقل البيانات التي يتم قياسها ورصدها من العوامات وأجهزة الرصد الموضوعة في مياه المحيط إلى العاملين في مراكز الأبحاث البحرية المقامة على الشواطئ. وتوفر هذه الأقمار فكرة عامة عن المساحات الشاسعة للمحيط من مواقعها المرتفعة فوق الأرض. ويمكنها أن تُستخدم أيضاً في رسم خرائط توضح توزيع درجات الحرارة ولون سطح المحيط، وهي بذلك تساعد العلماء على دراسة الاختلافات اليومية في مسارات تيارات المحيط وأنظمتها، وفي درجات حرارة المياه السطحية. ويستخدم علماء المحيطات الحواسيب لابتكار نماذج رياضية توضح حركة تلك التيارات. وهم يدرسون هذه النماذج لفهم سلوك مياه المحيطات والتنبؤ بتأثيراتها البيئية.