معرفة تاريخ العلم ومسيرته.. تكامل منطقي لتطور المعارف والعلوم
مراجعة تاريخ الأفكار العلمية، وتحديد مواطن الخطأ والصواب فيها، أمر لا بد منه حتى ينجح أي مشروع بحثي علمي معاصر
Dr. Sakir Basma Ji
باحث في تاريخ العلوم عند العرب – سورية
يهتم الكثير من الناس بثمار العلم والتقنية، لكن رجال العلم الحقيقيين يهتمون بالشجرة التي أفرزت هذه الثمار. فالثمرة بما تحويه من مكونات وعناصر مفيدة استمدت هذه العناصر من جذور شجرتها، والجذور استمدت العناصر التي تغذي بها نفسها من التربة والبيئة الصالحة لها.
وقصة الشجرة والثمرة التي نرويها تشبه إلى حد بعيد قصة العلم ومنجزاته. فلا يمكن لأي رجل علم يريد أن يطور في أبحاثه العلمية ويقدم معرفة جديدة في مجال ما دون العودة إلى تاريخ هذا المجال متسائلاً: أين بدأ؟ وما الأخطاء التي وقع فيها الآخرون؟ وأين وصل؟ وما الجديد الذي سأضيفه.
ليس الهدف من قولنا هذا هو تشجيع الجميع على أن يكونوا مؤرخين في مجال العلوم، وإنما الهدف لفت النظر إلى أهمية تتبع تاريخ الفكرة العلمية موضوع الدراسة ومتابعة مراحل تطورها في أي مجالٍ كان؛ لأن من شأن هذا الإجراء الأولي معرفة الكيفية التي تطور بها التفكير العلمي حول الفكرة نفسها، والكيفية التي جاءت بها النتائج التجريبية مطابقة أو معارضة للنظرية المطروحة. ويمكن توضح ذلك من خلال قصة نتتبع فيها هذا الأمر.
مسيرة ابن الهيثم
في القرن (4هـ/ 10م) قرر رجل علم عربي يتمتع بإمكانات ومؤهلات علمية تمكنه من إنجاز بمشروع علمي كبير، أن يُحدث ثورة في رؤيتنا للكون والطبيعة، لا تقل أبداً عن الثورة التي أحدثها من بعده نيوتن أو آينشتاين.
هذا الرجل هو الحسن بن الهيثم، الذي لولا أبحاثه وأعماله –كما قال المؤرخ الفرنسي لويس ماسينون- لتأخر تطور علم الضوء 500 سنة، ومن ثم لتخلفت المعرفة البشرية والبشرية 500 سنة عن الآن.
وأتخذ منه النموذج للعالم العربي القدوة أو النموذج المرشد، حتى نسترشد بمنهجيته، ونفهم لماذا وكيف أثّر في الفكر العربي والأوربي لأكثر من 1000 سنة. ونتساءل هل إنتاجنا العلمي حاليا قد يؤثر في الفكر والمعرفة البشرية 1000 سنة؟
صحيح أن المنافسة كبيرة والإمكانات تختلف من بلد إلى آخر ومن عالم إلى آخر حتى في البلد الواحد، بيد أن وجود الإرادة والاستعداد والقدرة لابد أن يصل بصاحبها إلى ما يصبو إليه.
نعود الآن ونتساءل: ماذا فعل الحسن بن الهيثم حتى تبوأ تلك المنزلة الرفيعة عند العلماء شرقاً وغرباً؟
سأتناول اثنين من أبرز أعماله ونرى الكيفية التي أسس لهما جيداً، وكيف أثر بهما لاحقاً في مسيرة العلم كلّه: الأول في مجال علم الفلك، والثاني في مجال علم الضوء.
إبداعات فلكية
عندما أراد ابن الهيثم البحث في علم الفلك كان أول شيء فعله – كرجل علم- هو أنه اطلع على كل ما وصل إليه من ترجمات وأعمال اليونانيين في مجال الضوء، بمعنى آخر بنى القاعدة العلمية والمعرفية التي سينطلق منها ويرتكز عليها، وكان من ثمرة بحثه الفلكي كتاب (الشكوك على بطلميوس)، الذي أراد من نشره أن يجسّ نبض المجتمع العلمي العربي حينها من ناحيتين:
- الأولى: أن يقول لهم إنني أشك في كل طروحات ونظريات هذا الرجل، وهو (أي بطلميوس) المرجع الأول في مجال الفلك خصوصاً في كتابه (المجسطي). ثم سينتظر الحسن بن الهيثم ويرى من سيرد عليه وينقد نقده.
- الثانية: أن يؤسس بذلك للمنهج الشكي العلمي الفكري الناقد، الذي سبق به المذهب الشكي لديكارت بنحو 700 سنة، ومن ثم تهيئة المجتمع العلمي لنظرياته البديلة التي سيقدمها كحل بديل لنظريات بطلميوس غير الصحيحة.
ولقد سارت الرياح كما تشتهي السفن، فقد قُبلت شكوك ابن الهيثم وتبين أنها منطقية. وكتاب (الشكوك على بطلميوس) هو كتاب في علم الفلك يرد فيه على آراء العالم بطلميوس عن مركزية الأرض، بمنهج علمي وأسلوب رائع وممتع جداً في السرد حتى لغير المهتمين بعلم الفلك.
وإذا اطلعنا على المقدمة نجده يقول فيها: إنّ ” الناظر في كتب العلماء إذا استرسل مع طبعه، وجعل غرضه فيهم ما ذكروه وغاية ما أوردوه، حصلت الحقائق عنده هي المعاني التي قصدوا لها والغايات التي أشاروا إليها، وما عمّ الله العلماء من الزلل ولا حمى علمهم من التقصير والخلل، ولو كان كذلك ما اختلف العلماء في شيء من العلوم ولا تفرقت آراؤهم في شيء من حقائق الأمور. والوجود بخلاف ذلك، فطالب الحق ليس هو الناظر في كتب المتقدمين، المسترسل مع طبعه في حسن الظن بهم، بل طالب الحق هو المتهم لظنه فيهم المتوقف فيما يفهمه عنهم المتبع الحجه والبرهان، لا أقول القائل الذي هو إنسان، المخصوص في جبلته بضروب الخلل والنقصان، والواجب على الناظر في كتب العلوم اذا كان غرضه معرفه الحقائق، أن يجعل نفسه خصماً لكل ما يتصل فيه، ويجيل فكره في متنه وحواشيه، ويخصمه من جميع جهاته ونواحيه، ويتهم أيضا نفسه عند خصمه، فلا يتحامل عليه ولا يتسمح فيه، فإنه إذا سلك هذه الطريقة انكشفت له الحقائق وظهر ما عساه وقع في كلام من تقدمه من التقصير والشبه.”
إذاً كان نقده في منتهى الأدب والعقل والمنطق، فهو يريد أن يصل إلى الحقيقة، فلم يستهدف الشخص وإنما نظرياته وأفكاره، وابتعد على المهاترات واللغط والغمز من قنوات الآخرين.
ماذا كانت نتيجة هذا الأمر؟ كانت التأسيس لفتح مشروع مستقبلي على مستوى كبير من الأهمية. وهذا ما تحقق فعلاً، مع مدرسة مراغة الفلكية، التي أسسها نصير الدين الطوسي في غرب إيران، وذلك سنة 1259م.
فقد وضع الطوسي مشروعاً لإصلاح فلك بطلميوس يسير فيه على خُطى ابن الهيثم. فكوّن مكتبة مختصة، واستقطب علماء مرموقين من مناطق أخرى. وأثمر عملهم في القرن الرابع عشر عمل هيئة تصحيحية قام بها الميقاتي في الجامع الأموي بدمشق، ابن الشاطر الدمشقي، لينتهي كل هذا العمل الفذ على يد كوبرنيكوس الذي أعلن عن انتقال مركزية الأرض في الكون إلى مركزية الشمس، مما أدى، ليس فقط إلى ترميم نسق بطلميوس، بل نسفه من أساسه. وبذلك كان الفلك العربي هو المخاض الذي أنجب الثورة الفلكية الحديثة.
علم الضوء
العمل الآخر الذي أرسى فيه ابن الهيثم أسس ثورة علمية أخرى أودعه في كتابه (المناظر). وليس أدلّ على أثر هذا الكتاب حتى بعد تأليفه بألف سنة من احتفال منظمة اليونسكو عام 2015 به، أو بمناسبة مرور 1000 سنة على تأليفه، واعتبروا عام 2015 السنة الدولية للضوء والاحتفال بالحسن ابن الهيثم. وقد كان لنا الشرف بالمشاركة في هذه المناسبة ونشر كتاب (ابن الهيثم دليل بيبلوغرافي وبحوث مترجمة) بالتعاون مع معهد المخطوطات العربية التابع لجامعة الدول العربية.
وقد يتساءل البعض ماذا فعل ابن الهيثم في هذا الكتاب حتى يستحق كل هذا الاحتفاء به بعد ألف سنة من تأليفه؟
الجواب يكمن في عملية التأسيس والتأصيل التي أرساها وجعلنا ننطلق منها للكشف عن أسرار واحد من أكثر ألغاز الطبيعة غموضاً؛ إنه (الضوء) الذي نتمكن من خلاله رؤية العالم بحاسة البصر.
وكان لهذا التأسيس تداعياته البنّاءة على مسيرة الأبحاث العلمية اللاحقة أيضاً، لكن هذه المرة ليس على يد العلماء العرب والمسلمين، وإنما على يد العلماء الأوربيين؛ فعندما أراد آينشتاين تفسير الظاهرة الكهروضوئية التي تعمل وفقها الآن الخلايا الشمسية، حيث يسقط عليها ضوء فتعطينا كهرباء، ارتكز إلى نظرية ماكس بلانك في تكميم الطاقة، لماذا؟ لأنه وجد أن النظرية الموجية لتفسير الضوء التي تفسّر الانعكاس والانكسار والتداخل لا تصلح لتفسير هذه الظاهرة.
بمعنى آخر لا يمكن للضوء وهو في حالته الموجية أن يولّد إلكترونات وتيارا كهربائيا، وإنما عندما يسلك الضوء سلوك جسيم (أسماه فيما بعد بالفوتون) يمكن تفسير هذه الظاهرة، فوضع المعادلات الناظمة والضابطة للمفعول الكهرضوئي وحصل على جائزة نوبل لذلك عام 1921.
وحاليا يتجه العالم نحو الطاقات الصديقة للبيئة ومنها الطاقة الكهربائية التي تنتجها الخلايا الشمسية. لكن هل كان بإمكان آينشتاين أن يقترح تفسيراً لهذه الظاهرة لولا تجاوز التأسيس الذي بناه نيوتن وغيره من علماء الفيزياء الأوروبيين على أعمال الحسن بن الهيثم؟ بالتأكيد لا، وهذا ما يفسر لنا مقولة المؤرخ ماسينون السابقة.
بعد أن فرغ نيوتن من دراسة الجاذبية وقوانين الحركة، وجد أنه شغوف بعلم الضوء والبصريات، فطلب إلى أستاذه إسحاق بارو أن يرشده إلى المرجع الأساسي في علم الضوء، فقال له: عليك بكتاب (المناظر) لابن الهيثم، الذي كان مترجماً حينها للغة اللاتينية. فاطلع عليه نيوتن ووضع (رسالة في البصريات)، وانطلق البحث الأوروبي في مجال الضوء من جديد.
نتلمس من ذلك كله أن مراجعة تاريخ الأفكار العلمية، وتحديد مواطن الخطأ والصواب فيها، أمر لا بد منه حتى ينجح أي مشروع بحثي علمي معاصر.