علم الأعصاب الجنائي
د. رضا عبد الحكيم إسماعيل رضوان
تعد خاصية منظومة «وعي الإنسان» من أهم الموضوعات التي يتناولها علم الأعصاب، فمن خلال فرضياته يمكن محاكمة مدى إدراك الإنسان واختياره لتصرفه وسلوكه، فحيث يكون الشخص مدركاً لأفعاله مختاراً إياها، فإنه يصير مؤهلاً لتحمل تبعاتها، وهذا هو أساس المسؤولية الجنائية للأفراد عن أفعالهم الإجرامية في القانون الجنائي.
وهناك صلة وثيقة بين وعي الإنسان ومسؤوليته عن تصرفاته، وعلم الأعصاب يمكنه تأكيد هذا «الوعي» أو نفيه، ولهذا انعكاسه في مواد الأدلة الجنائية، وهي علم مختص بتقييم الموقف الجنائي للفرد حينما يثار موضوع مسؤوليته جنائياً، إذ يقدم هذا العلم دليل الإدانة أو دليل البراءة، من هنا صار لعلم الأعصاب أهميته في مجال الدراسات الجنائية. وباستخدام أدوات علم الأعصاب ومفاهيمه يمكن تقديم رؤية واقعية حول وعي الإنسان ومدى إحاطته بتصرفاته، فهناك دراسات متميزة لعلماء الأعصاب تظهر مستجدات مهمة تفيد علم الأدلة الجنائية.
يمكن تقسيم أحدث تطبيقات علم الأعصاب في المجال الجنائي إلى قسمين؛ الأول: يتطرق إلى مدى قبول نتائج تقنيات بحث الحالة الذهنية للمتهمين الجنائيين أو الشهود، ومدى حجيتها أمام القضاء، والثاني: يتصل بتقييم المسؤولية الجنائية عن الجرائم التي ترتكب أثناء النوم.
تقنيات البحث في الحالة الذهنية
يستخدم العلماء طرقاً متطورة للتصوير، يطلق عليها تقانة مسموح الدماغ brain scans. وتبدو أهمية هذه المسوح في أنها تقدم الدليل الجنائي إضافة إلى الأدلة العصبية الأخرى في مواد الإسناد الجنائي لتقرير مسؤولية الشخص من عدمها. ففي ضوء نتيجة مسوح الدماغ تتضح الحالة الذهنية للمتهم من ناحية، أو مصداقية الشاهد من عدمها من ناحية أخرى.
ويدرس علم الأعصاب مفاهيم عدة مثل كيفية تشكل الذكريات الزائفة وطبيعة الإدمان، وكيفية تنظيم الدماغ للسلوك، لذا تظهر أهمية النتائج عند الفصل في جرائم مثل الاتهام بالقيادة تحت المؤثرات العقلية. وبواسطة تقانة مسوح الدماغ تمكن العلماء من إمعان النظر إلى داخل الدماغ الحي، وتوصلوا إلى تمييز أنماط النشاط الدماغي، التي ترتبط بسلوكيات وطرق تفكير معينة، واستنتجوا من هذا قابلية ربط نشاط الدماغ بالحالات الذهنية، لتؤدي بالتالي دوراً رئيسياً في تقرير ما إذا كان لدى المتهم سيطرة على أفعاله، ويعكس ذلك – بلا شك – التقرير بالمسؤولية الجنائية أو نفيها، فحيث يكون للمرء سيطرة على أفعاله أولاً، فإنه يصبح مؤهلاً لتحمل تبعات تصرفه فيساءل جنائياً ويستحق العقوبة، والعكس صحيح حينما لا يملك الشخص السيطرة على ما يفعل.
مسوح الدماغ والدليل الجنائي
تبدو أهمية مسوح الدماغ في إفراز صور عدة تصف حالة دماغ الشخص، وهو ما دعا بعض هيئات الدفاع عن المتهمين في بعض الأنظمة القضائية، كما في الولايات المتحدة، إلى التمسك أمام القضاء بقبول نتائج مسوح الدماغ كأدلة توضح – مثلاً – ما إذا كان المتهم غير مذنب بسبب الجنون، أو أن شاهداً ما يقول الحقيقة. بيد أن الأمر – طبقاً للقانون الأمريكي – يعد مسألة تقديرية للقضاة، ولا يزيد دور نتائج تلك المسوح عن مجرد قرينة تحتاج إلى دليل دامغ.
ودلت سوابق القضاء الأمريكي على عدم التعويل على نتائج مسوح الدماغ، بحجة أنَّ العلم لا يدعم استعمالها كأدلة لأي حالة سوى حالة إصابة الدماغ بالأذى العضوي. هذا في الوقت الذي تمارس فيه هيئات الدفاع الضغط على القضاء لاستخدام مسوح الدماغ لإثبات أن لدى المتهمين – في بعض الجرائم التي يتولون الدفاع فيها – اضطراباً فكرياً أوعاطفة معينة كاختلال التقدير flawed judgment أو ضبط النزوات impulse control. لكنْ، وفي الوقت الحاضر على الأقل، فإنَّ معظم القضاة والباحثين متفقون على أنَّ العلم ليس متطوراً بشكل كاف للسماح بتلك الاستعمالات.
تصوير الرنين المغنطيسي الوظيفي
تقدم تقانة التصوير هذه مثالاً على طريقة يمكنها تقديم معلومات علمية جيدة، غير أن القليل منها هو الذي يحظى بالقبول قانوناً. هذه التقنية مفضلة لدى الباحثين الذين يتقصون أي جزء من الدماغ ينشط خلال الأفعال المختلفة، كالقراءة أو التحدث أو أحلام اليقظة. غير أن هذه التقنية لا تقيس انقداح الخلايا الدماغية the firing of brain cells مباشرة، بل تقيس جريان الدم الذي يظن أنه يتناسب – إلى حد ما – مع نشاط الخلايا العصبية. إضافة إلى ذلك، لتحديد الإشارة الصورية المرتبطة بنموذج معين من النشاط الدماغي يضطر الباحثون عادة الى أخذ المتوسط لعدة مسوح من عدد من الأشخاص المشاركين في الاختبار، والذين يمكن لنمط دماغ كل منهم أن يختلف بشكل واسع عن الآخر. وقد تبدو صورة الرنين المغنطيسي لمتهم معين مختلفة بشكل كبير عن قيمة المتوسط المقدمة إلى القضاء، لكنها قد تبقى ضمن الحدود الإحصائية لمجموعة البيانات التي تم حساب ذلك المتوسط منها.
إضافة إلى ذلك، لا يعرف العلماء – ببساطة – مدى التغيرات السوية في الشكل التشريحي للدماغ ونشاطه في مجموعة السكان (أو في مجموعات جزئية منها). لذلك، فإن عرض مسح دماغ لمتهم معين من دون بيانات من مجموعة مناسبة للمقارنة قد يؤدي إلى صعوبة الاعتماد عليها في إسناد التهمة.
تقنيات كشف الكذب
في مطلع القرن العشرين، ابتكرت آلة البوليغراف Polygraph التي تقيس ضغط الدم والنبض والناقلية الكهربائية للجلد وأي إثارة فيزيولوجية أخرى، حيث انتهى مخترعها، وهو عالم النفس مارستون، إلى أن هذه الآلة تستطيع تحديد ما إذا كان الشخص كاذباً، وهو ما أحدث جدلاً في الأوساط القانونية، إذ لم تقبل المحاكم الأمريكية ما تنتهي إليه الآلة من نتائج. وعلى الرغم من ذلك فقد ظهرت تقنيات أخرى تعتمد على تصوير الدماغ مستهدفة كشف حالات الذهن التي تعكس سلوكاً صادقاً. لذا يتوقع بعض الباحثين أن تعتمد المحاكم مثل هذه التقنيات في المستقبل.
من هذه التقنيات الجهاز (FMRI) الذي يستخدم لوغاريتمية تحليلية معقدة تسمى مصنف الأنماط patterns classifier، حيث يمكن تحديد ما إذا كان شخص ما يتذكر شيئاً، لكنه لا يستطيع تحديد ما إذا كان محتوى ذاكرته المكتشفة حقيقياً أو تخيلياً.
وبعبارة أخرى؛ يمكن استعمال الجهاز FMRI لكشف ما إذا كان الأفراد يعتقدون أنهم يتذكرون شيئاً، ولكن لا يمكن القول ما إذا كان هذا الاعتقاد صحيحاً أم لا. ويستنتج الباحثون أن طرائق الجهاز يمكن أن تصبح فعالة في نهاية الأمر في كشف الكذب، ومع ذلك فهناك حاجة إلى مزيد من الدراسات في هذا المجال.
وهناك تجارب أخرى استهدفت طبيعة الصدق، أجراها الباحثون في جامعة هارفارد عام 2009، وقد اعتمدت هذه التجارب على طريقة التصرف حيال مواقف انفعالية، باستخدام جهاز ماسح، بيد أنها لم تقدم دائماً أدلة موثوقاً بها على الصدق.
وعلى الرغم من أن السائد لدى القضاء هو عدم الأخذ بنتائج اختبار كشف الكذب؛ فإن بعض الباحثين تمسكوا بحجية النتائج، إذ بلغت نسبة 60 درجة من الدقة على زعم أن ذلك يثير قدراً معقولاً من الشك حول الإدانة أو البراءة.
وتصدى أخيراً قضاة المحكمة بولاية تينسي الأمريكية لتقييم نتائج تم التوصل إليها باستخدام جهاز FMRI لكشف الكذب مقررة أن النتائج لا ترقى إلى أن تكون دليلاً، فالدليل، كما قالت المحكمة: «يجب أن يكون مسانداً لاقتراح Probative وليس داعماً لأفكار مسبقة».
وقد علل القضاء رفض الدليل لسبب يرجع إلى أن خبير الدماغ الذي أجرى اختبار كشف الكذب لم يتمكن من إخبار المحكمة ما إذا كان الجواب لأي سؤال معين هو صح أو خطأ. إذ إن الخبير شهد بأنه يستطيع فحسب القول ما إذا كان المتهم يصدق بشكل عام عن مجموعة الأسئلة المتعلقة بالقضية، وكان هذا غير كاف من وجهة نظر المحكمة للتسليم بالدليل المقدم في هذه القضية. ويؤكد الباحثون أن النتائج المستمدة من جهاز كشف الكذب، إذا كانت محددة على نحو دقيق، يمكن أن توضح ما إذا كان المتهم مخادعاً أو لا بشكل عام.
فعلم الأعصاب من زاوية قدرته على تقدير الصفات الشخصية والصدق بشكل عام للمتهمين؛ يمكن أن يسبر صدقهم في أي أمر معين، مما يجعل هناك فائدة أمام القضاء في تقييم الموقف الجنائي.
تقانة التصوير المؤثر الانتشاري
معلوم أن صغار السن (الأحداث) يعانون نقصاً شديداً في النضج والمسؤولية؛ وأن هذه الفئة أكثر تأثراً بالتأثيرات السلبية، وليس لديهم الحرية الكاملة لإخراج أنفسهم من المواقف السيئة، وأن شخصية الحدث أقل تشكلاً من شخصية البالغ. من هنا أخضع القانون الأحداث لمعاملة جنائية خاصة، فلا تطبق عليهم عقوبة الإعدام أو السجن مدة طويلة، وتطبق عليهم تدابير إصلاحية أو تهذيبية بحسب نوع الجريمة وجسامتها. وهذا ما تطرقت إليه المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية في إحدى القضايا التي طعن فيها عام 2005. إذ رفضت المحكمة تطبيق عقوبة إعدام شخص لم يبلغ 18 سنة، وهي السن المقررة لاعتبار الشخص بالغاً رشيداً كامل الأهلية الجنائية.
وابتكر علماء الأعصاب في جامعة إيموري تقانة التصوير المؤثر الانتشاري DTI) (Diffusion tensor imaging، وذلك لاستقصاء «ما إذا كانت النزعة التي لا تقبل الجدل لدى الأحداث بالانخراط في سلوك خطر ناجمة عن عدم النضج في نظم إدراكهم التي تنظم الاستجابات العاطفية». وبتطبيقهم التقانة (DTI) لفحص حزم المادة البيضاء التي تربط مناطق التحكم المختلفة في القشرة الدماغية لدى 91 مراهقاً، جاءت النتيجة مثيرة للدهشة، وهي أن الذين انخرطوا في سلوك خطر، بدت لديهم حزم أكثر شبهاً بتلك التي لدى البالغين مقارنة بالتي لدى أقرانهم الذين ابتعدوا عن السلوك الخطر، الأمر الذي يفتح الباب لإعادة النظر في تحديد المعاملة الجنائية للأحداث، وأن يتم مساواتهم بالبالغين في مواد العقوبات الجنائية، على خلاف ما ذهبت إليه المحكمة العليا في حكمها المذكور آنفا. وهذا يعني ضرورة تعديل قانون العقوبات ذاته.
طب النوم الجنائي
من الحالات التي يدرسها علم الأعصاب «السير في أثناء النوم»، والمصاب بهذه المتلازمة يخضعه الخبراء لإجراء تخطيط كهربائي لدماغه ليلاً، ودراسة الموجات الكهربائية الصادرة عنه في أثناء نومه، وذلك لتقرير العلاج المناسب له، وغالباً ما يكون أحد مضادات الاكتئاب.
وثمة فرضية مهمة هي أن النائم تنتفي عنه صفتا العلم والإرادة، وبالتالي لا مجال للتقرير بأهليته الجنائية حتى يسأل عن فعله، وبالتالي يعاقب عليه، ولقد كانت معضلة ارتكاب جرائم أثناء النوم مثار جدل في ساحات القضاء الأمريكي، إذ إنه إذا تم إثبات نوم الجاني أثناء جريمته؛ فإن القضاء يلتزم ببراءته منها.
وأولى وقائع «الجرائم في أثناء النوم» نظرها القضاء الأمريكي في عام 1846، ضد شخص قتل مومساً بقطع رأسها بموسى حلاقة. كما نظر القضاء الكندي جريمة شاب قاد سيارته 14 ميلاً وقتل حماته، وزعم أن كل ذلك جرى لاشعورياً في أثناء نومه، وبناء على ذلك تمت تبرئته.
وقد وثقت مجلة علم الأعصاب قبل ثلاثة أعوام21 حالة من الجرائم المرتكبة أثناء النوم، قضي ببراءة المتهمين في ثلث عددها تقريباً. ومعظم القضايا التي حكم فيها بالبراءة، كانت جرائم العنف غير القاتل والسلوك الجنسي وغيرهما من الأفعال غير المشروعة في أثناء النوم. وتقول الإحصاءات: إن نحو 40 مليون أمريكي يعانون اضطرابات النوم، وقد تبين في استطلاع أجري في أواخر التسعينيات من القرن الماضي أن شخصين من كل مئة شخص قاما بإيذاء نفسيهما أو غيرهما في أثناء النوم.
وسجل المجتمع العلمي بزوغ هذا التخصص العلمي الفريد؛ طب النوم الجنائي Sleep forensics Associates، وهو يمثل فرعاً من الطب الشرعي، ينهض باختباراته مكتب تحريات جنائية علمية، تأسس في الولايات المتحدة عام 2006 بمعرفة رابطة من الخبراء البارزين عالمياً في مجال خطل النوم non – rapid eyes movements parasomnia (REM)، وهو مصطلح تحت السلوكيات غير المرغوب فيها في أثناء النوم. ويعد مكتب التحريات تقارير استشارية بناء على طلب هيئات الدفاع أو القضاء الجنائي، تتناول الرأي العلمي من خلال تحليل الجرائم التي تقع أثناء النوم، بالاستعانة بأدوات ومفاهيم علم الأعصاب والعلوم الأخرى ذات الصلة.
ومعروف أنَّ من حقائق النوم الأساسية وغير القابلة للنقاش أن الشخص إما أن يكون نائماً أو مستيقظاً. ويقسم العلماء حالة اللاوعي إلى دورات نوم ذات حركات عينية سريعة، وأخرى ذات حركات غير سريعة، ويقسمون الأخيرة إلى ثلاث مراحل جزئية، إلا أنَّ معظم العلماء الذين درسوا سكينة الإنسان مدة تزيد على قرن، يدعمون إجمالاً المفهوم القائل إن النوم واليقظة هما حالتان متمايزتان تفصل بينهما حدود معروفة تماماً.
ويقرر علماء طب النوم، أنه حدثت في العقدين الأخيرين ثورة في علم النوم، وذلك بظهور نظريات ومفاهيم جديدة، تنعكس مستجداتها وفرضياتها في كشف الصلة بين اضطراب النوم والجريمة، حيث استعان العلماء بنظرية النوم الموضعي Local sleep theory التي وثقت علمياً في عام 1993، والتي ترى أنه: «يمكن لأجزاء من الدماغ أن تكون نائمة، في حين تظل أجزاء أخرى منه منتبهة». فإذا كانت هذه النظرية صحيحة، فإنها ستساعد على تفسير قيادة الناس لسياراتهم على نحو أقل أماناً عندما يكونون متعبين، كما أن هذه النظرية يمكن أن تفسر التهيج الجنسي في أثناء النوم لدى الذين يداعبون أزواجهم أو أولادهم وهم غير واعين.
ويمكن لهذه الرؤية الجديدة كما يؤكد علماء الأعصاب أن تفسر سبب إمكان ارتكاب بعض الأشخاص جرائم خطرة في أثناء النوم، منها الاغتصاب أو حتى القتل، وإن كان ذلك في حالات نادرة. وحينما يتيقن القضاة ويقتنعون بهذه الكشوف العلمية المتميزة، سيصبح للدليل المستمد من خلال فرضيات علم الأعصاب، حجيته في إثبات التهمة أو نفيها.